بحـث
المواضيع الأخيرة
ابعاد النمذجة ابراهيم القمودي
صفحة 1 من اصل 1
ابعاد النمذجة ابراهيم القمودي
أبعـــاد النمذجة
إبراهيم قمودي
البعد التركيبي للنمذجة النسقية:
يبدو أن النمذجة النسقية كممارسة علمية تتقدم كحل لمجموعة من الصعوبات التي اعترضت العلماء في تفسيرهم للظواهر، صعوبات تتعلق بأزمة أسس الرياضيات، أزمة الحتمية في الفيزياء، فهذه الصعوبات أدّت إلى انهيار اليقين العلمي وتفكيك العقل العلمي، بالإضافة إلى الوعي بالطابع المركب للظواهر والذي رافق ظهور علوم جديدة، علوم تطبيقية كالسيبارنيتيقا وعلوم الهندسة والإعلامية، كلّ هذه العوامل أدت إلى ظهور النمذجة باعتبارها الحلّ لاستعادة ضرب من الثقة في العلم الذي برهن على قصوره على تناول الظواهر اللامتناهية في التركيب وفق البراديغم الكلاسيكي الوضعي الذي تمثل في النمذجة التحليلية. والنمذجة النسقية كحلّ لدراسة اللامتناهي في التركيب تتقدم هي ذاتها كمنهج مركب، منهج فيه أبعاد مختلفة وكل بعد يتضمن عناصر مختلفة وعموما تقوم النمذجة على الدراسة النسقية للتوافق بين أبعاد ثلاثة :
* البعد التركيبي: يشمل كل ما يتعلق بالعناصر الأولية كالأرقام والرموز وقواعد تنظيم هذه الرموز في علاقات بالإضافة إلى الصيغ والقضايا.
* البعد الدلالي: يشمل كل مضامين القواعد وما يعطي معنى للنسق وبالتالي مختلف التأويلات.
* البعد التداولي: يتحرّك ضمن مسار إدماجي للمعرفة والممارسة ويتعلق بالتعديلات التي تجرى على النسق ووظائف النماذج المختلفة بالإضافة إلى التمثيلات التي ينتجها النموذج.
ويجب أن نلاحظ أن هذا الفصل بين هذه الأبعاد الثلاث ليس إلا فصلا إجرائيا يرتبط بديدكتيك التعليم، ذلك أن هذه الأبعاد الثلاثة تتداخل في ما بينها وتمثل بنية على المنظّم أن يأخذها في كلّيتها بما هي تعبير على نموذج واحد يتحدد هو ذاته كبنية.
ومن هذا المنطلق يحدد "بياجي" J.Piaget البنية باعتبارها الشكل المُلاحَظ والقابل للتحليل الذي تتخذه عناصر موضوع مادي، فهي الطريقة التي يتقدم وفقها مجموع محسوس في الفضاء. يتعلق الأمر إذن بالأجزاء وتنظيم هذه الأجزاء، فالبنية هي كلّ يتكون من عناصر ومن شبكة علائقية بين هذه العناصر تتعلق بالتكوّن أو البناء و السياق و تموضع العناصر وشكلها. لذلك ينسب "بياجي" للبنية ثلاث خصائص، الخاصية الأولى تتعلق بالكلية من جهة كون البنية كلّ، و الخاصية الثانية تتمثل في التحول من جهة كون البنية لها طابع ديناميكي، والخاصية الثالثة هي الانتظام الذاتي من جهة كون البنية تشتغل بطريقة مستقلة عن المنظر. وهذا يعني أن المنظر لا يتدخل فعليا في البنية. و لكن رغم كون البنية مستقلة على عمل المنظر فإنها تساعده على الصورنة كلحظة أساسية في انتاج النموذج. ذلك أن الصورنة هي العملية المعرفية التي تحوّل بمقتضاها فعل أيّ نسق عيني إلى صورة أي نسق مجرّد والعملية المعاكسة أي التحوّل من النسق المجرّد إلى النسق العيني تتمثل في التأويل. ويلاحظ "لادريار" J.Ladriere أن الأنساق العينية والأنساق المجرّدة تمثل نظما رمزية بما هي اصطناع عقلاني يشتمل على أشكال يمكن أن تـُستخدم في صياغة تمثلات لأيّ وسطٍ يسعى نظام الرموز إلى التلاؤم معه، إذ يسمح له بنمذجة هذا الوسط وعقلنته. والصورية هي نظام رمزي من القواعد التي تمكّن من التحول من التجارب إلى المعارف، وهو ما يعني أن الصورية هي كل نظام علامات ناتج عن الصورنة. لكن لا يجب أن نفهم من ذلك اختزال الصورنة في الترييض وبالتالي اختزال الصورية في الأنساق المنطقية الصورية، ذلك أن الصورنة تحضر بشكل متفاوت في النمذجة إذ يمكن أن تتخذ شكلا أكسيوميا صرفا إذا كان الموضوع المنمذج قابل للمقاربة الكمية الصرفة، كما يمكن أن تتخذ شكلا شبه أكسيومي إذا كان الموضوع لا يخلو من أبعاد كيفية نوعية. خاصة و أن الترييض في النمذجة التحليلية يحضر بشكلين مختلفين، إمّا في شكل استخدام الرياضيات كأداة من خارج العلم لصياغة القوانين وإما باستخدام المنهج الرياضي ذاته أي المنهج الفرضي الاستنتاجي، و هو ما يعني أن العلم الحديث هو ابن الرياضيات كما بين ذلك هنري برقسون H.Bergson و أيضا ألكسندر الكويري A.Koyré عندما حلل الثورة العلمية الحديثة وأعلن أن ولادة العلم الحديث حصلت عبر القطع مع التفسير النوعي الأرسطي و تعويضه بتفسير كمي، أي أن النشاط العلمي يتمثل في مجهود تعويض المعرفة النوعية بالحواس و الإحساس بمعرفة كمية قابلة للقياس. و إذا كان الوصف النوعي يكتفي بوصف المظهر الفيزيائي، بحيث يكتفي مثلا بوصف المنحي فإن الوصف الكمّي يحلّل المعادلة الرياضية التي تدبّر المنحى، ذلك أن النوعية تشير إلى ما لا نستطيع التعبير عنه بلغة كمية ولا حتى بعلاقات عقلية محدّدة، فالظاهرة النوعية ترتبط بالمظاهر الحسية للإدراك التي لا تتعلق بتحديدات ميكانيكية وهندسية و إنما تدرك بحدس شامل و على شأن ذلك بالذات أقصاها العلم من دائرة اهتمامه. ويبدو أن إقصاء الجانب النوعي من العلم ضيق مجال المعرفة العلمية و مثل أحد الصعوبات التي أظهرت نقائص العلم الحديث أو ما يسمّيه "لوموانيو" بالنمذجة التحليلية، وهذا يعني أن مزية النمذجة النسقية تتمثل في تجاوز التضييق الكبير لمجال امتداد العلم باسم الترييض والتكميم كشرط ضروري للمعرفة العلمية ويكون ذلك عبر توسيع دائرة العلم لتشمل مالا يمكن الحديث عنه في لغة كمية رياضية صرفة. لذلك فإن الصورنة رغم كونها لا تـُختزل في الترييض تقتضي أوّلا الصرامة العقلية التي لا يجب فهمها مثلما بين ذلك "هيربارت سيمون" H.Simon باعتبارها مشابها للنموذج الذي يستعمل الرياضيات التقليدية في النمذجة التحليلية، فالصّرامة تُؤخذ هنا على انتساب التمشي الفكري لنسق أوّليات لذلك فإن الهدف الأساسي لكلّ صورنة يجب أن يكون إبانة الأوّليات أو القواعد المتواضع عليها والتي تقود كلّ عملية نمذجة، والصرامة العقلية كشرط للصورنة تجنّب النمذجة النسقية ظنّة الإبستيمولوجيا الوضعية. كما تقتضي الصورنة خاصية إمكان الصنع إذ يجب أن تكون عملية قابلة للتحقيق واقعيا وكونيا، وبهذا المعنى فإن النمذجة النسقية تمكننا من صورنة ما كان غير قابل للصورنة في النمذجة التحليلية وذلك في شكل توثيقي لمعارف رمزية تتعلق بتجارب مدركة أو قابلة للإدراك بإنتاج علاقات عقلية محدّدة من قبل فاعل منمذج لفعله الخاص. وهذا النوع من التمثل للظواهر لا يدّعي أنه يقدّم الوصف التام للظاهرة المدروسة إذ أنه تمثل اصطناعي وتليلوجي Téliologique، بما أن هذا البعد الغائي يمكّن من اكتشاف حلول في المدى القريب ولكن خاصة في المدى البعيد، و تمثل مركب ومع ذلك قابل للتعقل مما يعني أن التمثل الذي تقدمه النمذجة النسقية لا يدّعي فصل الصورنة على التأويل، ذلك أن النموذج ينشأ بفعل عملية تبسيط متعمّد، وهو تبسيط لأنه يختار بعض مظاهر الواقع المدروس ويهمل أخرى، ومتعمّد لأن المنمذج يعلم مسبقا أن النموذج الذي ينتجه لا يدّعي مطابقة الواقع المدروس في كلّ الظروف وفي كلّ جوانبه، إذ لا يجب أن ننسى أن النموذج هو قبل كل شيء إنشاء فكري فالنموذج هو نظام علامات ليّن يمكّن من اعتبار أغلب الادراكات التي بحوزتنا عندما نريد وصف ظاهرة ملاحظة أو متخيلة بُغية تأويلها ذهنيا. ومن هذا المنطلق فإن النمذجة تفتح مجالات واسعة أمام البحوث العلمية دون أن تلزم التمثل بلغة مغلقة إذ يمكن التعبير عن النموذج كتمثل لظاهرة ما في لغة خطابية أدبية أو في تصاميم أو في رسوم بيانية بالإضافة إلى اللغة الرياضية ومن هذا المنطلق يمكن أن نميّز بين نوعين من النماذج:
* نماذج مادية: تترجم نسقا معينا من الظواهر العينية التي يغلب عليها الطابع النوعي بما أنّ بعض الخصائص المادية كالأشكال والألوان والروائح... يصعب التعبير عنها في صورة مجرّدة.
* نماذج رمزية: تترجم النسق في لغة مجرّدة ويجب أن نلاحظ أن هناك أيضا بعض الخصائص المجرّدة التي يصعب تجسيدها في مقابل مادي يماثلها.
ولكن هذا التصنيف لا يعني القطيعة بين نوعيْ النماذج إذ يجري المرور تدريجيا من النموذج الرمزي إلى التصميم ومن التصميم إلى النموذج الرمزي فكلّ نموذج رمزي يحافظ على سند مادّي، وكل تصميم لا يخلو من قدر من التجريد برغم غياب التوافق الكلي بين النموذج المادي والنموذج الرمزي بما أنّ بعض الخصائص المادية يصعب التعبير عنها في أشكال مجرّدة وبعض الخصائص المجرّد يصعب تجسيدها في مقابل مادي يماثلها مثلما أسلفنا الذكر. والمرور من المادي إلى الرمزي أو إن شأنا من المحسوس إلى المعقول ومن الرمزي إلى المادي، أو من المعقول إلى المحسوس هو ما يعبّر عنه "سيمون" بقوله: "لقد نقلت الحواسيب نـُظـُمَ الرموز من الجنة الأفلاطونية للمثُل إلى عالم خبري للسيرورات الواقعية المتحققة عن طريق آلات و عن طريق هذه الأدمغة أو بالاثنين يعملان معا"، ذلك أن الذكاء الاصطناعي يمثل آلية تسهل على المنمذج المرور من الصورية المجرّدة للتمثل الذهني إلى تحسيس و تلميس هذا التمثل افتراضيا بواسطة الحاسوب الذي يسمح بإيجاد مقابل مادي يماثل الخصائص المجرّدة التي يصعب تجسيدها في الواقع الفعلي. وهكذا فإن إنتاج النماذج يتقدم في شكل اكسيومي أو شبه اكسيومي بحسب درجة الصورنة، و هذا يعني أن الأكسيومية، كضرب من العرض للعلوم الصحيحة مبني على قضايا افتراضية يسلّم بها تسليما دون برهان وهي القضايا التي تُسمّى الأوّليات التي تكون مصاغة بدقة وتؤدي إلى استدلالات صارمة، هي إذن ما يمكن الصورنة من تحقيق شرط الصرامة الذي تقتضيه، ذلك أنّ الأكسيومية تبدأ بجرد كامل الأوليات أي كلّ القضايا التي نسلّم بها دون برهان، واكتشاف هندسات لاإقليدية في القرن 19 يبين لنا خاصية التجريد والاعتباط للأكسيومية كما بين لنا أن هناك رابط هام بين الأكسمة والصورنة، فالأكسمة تمكن المنمذج من بناء أنساق متكاملة من المفاهيم والعلاقات مما جعل "باشلار"يعتبر أن القطيعة الابستيمولوجية بين التجربة المحضة والأكسمة تمرّ عبر لعبة صورية. والنمذجة كممارسة علمية موحّدة للنشاط العلمي بما تسمح به من تعاون بين مختلف الاختصاصات العلمية وباستخدامها للعلوم الإعلامية مكنت العلم من إطار جديد للتجريب الافتراضي Experimentation Virtuelle كما مكنته من استخدام لغة اصطناعية مفتوحة تخضع عناصرها للظواهر المنطقية في بناء أكسيومي أو شبه أكسيومي بحسب درجة حضور الرياضيات ذلك أن طبيعة اللغة المستعملة هي التي تحدّد درجة الصورنة. وهكذا يمكن القول أن مقاربة البعد التركيبي للنمذجة توضّح لنا الشروط الابستيمولوجية لتأويج فعالية النموذج وتأويج امكانية اشتغاله وبالتالي تمكننا من التحكم في المصاريف وتأمين مقاربة الظاهرة المدروسة وهذه الشروط يمكن أن نلخصها في النقاط التالية:
* التماسك Consistance: بمعنى أن يكون النموذج خال من كلّ تناقض وهو شرط تجعله الأكسمة ممكنا.
* التمامُ Complétude: بمعنى أن لا يتضمّن النموذج قضايا لا تقبل البرهنة أو الدحض.
* الثبات : بمعنى أن تكون قضاياه ملائمة لكل المتغيرات الممكنة.
* الإشباع Saturation: بمعنى أن لا يحتاج النموذج إلى استخدام مصادرات إضافية من خارج النسق.
* القطعية Décidabilité: بمعنى تضمّن النموذج لإجراءات تسمح بالحكم على قضية ما بكونها صحيحة أو خاطئة.
* الاستقلالية Indépendance: بمعنى ألاّ يتضمّن النموذج أوّلية يمكن استنباطها من بقية الأوّليات.
لكن إذا كانت النمذجة تهدف أساس من جهة طابعها التليلوجي إلى اصطناع استراتيجيا للفعل، وإذا كان النموذج ليس تركيبا لأشياء ثابتة وإنما هو تركيب تمثلات فعل تمكن من تقييم نوايا الفعل الممكنة وبالتالي تحديد قواعد الفعل فماذا يمكن أن نقول عن علاقة هذا النموذج المبتكر بالواقع؟ هل يمكن أن نتحدّث عن الواقع بطريقة موضوعية؟ و هل تسمح لنا النمذجة النسقية بالقبضة على الواقع؟
البعد الدلالي للنمذجة النسقية :
يقول برونو جاروسون في كتاب "دعوة إلى فلسفة العلوم" : «إن الواقع لا دلالة له في ذاته. وفي مقابل ذلك من المهم أن نتبين أن الواقع له دلالة وله معنى أيضا». ذلك أن الإنسان في حاجة إلى تمثل الواقع ليضفي عليه دلالة وحتى يصبح معقولا بالنسبة إليه. والبعد الدلالي للنمذجة النسقية يتعلق بهذه الدلالة التي تبدعها النمذجة للعالم: إذ يتعلق الأمر بعلاقات العلامات الرمزية مع الواقع، ذلك أن تمثل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر، وإنشاء نسق صوري لنمذجة واقع ما ليس مجرّد لعبة مجانية نكتفي فيها بإنشاء رموز دون اعتبار ما يمكن أن تعبر عنه هذه الرموز والعلاقات القائمة بينها من مضامين ذات صلة بالواقع. هذا يعني أن الصياغة الصورية لا تكتسب قيمة علمية إلا بفعل تطبيقها في وضعيات تجريبية بواسطة تأويل الرموز المجردة وترجمتها في حدود فيزيائية. إذ أن النسق الصوري يعبر عن بنية واقعية، ولذلك لا بدّ من تحقيق ضرب من التلاؤم بين المعطيات الصورية للنسق المدروس وبين المعطيات الخبرية التي تنتظم وفقها الموضوعات العلمية المعتبرة. وهذا التلاؤم يقوم على مجموعة من القواعد وكلّ ما يتعلق بهذه القواعد يشكل البعد الدلالي أي النموذج بما هو تأويل. يتعلق الأمر إذن بلحظة التجريب التي تقتضي تأويلا عينيا وبالتالي فإن البعد الدلالي للنموذج يتحدّد بعلاقته التفاعلية بالنسق الذي يمثله وباعتبار المسافة التي تفصلهما بهدف جعل النموذج أكثر ملاءمة. إن تمثل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر و الأهمية التي نوليها لميدان خصوصي لهذا الواقع. و النموذج هو وليد ثلاث سيرورات, متنافرة و متكاملة، فمن جهة كل ما ندركه و نتصوره يمر بالضرورة عبر سيرورات تماثلية وافق صورية منطقية. إن المعايير العلمية المتعلقة بالاختصاصات و المشروطة باعتبار أو باختراع حقول اختصاصات جديدة, و بالتشابه و التنافر بين النماذج، تحدد السيرورات المنمذجة. ويمكن أن نلاحظ نوعا من التشابه الصوري بين العلوم الهندسية والعلوم الاجتماعية والإنسانية. ذلك أن النمذجة في العلوم الفيزيائية الكلاسيكية التي تعتبر علوما طبيعية، هي إعادة إنتاج مبسط ومماثل لخصائص الأشياء، والمثال الأكثر شهرة للمماثلة هو المماثلة النيوتنية بين حركة الشيء الذي يدور في طرف الحبل وحركة القمر حول الشمس. ولأن المماثلات تقتضي لغة وصف تمكن من إحلال تجانس النموذج الذي نريد إنتاجه، فإن الميكانيكا الكلاسيكية، استخدمت الرياضيات لتستجيب لهذا الاقتضاء العلمي. أما في النمذجة النسقية فإن وظائف التحويل الرمزية تتأسس في ذات الوقت تركيبيا و دلاليا، وتختلف بحسب طبيعة الضغوطات الخارجية. فنحن مثلا لا نستطيع التنبؤ بمسار الصاروخ الذي يتتبع آلة طائرة في الفضاء إلا بواسطة وظيفته التحويلية التي تتضمن مُعَدِّلات قادرة على المحافظة على ثباتية نسق التتبع عبر إضعاف التشويش الناتج عن الضغوطات. إذ أنه من الضروري إنتاج نوع من التدبير بين المنطقي والخبري في كلّ عملية صورنة. وبلغة أخرى يجب أن يكون هناك نوعا من التطابق بين الحكم التحليلي الذهني والحكم الخبري. ولكن الضغوطات التي ترتبط بالحكم الخبري ليس لها نفس خصائص الضغوطات التي ترتبط بالأحكام التحليلية فيما يتعلق بعلاقتهما الضيقة بالصورية المنطقية. وهذا التشنج يحيل في النهاية إلى ما يسميه J.L. Le Moigne "الأفق المورفولوجي". وهكذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التركيب اللامتناهية للظواهر المدروسة حتى نتمكن من نمذجتها بواسطة المقتضيات المنطقية والتماثلية والخبرية التي تستجيب للشروط العلمية. ونستطيع بالتأكيد ألاّ نعتبر إلا الجزء الأهم من الظاهرة المدروسة بالنسبة للهدف المراد تحقيقه، دون أن نسقط، مثلا في الفيزياء في البحث عن علاقات بين خصائص فيزيائية وأخرى كيميائية بين الذرات، وبالتالي نستطيع تحقيق تطابق شبه كامل بين وقائع الضغوطات الفيزيائية والوقائع الصورية المنطقي ـ رياضية، والخاصية التأليفية للتواصل بين حقول معرفية مختلفة تظهر بجلاء في علوم التصور مثل المعلوماتية أو صناعة الآلات الأوتوماتيكية. وهذا يعني أن النماذج يجب أن تكون نتيجة سيرورة بحث ولا فقط نتيجة تمثل نسقي لموضوع مثلما هو الشأن في الميكانيكا الكلاسيكية. ذلك أن المفترضات النظرية و بنى الضغوطات الخارجية الخبرية أو الملاحظة تمثل أحد خصائص السيرورة التماثلية. فمن جهة تأسس التماثلية الصورية تشابها وظيفيا وبنيويا بين النموذج وموضوع الدراسة، ومن جهة ثانية تصف التماثلية اللاصورية الخصائص المجرّدة والرمزية. واتصال هذه التمثلات يرتكز على وحدتها البنيوية والرمزية حتى تحقق اصطناعية مخصوصة، هي اصطناعية الفعل القصدي المرتبط بكلّ سيرورة نمذجة مثلما أقرّ ذلك Herbert A.Simon واصطناعية النموذج يمكن أن توصف وأن تفهم و أن يتنبأ بها. وهذا يعني أن ما وراء اختلاف النماذج هناك خاصية مشتركة: إن كل النماذج حاملة لمعلومات، حاملة لمعرفة، إنها تعبيرا في لغة ما أو صورنة ما عن رؤية معينة حول موضوع الدراسة، موضوع دراسة يمكن أن يكون موجودا بشكل سابق للنمذجة ونتحدث عندها عن نماذج وصفية modèle de description ، بما هي تجسيد لنظرية متعلقة بميدان موضوع الدراسة. كما يمكن أن يكون الموضوع نسقا في طور البناء والنموذج عندها يفصل تعييناته. ففي الحالة الأولى يعبر النموذج عن تفسير يتموضع في زمن معين وسجل ثقافي معين، لظواهر أو سلوكيات ملاحظة في موضوع الدراسة، بحيث يسند للميدان المدروس منطقا وتجانسا وربما حتى شرعية ومشروعية، إذ تتمثل وظيفته في توجيه أو تأطير فهم ميدان الدراسة. أما في الحالة الثانية فإنه يفصّل الاشتغال المنتظم للاصطناعي، إذ أن النموذج هو أداة تواصل يستخدمه مختلف المتدخلين في سيرورة تصور وصنع النسق-النتيجة. وفي كلتا الحالتين يتقدم النموذج كتمتل أمين على دلالة، كوسيلة تبادل وتقاسم للمعارف، إنه شكل يجسد موضوعا، يجسد شيئا له وظائف الانخراط والتواصل والدخول في المعنى، شيئا اصطناعي يبنى ويثبت بالنسبة لصانعه، وهو رسالة تنتظر حل شفرتها وفهمها بالنسبة للمتقبل، ذلك هو معنى قول لوموانيو J.L.Le Moigne :«نماذج ننشؤها ونمارس من خلالها البرهنة وتبادل الأفكار و نتمكن من جعل المغامرة المبهرة التي انخرطت فيها الإنسانية منذ نشأتها قابلة للفهم».
النمذجة تتمثل، إذن، في تجسيد منظور ما، نقل فكرة إلى شيء محسوس، أما التأويل فهو العملية المعاكسة إذ هو نقل لتمثل طبيعي مرمز إلى تمثل ذهني، وهذه السيرورة الثانية تقارب النموذج كمجموع تعيينات يتعلق الأمر في نهاية المطاف بإدماجها لتكون أكثر دقة بفضل إضفاء المعنى، ذلك أن النموذج مهما كان، يمثل في لحظة قراءته حامل معنى للبناء، حامل معرفة للاكتساب. و النموذج من هذا المنطلق الدلالي يجب أن يكون عاما، والتعميم كخاصية دلالية يقتضي توسيع مجال صلاحية النموذج، حتى نتحول من نموذج ذي صلاحية تتعلق بعدد محدود من الوضعيات الملاحظة إلى نموذج يشمل عددا لامحدود من الوضعيات الممكنة التي تؤكد صلاحية النموذج بما في ذلك الوضعيات التي لم يجر اختبار النموذج فيها. إذ لا يجب أن ننسى أن النظرية العلمية هي نموذج لطريقة التفاعل بين مجموعة من الظواهر الطبيعية، قادرة على التوقع بالأحداث المستقبلية وبملاحظات من نفس هذا النوع، وقابلة للتثبت إذ يجري اختبارها من خلال التجربة أو على الأقل يمكن دحضها عبر الملاحظات التجريبية. وينتج عن هذا التحديد أن النظرية العلمية والواقع ليسا متعارضين بالضرورة. فالنظرية العلمية لا تحتوي على عناصر غير قابلة للتغيير بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معاينتها في كلّ الاختصاصات العلمية. وما تشترك فيه النظريات العلمية هو مجهود أمثلة الواقع Idéalisation du réel، أمثلة تتحقق في صورنة أكسيومية أو شبه أكسيومية بالنسبة للنمذجة النسقية، لذلك يمكن القول مع فاليزار B.Walisser:«يمكن اعتبار كل نموذج في وجه من وجوهه، وسيطا بين حقل نظري يمثل تأويلا له و حقل تجريبي يمثل تأليفا له.» و بما أن كل بناء نظري ينتج قوانين يمكن القول أيضا مع بول غريكو P.Gréco بأن «النموذج هو وسيط ضروري بين صياغة القانون وفهم معنى القانون» خاصة و أن القانون هو صياغة لعلاقة كونية بين الظواهر. ففي الوصف نحاول مقاربة البنى التي ندركها والتي تؤسس مواصفات التعرف على المواضيع ونمذجتها. ثم إن وصف سيرورة النمذجة تقتضي في ذات الوقت وصف حالة الظاهرة المدروسة ولكن أيضا وصف حالة فعلها. أما الفهم فهو شرط أولى ضروري للوصف ولا يمكن اختزاله في مجرّد معرفة خصوصية في خدمة المباشرتية والجانب المحسوس من التمثل التماثلي مثلما بين ذلك E.Morin. ومن هذا المنطلق فإن تأليفية الفهم تحضر في التحليل و في نسقية الوصف. وبالتالي يمثل الفهم وسيلة وغاية كل تماثلية. ثم إن النمذجة النسقية يمكن أن تكون في خدمة غايات متعدّدة، مثل معرفة المشاكل المركبة والمعقدة، فهم الظواهر، أو اصطناع استراتيجيا للفعل، إنها تحمل في ذاتها مشروع جعل الواقع قابلا للتعقل عبر نمذجته دون إفراغه مما هو أصيل فيه: التركيب والتعقد. ذلك أن النمذجة النسقية تريد احترام الجدلية المركزية للمركب أي الصيرورة في الاشتغال والاشتغال الصائر. إذ تمكن النمذجة النسقية المنمذج من إعطاء صورة لتفكيره وتمكنه من استباق نتائج مشاريع الأفعال الممكنة. ففي النمذجة ينطلق الباحث من المشروع الذي حدده ليجمعه بفرضيات متمفصلة بحسب المشروع الشامل، والنموذج ليس تركيب أشياء ثابتةstables ، بل هو تركيب تمثلات فعل، لذلك لا نستطيع أن نقارب البعد الدلالي للنمذجة دون الحديث عن علاقة النموذج بالواقع. و أن نتحدث عن الواقع هو أن نتحدث عن الواقع كما هو في ظروفه الخاصة حتى نتمكن من سبر ألغاز الموضوع المدروس في تعقّده وتركيبه وفي غموضه، أن نتحدث عن الواقع هو أن نستحضره خارج المفهوم، أن نفكر في الشيء خارج الوهم والظاهر فالواقع هو ما يوجد في ضرب من التقابل مع الخيال ومع تمثل الواقع، فالواقع هو ما يوجد والمعرفة العلمية من المفروض أن تقوم بإبراز خصائص الواقع بواسطة الرموز والكلمات والأعداد. ويزعم بعض أصحاب البراديغم التجريبي أنهم يقاربون الواقع بطريقة موضوعية، في حين يعترف البعض الآخر منهم بتدخل الذاتية. ولكن بقدر ما يكون الموضوع معقدا بقدر ما تختلف القبضة على الواقع. ذلك أن المقاربة تتبع ما سبق وترتبط بالظروف الخاصة للبحث. لذلك فإن النمذجة تقارب الواقع بطريقة معقدة (مركبة) لا يمكن اختزالها في نموذج نهائي ومغلق، بل لا يوجد واقع وإنما وقائع متعددة، فليس هناك حقيقة واحدة بل عدة حقائق. والواقع متعدّد وهو ذاتي بصفة شاملة، فالنمذجة تفترض قبليا وجود عدة نماذج يمكن تصورها لنفس الظاهرة التي ينظر إليها في وحدتها وفي التفاعلات الداخلية التي تكونها. والمنمذج يكوّن معرفة حول الظاهرة انطلاقا من المعلومات (المعطيات) التي ينتجها هو ذاته اصطناعيا وبطريقة حرة. وهذا التدخل من قبل المنمذج والنموذج تقتضي ضرورة أن يشرح المنمذج غاياته الخاصة بالإضافة إلى الغايات التي يسندها للموضوع المنمذج، وتدخله في الموضوع المنمذج ليس محايدا. فعندما يصف ما يعرف عن العالم، يغير المنمذج العالم الذي يعرفه، وعندما يغير هذا الواقع الذي يعيش فيه يتطور هو ذاته. ولذلك تتموضع النمذجة في البراديغم البنائي. إن المقاربة النسقية تفتح على خلق استراتيجيات فعل. إذ تمكن من تنظيم المعرفة عبر بناء نماذج يمكن التواصل حولها ويمكن استعمالها في الفكر والممارسة. ويتموضع المنمذج في التفاعل بين النسق المنمذج والنموذج. ويتمظهر بجلاء في ذاتيته وبقيمه الخاصة. إذ تفترض النسقية أن فعل النمذجة ليس حياديا إذ لا يمكن فصله عن فعل المنمذج. وهذا يعني أن مثالي النمذجة النسقية لا يمثل في الموضوعية ولكن في اسقاطات المنمذج الذي يمكن أن يتحدّد بقدرته على إظهار مشاريع النمذجة التي يقدمها مثلما ذهب إلى ذلك لوموانيو. فعلى المنمذج أن يعبر عن مقاصده وأن يعرضها قبل أن يقدم النموذج الذي تخيله بكل حرية. وحق الخيال، هذه الحرية التي للمنمذج ليست خاضعة لأي قاعدة بل لا يمكن أن نخضعها لأي قاعدة أو قانون imprescriptible وهذا يعني أن الذاتية علنية في النمذجة النسقية، والواقع يتم استنتاجه من مقدمات توضع قبليا بالتجارب والمعارف. وبالتالي فإن النمذجة تفتح المجال للإسقاط والإبداع والمنمذج ينغمس في الوسط ويتخيل مشاريع الظواهر التي يدرسها. النموذج لا يعكس، إذن، الواقع في كليته و إنما يعكس الواقع كما تمثله، فالمعطيات الخبرية أو الافتراضية تعطي للنموذج دلالته أو تقتضي تعديله، فعلاقة النموذج بالواقع ليست علاقة تطابق و إنما هي علاقة تفاعلية تتحدد بالملاءمة، لذلك يُشترط أن يكون النموذج مرنا قابلا للتعديل، و ثريا قابلا للتحول من كونه نموذجا خاصا إلى كونه نموذجا شاملا لأكثر من نسق و بالتالي عام، و تتحدد صلاحيته التجريبية إما بتجارب قياسية عبر التمثل الاصطناعي في الواقع الافتراضي و إما بتجربته في الواقع الفعلي.
البعد التداولي للنمذجة النسقية
لنذكر بأن النمذجة النسقية ليست إلا منهج تمثل إجرائي له غايات عملية, منهجا ينطلق من مسلمة تقر بعدم إمكان إنتاج معرفة كاملة و أن هذه التمثلات التي تنتجها النمذجة لا يمكن أن نقول عنها أنها صادقة أو كاذبة بل هي فقط تمثلات ناجعة للفعل المستقبلي بما أنها تمكن من تحقيق ضرب من التوقع و إلا لما كانت هذه التمثلات ناجعة. و هذا يعني أن ضروب تطور الأنساق المركبة تقطع مع النموذج الميكانيكي للنمذجة التحليلية, ذلك أن النموذج الميكانيكي يتحرك في مستوى حتمي في حين أن الأنساق المركبة تتحرك في مستوى لا حتمي. فمنذ الثورة العلمية الثانية التي حققها اينشتاين في الفيزياء، نحن نعلم جيدا أن الواقع التجريبي يعبر عن تسلسل خفي للظواهر المواضيع مرتبط بالفضاء ـ زمان L'espace-temps، ولكن هذه الظواهر تبدو مستقلة عن بعضها في بناء لغات الوصف في أفق مصورن، ذلك أن المنطق الصوري في شكله الرياضي مؤسس على مبدأ الحتمية الذي يقرّ بأن حالة الظاهرة في الزمن "ز" المعطى، تحدّد حالة الظاهرة في الزمن "ز + 1" وهذا المبدأ هو ذاته شكل مهذب للحتمية باعتبارها قانون سببي والذي يقرّ أسبقية السبب على النتيجة. ولكن يجب أن نلاحظ أننا لا نستطيع أن نغمض أعيننا على الضغوطات الفيزيائية، وربما حتى الكسموفيزيائية لمعالجة جيدة لضغوطات علوم التصور. فاكتشاف الكون في علوم التصور يقتضي تصوّر سببية خطية ومتعددة في ذات الوقت بالشكل الذي يجعل ممكنا تصور عدّة أسباب: التدبير، الاضطرابات التي تصدر عن المحيط،، الضغوطات المختلفة، التعديلات... لتحديد حالات مرتبطة بالحالات المراد تحقيقها، وذلك للتقليل من الفوارق بين هذه الحالات، وبناء رابط بين المنطقي والخبري أي بين المبررات القبلية بما هي « المماثلة المؤسسة علميا بين الوضعية الطبيعية والنموذج»، والمبررات البعدية بما هي «المجابهة التجريبية»، كما يعبر عن ذلك روني طوم R.Thom. وهكذا فإن تعدّد الأسباب في اشتغال نسق آلي يولّد أيضا نتائج ارتجاعية تساهم في فعالية النسق. والتكامل بين ما يتعلق بالمستوى القانوني التركيبي وما يتعلق بديناميكية قرينة (Contexte) المعرفة والفعل للوظيفة الدلالية، يساهم هنا في وظيفة التحويل الموحّدة للتجريد وفكّ شفرة التجريد. والفوارق بين المعطيات الخبرية والمعطيات المنطقية الصورية تحيل بالتناسب إلى تأويلات مختلفة للسيرورات التماثلية (المُحتوَى) وإلى تأويلات ترتبط بالمنطق الصوري (المحتوِي). ومن هذا المنطلق فإن التشنج، لاستعارة عبارة E.Morin، بين المُحتوَى / المحتوِي الذي يسعى إلى إظهاره الحكم ألتأليفي الذي يقارب كلّ ما نستطيع تمثله بطريقة مباشرة، وما يظهره الحكم التحليلي يتضمن تثبت وإمكانية دحض، صرامة، كمال، و مراقبة... وهكذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التركيب اللامتناهية للظواهر المدروسة حتى نتمكن من نمذجتها بواسطة المقتضيات المنطقية و التماثلية و الخبرية التي تستجيب لشروط العلمية, و من هذا المنطلق فان النموذج باعتباره تمثل مجرّد للواقع من جهة كونه يبسط هذا الواقع لفعل معيّن فيه و لا يبقى إلا على الخصائص الهامة بالنسبة إلى السياق الذي تتحرك فيه غاية الفعل، يجعل من النموذج نظرة ذاتية حول الواقع تمكّن من تمثيل اصطناعي للنسق المدروس. ذلك أن تقنيات ما يسمى بالواقع الافتراضي « réalité virtuelle » تمكّن المنمذج من الولوج و الفعل و التفاعل في عالم التأليف الذي يكوّنه الحاسوب, لأن مفهوم الواقع الافتراضي يتضمّن ثلاث معاني:
- الانغماس « Immersion »
- التفاعل « Interaction »
- الإبحار « Navigation »
و الانغماس يعني أنّ الفرد ينغمس كليا في الصورة بواسطة خوذة تسترجع رؤية مجسادية Vision stéréoscopique, أي صورة ثلاثية الأبعاد. أمّا التفاعل فانّه يعبّر على قدرة اصطناع و تحويل الصورة في الزمن الواقعي. و أخيرا يقتضي الإبحار الوجود في عالم افتراضي و تحقيق لقاءات بفضل منظومة التحكم في التواصل عن بعد. و تطبيقات الواقع الافتراضي ترتبط أوّلا بالفعل التحكّمي الذي يمكن من التدخل في الأماكن البعيدة أو الأماكن التي لا يستطيع الإنسان الولوج إليها مباشرة أو حتى الأماكن الخطيرة. و النمذجة تستخدم تقنيات الواقع الافتراضي لتعويض التجارب المكلفة أو التي لا نستطيع انجازها فعليا في الواقع, لذلك تقدم هذه التقنية سندا في عملية التثبّت من ملائمة النموذج للنسق المدروس خاصة و أنّ الاصطناع الذي يستخدم برمجيات معلوماتية متطورة يمكن من دراسة ردود نموذج النسق المتطوّر, إذ يتعلق الأمر بأداة تثبت حيث ننطلق من الوصف البنيوي و الوظيفي للنسق الذي نريد اصطناعه و المتغير الذي نريد تطبيقه على مداخل النسق، و البرمجية المعلوماتية تمكن من حساب تطور النسق و تمد المنمذج بالنتائج التي تعبر عن نشاطه. و هذا يعني أنّ دراسة النموذج وفق التمثيل الاصطناعي تعوض أساسا التجارب المكلفة على التصاميم، لذلك يقول "رونيه توم" « بموجب التكلفة الباهضة للتجريب يكون علينا أن نستنجد بنماذج مبررة ماقبليا تبريرا جيدا ». و بالتالي يجب على المنمذج أن يحقق معرفة معمّقة باشتغال الأنساق التي يسعى إلى اصطناعها حتى يتمكّن من الحكم على حدود اشتغال النتائج التي يتحصّل عليها. و الصعوبة الجوهرية التي تعترض المنمذج في عملية التمثيل الاصطناعي تتمثل في تحقيق شرطين متعارضين, فمن جهة يجب أن يكون النموذج دقيقا لتحقيق نتيجة تعكس أحسن ما يمكن الواقع و من جهة ثانية يجب أن يكون النموذج على غاية البساطة الممكنة لنقلل أكثر ما يمكن من العمليات الحسابية. و من هذا المنطلق يرى نوال مولود Noël Mouloud أن استخدام النماذج هو مساعدة إضافية لخدمة غايات معرفية، ناهيك أن كل المختصين في مناهج العلم المختلفة يتحدثون عن النماذج باعتبارها تمكن من تحقيقات امثل، و يتحدثون عن الأدوار المتكاملة التي تلعبها في ما بينها، فالنمذجة تجعل التبسيط ممكنا و لكن تمكن في نفس الوقت من تناول شامل للموضوع المدروس وبالتالي تمكننا من تجاوز الاختزالات الأحادية. فنحن ننمذج لننسق بين وجهات نظر التفسير في صرامة لا تتماهى و التحجر، بما أنه يجب أن تكون النماذج مرنة وقابلة للتعديل لتستجيب لمقتضيات الاختراع والاكتشاف. وهكذا فإن النمذجة لا تخلط بين الحقيقة المدلول عليها والمحتوى الضيق للتشكيل، وبالتالي تتجنب النمذجة النسقية الدوغمائية التي تنتج عن الخلط بين الموضوع ونموذجه، فالنموذج هو "تخيّل مراقب" Fiction controlée على حدّ عبارة "نوال مولود"، مراقب بنجاح أو فشل التجربة بما أنّ النموذج يخضع لشرط التماسك كأحد معايير البعد التركيبي. ومن هذا المنطلق فإن غائية النمذجة النسقية تتمثل في بناء استراتيجيات وتمكن من إيجاد ومن تنظيم نوايا الفعل الممكنة ونتائجها التي لم تكن تخطر على البال وبالتالي تحديد قواعد الفعل. ذلك أن النمذجة تنظر في مشروعها من جهة كونه مسار له فعل وتاريخ. لذلك فإن المقاربة التليلوجية Téléologique تمكن من اكتشاف حلول في المدى القريب ولكن خاصة في المدى البعيد. ويجب أن نلاحظ أن الخصائص التداولية للنموذج والمتمثلة في قابلية التوظيف والاستعمال والتعديل والمرونة والثبات والايجابية في الأداء تجعل النموذج قادرا على القيام بوظائف مختلفة نذكر منها ثلاث أساسية:
* وظيفة معرفية: إذ يمكّن النموذج من تفسير النسق المدروس عبر إبراز بعض خصائصه وضبط علاقات بين مداخل النسق ومخارجه، فالفهم يمثل الوسيط بين الهدف القصدي وقوانين بنية المحيط الفيزيائي (طبيعيا كان أو تجريبيا) أو المحيط الاصطناعي (أي المنطقي-رياضي المطبق) أو حتى المحيط الإنساني وهذا الوصف يربط مقاصد المنمذج بالهدف المراد تحقيقه وبقوانين ضغوطات المحيط. وهي قوانين يمكن أن تكون طبيعية أو اصطناعية أو حتى سيكوسوسيولوجية
* وظيفة توقعية: إذ يمكن النموذج من التنبأ بتصرّف النسق المدروس وبردوده في وضعيات لم تجر ملاحظتها انطلاقا من المعرفة الحاصلة حول النسق في وضعية معينة، ذلك أن التفسير مثلما بين ذلك "ستراوس" ينطوي على ضرب من التوقع.
* وظيفة اتخاذ القرار: يوفر النموذج لصاحب القرار المعطيات الضرورية التي تسمح له بإنارة قرار يهدف إلى الفعل في النسق فيكون القرار ملائما للمشكل المطروح وما يتصل به من ضغوطات، إذ لا يجب أن ننسى أن كلّ نموذج هو تمثل يسمح بمعرفة أو فهم أو تفسير كيفية اشتغال النسق المدروس بغاية التحكم فيه أو الفعل فيه. وإن هذه الغاية تضع النموذج في علاقة لا فقط بالمنمذج ولكن أيضا بمن يستعمل النموذج والفاعلين في النسق المنمذج.
يتعلق الأمر إذن، في المستوى التداولي، بالنظر إلى النماذج على أنها وسائل سيطرة وتحكم وهو ما يعني ارتباط النشاط العلمي بالتقني مثلما بين ذلك "لادريار"، فالنمذجة تفتح على التقنية إذ «تضيف للأنساق الطبيعية أنساقا اصطناعية أو تهب الأنساق الطبيعية خاصيات جديدة و طابعا مصطنعا». والنماذج التقنية ليست محايدة وإنما هي متداخلة مع الجيهات العملية وحتى السياسية التي تحيط بالممارسة العلمية و توجهها. والبعد التداولي للنمذجة النسقية يؤكّد لنا التحالف بين العلم والمصلحة، التحالف "بين السعي إلى فهم العالم والرغبة في قولبته" على حدّ عبارة "ايليا بريقوجين" و"ايليزابات ستنجرس"، و يعلن نهائيا براغماتية المعرفة العلمية في البراديغم البنائي.
عن موقع Minerve
إبراهيم قمودي
البعد التركيبي للنمذجة النسقية:
يبدو أن النمذجة النسقية كممارسة علمية تتقدم كحل لمجموعة من الصعوبات التي اعترضت العلماء في تفسيرهم للظواهر، صعوبات تتعلق بأزمة أسس الرياضيات، أزمة الحتمية في الفيزياء، فهذه الصعوبات أدّت إلى انهيار اليقين العلمي وتفكيك العقل العلمي، بالإضافة إلى الوعي بالطابع المركب للظواهر والذي رافق ظهور علوم جديدة، علوم تطبيقية كالسيبارنيتيقا وعلوم الهندسة والإعلامية، كلّ هذه العوامل أدت إلى ظهور النمذجة باعتبارها الحلّ لاستعادة ضرب من الثقة في العلم الذي برهن على قصوره على تناول الظواهر اللامتناهية في التركيب وفق البراديغم الكلاسيكي الوضعي الذي تمثل في النمذجة التحليلية. والنمذجة النسقية كحلّ لدراسة اللامتناهي في التركيب تتقدم هي ذاتها كمنهج مركب، منهج فيه أبعاد مختلفة وكل بعد يتضمن عناصر مختلفة وعموما تقوم النمذجة على الدراسة النسقية للتوافق بين أبعاد ثلاثة :
* البعد التركيبي: يشمل كل ما يتعلق بالعناصر الأولية كالأرقام والرموز وقواعد تنظيم هذه الرموز في علاقات بالإضافة إلى الصيغ والقضايا.
* البعد الدلالي: يشمل كل مضامين القواعد وما يعطي معنى للنسق وبالتالي مختلف التأويلات.
* البعد التداولي: يتحرّك ضمن مسار إدماجي للمعرفة والممارسة ويتعلق بالتعديلات التي تجرى على النسق ووظائف النماذج المختلفة بالإضافة إلى التمثيلات التي ينتجها النموذج.
ويجب أن نلاحظ أن هذا الفصل بين هذه الأبعاد الثلاث ليس إلا فصلا إجرائيا يرتبط بديدكتيك التعليم، ذلك أن هذه الأبعاد الثلاثة تتداخل في ما بينها وتمثل بنية على المنظّم أن يأخذها في كلّيتها بما هي تعبير على نموذج واحد يتحدد هو ذاته كبنية.
ومن هذا المنطلق يحدد "بياجي" J.Piaget البنية باعتبارها الشكل المُلاحَظ والقابل للتحليل الذي تتخذه عناصر موضوع مادي، فهي الطريقة التي يتقدم وفقها مجموع محسوس في الفضاء. يتعلق الأمر إذن بالأجزاء وتنظيم هذه الأجزاء، فالبنية هي كلّ يتكون من عناصر ومن شبكة علائقية بين هذه العناصر تتعلق بالتكوّن أو البناء و السياق و تموضع العناصر وشكلها. لذلك ينسب "بياجي" للبنية ثلاث خصائص، الخاصية الأولى تتعلق بالكلية من جهة كون البنية كلّ، و الخاصية الثانية تتمثل في التحول من جهة كون البنية لها طابع ديناميكي، والخاصية الثالثة هي الانتظام الذاتي من جهة كون البنية تشتغل بطريقة مستقلة عن المنظر. وهذا يعني أن المنظر لا يتدخل فعليا في البنية. و لكن رغم كون البنية مستقلة على عمل المنظر فإنها تساعده على الصورنة كلحظة أساسية في انتاج النموذج. ذلك أن الصورنة هي العملية المعرفية التي تحوّل بمقتضاها فعل أيّ نسق عيني إلى صورة أي نسق مجرّد والعملية المعاكسة أي التحوّل من النسق المجرّد إلى النسق العيني تتمثل في التأويل. ويلاحظ "لادريار" J.Ladriere أن الأنساق العينية والأنساق المجرّدة تمثل نظما رمزية بما هي اصطناع عقلاني يشتمل على أشكال يمكن أن تـُستخدم في صياغة تمثلات لأيّ وسطٍ يسعى نظام الرموز إلى التلاؤم معه، إذ يسمح له بنمذجة هذا الوسط وعقلنته. والصورية هي نظام رمزي من القواعد التي تمكّن من التحول من التجارب إلى المعارف، وهو ما يعني أن الصورية هي كل نظام علامات ناتج عن الصورنة. لكن لا يجب أن نفهم من ذلك اختزال الصورنة في الترييض وبالتالي اختزال الصورية في الأنساق المنطقية الصورية، ذلك أن الصورنة تحضر بشكل متفاوت في النمذجة إذ يمكن أن تتخذ شكلا أكسيوميا صرفا إذا كان الموضوع المنمذج قابل للمقاربة الكمية الصرفة، كما يمكن أن تتخذ شكلا شبه أكسيومي إذا كان الموضوع لا يخلو من أبعاد كيفية نوعية. خاصة و أن الترييض في النمذجة التحليلية يحضر بشكلين مختلفين، إمّا في شكل استخدام الرياضيات كأداة من خارج العلم لصياغة القوانين وإما باستخدام المنهج الرياضي ذاته أي المنهج الفرضي الاستنتاجي، و هو ما يعني أن العلم الحديث هو ابن الرياضيات كما بين ذلك هنري برقسون H.Bergson و أيضا ألكسندر الكويري A.Koyré عندما حلل الثورة العلمية الحديثة وأعلن أن ولادة العلم الحديث حصلت عبر القطع مع التفسير النوعي الأرسطي و تعويضه بتفسير كمي، أي أن النشاط العلمي يتمثل في مجهود تعويض المعرفة النوعية بالحواس و الإحساس بمعرفة كمية قابلة للقياس. و إذا كان الوصف النوعي يكتفي بوصف المظهر الفيزيائي، بحيث يكتفي مثلا بوصف المنحي فإن الوصف الكمّي يحلّل المعادلة الرياضية التي تدبّر المنحى، ذلك أن النوعية تشير إلى ما لا نستطيع التعبير عنه بلغة كمية ولا حتى بعلاقات عقلية محدّدة، فالظاهرة النوعية ترتبط بالمظاهر الحسية للإدراك التي لا تتعلق بتحديدات ميكانيكية وهندسية و إنما تدرك بحدس شامل و على شأن ذلك بالذات أقصاها العلم من دائرة اهتمامه. ويبدو أن إقصاء الجانب النوعي من العلم ضيق مجال المعرفة العلمية و مثل أحد الصعوبات التي أظهرت نقائص العلم الحديث أو ما يسمّيه "لوموانيو" بالنمذجة التحليلية، وهذا يعني أن مزية النمذجة النسقية تتمثل في تجاوز التضييق الكبير لمجال امتداد العلم باسم الترييض والتكميم كشرط ضروري للمعرفة العلمية ويكون ذلك عبر توسيع دائرة العلم لتشمل مالا يمكن الحديث عنه في لغة كمية رياضية صرفة. لذلك فإن الصورنة رغم كونها لا تـُختزل في الترييض تقتضي أوّلا الصرامة العقلية التي لا يجب فهمها مثلما بين ذلك "هيربارت سيمون" H.Simon باعتبارها مشابها للنموذج الذي يستعمل الرياضيات التقليدية في النمذجة التحليلية، فالصّرامة تُؤخذ هنا على انتساب التمشي الفكري لنسق أوّليات لذلك فإن الهدف الأساسي لكلّ صورنة يجب أن يكون إبانة الأوّليات أو القواعد المتواضع عليها والتي تقود كلّ عملية نمذجة، والصرامة العقلية كشرط للصورنة تجنّب النمذجة النسقية ظنّة الإبستيمولوجيا الوضعية. كما تقتضي الصورنة خاصية إمكان الصنع إذ يجب أن تكون عملية قابلة للتحقيق واقعيا وكونيا، وبهذا المعنى فإن النمذجة النسقية تمكننا من صورنة ما كان غير قابل للصورنة في النمذجة التحليلية وذلك في شكل توثيقي لمعارف رمزية تتعلق بتجارب مدركة أو قابلة للإدراك بإنتاج علاقات عقلية محدّدة من قبل فاعل منمذج لفعله الخاص. وهذا النوع من التمثل للظواهر لا يدّعي أنه يقدّم الوصف التام للظاهرة المدروسة إذ أنه تمثل اصطناعي وتليلوجي Téliologique، بما أن هذا البعد الغائي يمكّن من اكتشاف حلول في المدى القريب ولكن خاصة في المدى البعيد، و تمثل مركب ومع ذلك قابل للتعقل مما يعني أن التمثل الذي تقدمه النمذجة النسقية لا يدّعي فصل الصورنة على التأويل، ذلك أن النموذج ينشأ بفعل عملية تبسيط متعمّد، وهو تبسيط لأنه يختار بعض مظاهر الواقع المدروس ويهمل أخرى، ومتعمّد لأن المنمذج يعلم مسبقا أن النموذج الذي ينتجه لا يدّعي مطابقة الواقع المدروس في كلّ الظروف وفي كلّ جوانبه، إذ لا يجب أن ننسى أن النموذج هو قبل كل شيء إنشاء فكري فالنموذج هو نظام علامات ليّن يمكّن من اعتبار أغلب الادراكات التي بحوزتنا عندما نريد وصف ظاهرة ملاحظة أو متخيلة بُغية تأويلها ذهنيا. ومن هذا المنطلق فإن النمذجة تفتح مجالات واسعة أمام البحوث العلمية دون أن تلزم التمثل بلغة مغلقة إذ يمكن التعبير عن النموذج كتمثل لظاهرة ما في لغة خطابية أدبية أو في تصاميم أو في رسوم بيانية بالإضافة إلى اللغة الرياضية ومن هذا المنطلق يمكن أن نميّز بين نوعين من النماذج:
* نماذج مادية: تترجم نسقا معينا من الظواهر العينية التي يغلب عليها الطابع النوعي بما أنّ بعض الخصائص المادية كالأشكال والألوان والروائح... يصعب التعبير عنها في صورة مجرّدة.
* نماذج رمزية: تترجم النسق في لغة مجرّدة ويجب أن نلاحظ أن هناك أيضا بعض الخصائص المجرّدة التي يصعب تجسيدها في مقابل مادي يماثلها.
ولكن هذا التصنيف لا يعني القطيعة بين نوعيْ النماذج إذ يجري المرور تدريجيا من النموذج الرمزي إلى التصميم ومن التصميم إلى النموذج الرمزي فكلّ نموذج رمزي يحافظ على سند مادّي، وكل تصميم لا يخلو من قدر من التجريد برغم غياب التوافق الكلي بين النموذج المادي والنموذج الرمزي بما أنّ بعض الخصائص المادية يصعب التعبير عنها في أشكال مجرّدة وبعض الخصائص المجرّد يصعب تجسيدها في مقابل مادي يماثلها مثلما أسلفنا الذكر. والمرور من المادي إلى الرمزي أو إن شأنا من المحسوس إلى المعقول ومن الرمزي إلى المادي، أو من المعقول إلى المحسوس هو ما يعبّر عنه "سيمون" بقوله: "لقد نقلت الحواسيب نـُظـُمَ الرموز من الجنة الأفلاطونية للمثُل إلى عالم خبري للسيرورات الواقعية المتحققة عن طريق آلات و عن طريق هذه الأدمغة أو بالاثنين يعملان معا"، ذلك أن الذكاء الاصطناعي يمثل آلية تسهل على المنمذج المرور من الصورية المجرّدة للتمثل الذهني إلى تحسيس و تلميس هذا التمثل افتراضيا بواسطة الحاسوب الذي يسمح بإيجاد مقابل مادي يماثل الخصائص المجرّدة التي يصعب تجسيدها في الواقع الفعلي. وهكذا فإن إنتاج النماذج يتقدم في شكل اكسيومي أو شبه اكسيومي بحسب درجة الصورنة، و هذا يعني أن الأكسيومية، كضرب من العرض للعلوم الصحيحة مبني على قضايا افتراضية يسلّم بها تسليما دون برهان وهي القضايا التي تُسمّى الأوّليات التي تكون مصاغة بدقة وتؤدي إلى استدلالات صارمة، هي إذن ما يمكن الصورنة من تحقيق شرط الصرامة الذي تقتضيه، ذلك أنّ الأكسيومية تبدأ بجرد كامل الأوليات أي كلّ القضايا التي نسلّم بها دون برهان، واكتشاف هندسات لاإقليدية في القرن 19 يبين لنا خاصية التجريد والاعتباط للأكسيومية كما بين لنا أن هناك رابط هام بين الأكسمة والصورنة، فالأكسمة تمكن المنمذج من بناء أنساق متكاملة من المفاهيم والعلاقات مما جعل "باشلار"يعتبر أن القطيعة الابستيمولوجية بين التجربة المحضة والأكسمة تمرّ عبر لعبة صورية. والنمذجة كممارسة علمية موحّدة للنشاط العلمي بما تسمح به من تعاون بين مختلف الاختصاصات العلمية وباستخدامها للعلوم الإعلامية مكنت العلم من إطار جديد للتجريب الافتراضي Experimentation Virtuelle كما مكنته من استخدام لغة اصطناعية مفتوحة تخضع عناصرها للظواهر المنطقية في بناء أكسيومي أو شبه أكسيومي بحسب درجة حضور الرياضيات ذلك أن طبيعة اللغة المستعملة هي التي تحدّد درجة الصورنة. وهكذا يمكن القول أن مقاربة البعد التركيبي للنمذجة توضّح لنا الشروط الابستيمولوجية لتأويج فعالية النموذج وتأويج امكانية اشتغاله وبالتالي تمكننا من التحكم في المصاريف وتأمين مقاربة الظاهرة المدروسة وهذه الشروط يمكن أن نلخصها في النقاط التالية:
* التماسك Consistance: بمعنى أن يكون النموذج خال من كلّ تناقض وهو شرط تجعله الأكسمة ممكنا.
* التمامُ Complétude: بمعنى أن لا يتضمّن النموذج قضايا لا تقبل البرهنة أو الدحض.
* الثبات : بمعنى أن تكون قضاياه ملائمة لكل المتغيرات الممكنة.
* الإشباع Saturation: بمعنى أن لا يحتاج النموذج إلى استخدام مصادرات إضافية من خارج النسق.
* القطعية Décidabilité: بمعنى تضمّن النموذج لإجراءات تسمح بالحكم على قضية ما بكونها صحيحة أو خاطئة.
* الاستقلالية Indépendance: بمعنى ألاّ يتضمّن النموذج أوّلية يمكن استنباطها من بقية الأوّليات.
لكن إذا كانت النمذجة تهدف أساس من جهة طابعها التليلوجي إلى اصطناع استراتيجيا للفعل، وإذا كان النموذج ليس تركيبا لأشياء ثابتة وإنما هو تركيب تمثلات فعل تمكن من تقييم نوايا الفعل الممكنة وبالتالي تحديد قواعد الفعل فماذا يمكن أن نقول عن علاقة هذا النموذج المبتكر بالواقع؟ هل يمكن أن نتحدّث عن الواقع بطريقة موضوعية؟ و هل تسمح لنا النمذجة النسقية بالقبضة على الواقع؟
البعد الدلالي للنمذجة النسقية :
يقول برونو جاروسون في كتاب "دعوة إلى فلسفة العلوم" : «إن الواقع لا دلالة له في ذاته. وفي مقابل ذلك من المهم أن نتبين أن الواقع له دلالة وله معنى أيضا». ذلك أن الإنسان في حاجة إلى تمثل الواقع ليضفي عليه دلالة وحتى يصبح معقولا بالنسبة إليه. والبعد الدلالي للنمذجة النسقية يتعلق بهذه الدلالة التي تبدعها النمذجة للعالم: إذ يتعلق الأمر بعلاقات العلامات الرمزية مع الواقع، ذلك أن تمثل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر، وإنشاء نسق صوري لنمذجة واقع ما ليس مجرّد لعبة مجانية نكتفي فيها بإنشاء رموز دون اعتبار ما يمكن أن تعبر عنه هذه الرموز والعلاقات القائمة بينها من مضامين ذات صلة بالواقع. هذا يعني أن الصياغة الصورية لا تكتسب قيمة علمية إلا بفعل تطبيقها في وضعيات تجريبية بواسطة تأويل الرموز المجردة وترجمتها في حدود فيزيائية. إذ أن النسق الصوري يعبر عن بنية واقعية، ولذلك لا بدّ من تحقيق ضرب من التلاؤم بين المعطيات الصورية للنسق المدروس وبين المعطيات الخبرية التي تنتظم وفقها الموضوعات العلمية المعتبرة. وهذا التلاؤم يقوم على مجموعة من القواعد وكلّ ما يتعلق بهذه القواعد يشكل البعد الدلالي أي النموذج بما هو تأويل. يتعلق الأمر إذن بلحظة التجريب التي تقتضي تأويلا عينيا وبالتالي فإن البعد الدلالي للنموذج يتحدّد بعلاقته التفاعلية بالنسق الذي يمثله وباعتبار المسافة التي تفصلهما بهدف جعل النموذج أكثر ملاءمة. إن تمثل الواقع ينتشر من خلال منطق الفكر و الأهمية التي نوليها لميدان خصوصي لهذا الواقع. و النموذج هو وليد ثلاث سيرورات, متنافرة و متكاملة، فمن جهة كل ما ندركه و نتصوره يمر بالضرورة عبر سيرورات تماثلية وافق صورية منطقية. إن المعايير العلمية المتعلقة بالاختصاصات و المشروطة باعتبار أو باختراع حقول اختصاصات جديدة, و بالتشابه و التنافر بين النماذج، تحدد السيرورات المنمذجة. ويمكن أن نلاحظ نوعا من التشابه الصوري بين العلوم الهندسية والعلوم الاجتماعية والإنسانية. ذلك أن النمذجة في العلوم الفيزيائية الكلاسيكية التي تعتبر علوما طبيعية، هي إعادة إنتاج مبسط ومماثل لخصائص الأشياء، والمثال الأكثر شهرة للمماثلة هو المماثلة النيوتنية بين حركة الشيء الذي يدور في طرف الحبل وحركة القمر حول الشمس. ولأن المماثلات تقتضي لغة وصف تمكن من إحلال تجانس النموذج الذي نريد إنتاجه، فإن الميكانيكا الكلاسيكية، استخدمت الرياضيات لتستجيب لهذا الاقتضاء العلمي. أما في النمذجة النسقية فإن وظائف التحويل الرمزية تتأسس في ذات الوقت تركيبيا و دلاليا، وتختلف بحسب طبيعة الضغوطات الخارجية. فنحن مثلا لا نستطيع التنبؤ بمسار الصاروخ الذي يتتبع آلة طائرة في الفضاء إلا بواسطة وظيفته التحويلية التي تتضمن مُعَدِّلات قادرة على المحافظة على ثباتية نسق التتبع عبر إضعاف التشويش الناتج عن الضغوطات. إذ أنه من الضروري إنتاج نوع من التدبير بين المنطقي والخبري في كلّ عملية صورنة. وبلغة أخرى يجب أن يكون هناك نوعا من التطابق بين الحكم التحليلي الذهني والحكم الخبري. ولكن الضغوطات التي ترتبط بالحكم الخبري ليس لها نفس خصائص الضغوطات التي ترتبط بالأحكام التحليلية فيما يتعلق بعلاقتهما الضيقة بالصورية المنطقية. وهذا التشنج يحيل في النهاية إلى ما يسميه J.L. Le Moigne "الأفق المورفولوجي". وهكذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التركيب اللامتناهية للظواهر المدروسة حتى نتمكن من نمذجتها بواسطة المقتضيات المنطقية والتماثلية والخبرية التي تستجيب للشروط العلمية. ونستطيع بالتأكيد ألاّ نعتبر إلا الجزء الأهم من الظاهرة المدروسة بالنسبة للهدف المراد تحقيقه، دون أن نسقط، مثلا في الفيزياء في البحث عن علاقات بين خصائص فيزيائية وأخرى كيميائية بين الذرات، وبالتالي نستطيع تحقيق تطابق شبه كامل بين وقائع الضغوطات الفيزيائية والوقائع الصورية المنطقي ـ رياضية، والخاصية التأليفية للتواصل بين حقول معرفية مختلفة تظهر بجلاء في علوم التصور مثل المعلوماتية أو صناعة الآلات الأوتوماتيكية. وهذا يعني أن النماذج يجب أن تكون نتيجة سيرورة بحث ولا فقط نتيجة تمثل نسقي لموضوع مثلما هو الشأن في الميكانيكا الكلاسيكية. ذلك أن المفترضات النظرية و بنى الضغوطات الخارجية الخبرية أو الملاحظة تمثل أحد خصائص السيرورة التماثلية. فمن جهة تأسس التماثلية الصورية تشابها وظيفيا وبنيويا بين النموذج وموضوع الدراسة، ومن جهة ثانية تصف التماثلية اللاصورية الخصائص المجرّدة والرمزية. واتصال هذه التمثلات يرتكز على وحدتها البنيوية والرمزية حتى تحقق اصطناعية مخصوصة، هي اصطناعية الفعل القصدي المرتبط بكلّ سيرورة نمذجة مثلما أقرّ ذلك Herbert A.Simon واصطناعية النموذج يمكن أن توصف وأن تفهم و أن يتنبأ بها. وهذا يعني أن ما وراء اختلاف النماذج هناك خاصية مشتركة: إن كل النماذج حاملة لمعلومات، حاملة لمعرفة، إنها تعبيرا في لغة ما أو صورنة ما عن رؤية معينة حول موضوع الدراسة، موضوع دراسة يمكن أن يكون موجودا بشكل سابق للنمذجة ونتحدث عندها عن نماذج وصفية modèle de description ، بما هي تجسيد لنظرية متعلقة بميدان موضوع الدراسة. كما يمكن أن يكون الموضوع نسقا في طور البناء والنموذج عندها يفصل تعييناته. ففي الحالة الأولى يعبر النموذج عن تفسير يتموضع في زمن معين وسجل ثقافي معين، لظواهر أو سلوكيات ملاحظة في موضوع الدراسة، بحيث يسند للميدان المدروس منطقا وتجانسا وربما حتى شرعية ومشروعية، إذ تتمثل وظيفته في توجيه أو تأطير فهم ميدان الدراسة. أما في الحالة الثانية فإنه يفصّل الاشتغال المنتظم للاصطناعي، إذ أن النموذج هو أداة تواصل يستخدمه مختلف المتدخلين في سيرورة تصور وصنع النسق-النتيجة. وفي كلتا الحالتين يتقدم النموذج كتمتل أمين على دلالة، كوسيلة تبادل وتقاسم للمعارف، إنه شكل يجسد موضوعا، يجسد شيئا له وظائف الانخراط والتواصل والدخول في المعنى، شيئا اصطناعي يبنى ويثبت بالنسبة لصانعه، وهو رسالة تنتظر حل شفرتها وفهمها بالنسبة للمتقبل، ذلك هو معنى قول لوموانيو J.L.Le Moigne :«نماذج ننشؤها ونمارس من خلالها البرهنة وتبادل الأفكار و نتمكن من جعل المغامرة المبهرة التي انخرطت فيها الإنسانية منذ نشأتها قابلة للفهم».
النمذجة تتمثل، إذن، في تجسيد منظور ما، نقل فكرة إلى شيء محسوس، أما التأويل فهو العملية المعاكسة إذ هو نقل لتمثل طبيعي مرمز إلى تمثل ذهني، وهذه السيرورة الثانية تقارب النموذج كمجموع تعيينات يتعلق الأمر في نهاية المطاف بإدماجها لتكون أكثر دقة بفضل إضفاء المعنى، ذلك أن النموذج مهما كان، يمثل في لحظة قراءته حامل معنى للبناء، حامل معرفة للاكتساب. و النموذج من هذا المنطلق الدلالي يجب أن يكون عاما، والتعميم كخاصية دلالية يقتضي توسيع مجال صلاحية النموذج، حتى نتحول من نموذج ذي صلاحية تتعلق بعدد محدود من الوضعيات الملاحظة إلى نموذج يشمل عددا لامحدود من الوضعيات الممكنة التي تؤكد صلاحية النموذج بما في ذلك الوضعيات التي لم يجر اختبار النموذج فيها. إذ لا يجب أن ننسى أن النظرية العلمية هي نموذج لطريقة التفاعل بين مجموعة من الظواهر الطبيعية، قادرة على التوقع بالأحداث المستقبلية وبملاحظات من نفس هذا النوع، وقابلة للتثبت إذ يجري اختبارها من خلال التجربة أو على الأقل يمكن دحضها عبر الملاحظات التجريبية. وينتج عن هذا التحديد أن النظرية العلمية والواقع ليسا متعارضين بالضرورة. فالنظرية العلمية لا تحتوي على عناصر غير قابلة للتغيير بالطريقة التي تجعلنا قادرين على معاينتها في كلّ الاختصاصات العلمية. وما تشترك فيه النظريات العلمية هو مجهود أمثلة الواقع Idéalisation du réel، أمثلة تتحقق في صورنة أكسيومية أو شبه أكسيومية بالنسبة للنمذجة النسقية، لذلك يمكن القول مع فاليزار B.Walisser:«يمكن اعتبار كل نموذج في وجه من وجوهه، وسيطا بين حقل نظري يمثل تأويلا له و حقل تجريبي يمثل تأليفا له.» و بما أن كل بناء نظري ينتج قوانين يمكن القول أيضا مع بول غريكو P.Gréco بأن «النموذج هو وسيط ضروري بين صياغة القانون وفهم معنى القانون» خاصة و أن القانون هو صياغة لعلاقة كونية بين الظواهر. ففي الوصف نحاول مقاربة البنى التي ندركها والتي تؤسس مواصفات التعرف على المواضيع ونمذجتها. ثم إن وصف سيرورة النمذجة تقتضي في ذات الوقت وصف حالة الظاهرة المدروسة ولكن أيضا وصف حالة فعلها. أما الفهم فهو شرط أولى ضروري للوصف ولا يمكن اختزاله في مجرّد معرفة خصوصية في خدمة المباشرتية والجانب المحسوس من التمثل التماثلي مثلما بين ذلك E.Morin. ومن هذا المنطلق فإن تأليفية الفهم تحضر في التحليل و في نسقية الوصف. وبالتالي يمثل الفهم وسيلة وغاية كل تماثلية. ثم إن النمذجة النسقية يمكن أن تكون في خدمة غايات متعدّدة، مثل معرفة المشاكل المركبة والمعقدة، فهم الظواهر، أو اصطناع استراتيجيا للفعل، إنها تحمل في ذاتها مشروع جعل الواقع قابلا للتعقل عبر نمذجته دون إفراغه مما هو أصيل فيه: التركيب والتعقد. ذلك أن النمذجة النسقية تريد احترام الجدلية المركزية للمركب أي الصيرورة في الاشتغال والاشتغال الصائر. إذ تمكن النمذجة النسقية المنمذج من إعطاء صورة لتفكيره وتمكنه من استباق نتائج مشاريع الأفعال الممكنة. ففي النمذجة ينطلق الباحث من المشروع الذي حدده ليجمعه بفرضيات متمفصلة بحسب المشروع الشامل، والنموذج ليس تركيب أشياء ثابتةstables ، بل هو تركيب تمثلات فعل، لذلك لا نستطيع أن نقارب البعد الدلالي للنمذجة دون الحديث عن علاقة النموذج بالواقع. و أن نتحدث عن الواقع هو أن نتحدث عن الواقع كما هو في ظروفه الخاصة حتى نتمكن من سبر ألغاز الموضوع المدروس في تعقّده وتركيبه وفي غموضه، أن نتحدث عن الواقع هو أن نستحضره خارج المفهوم، أن نفكر في الشيء خارج الوهم والظاهر فالواقع هو ما يوجد في ضرب من التقابل مع الخيال ومع تمثل الواقع، فالواقع هو ما يوجد والمعرفة العلمية من المفروض أن تقوم بإبراز خصائص الواقع بواسطة الرموز والكلمات والأعداد. ويزعم بعض أصحاب البراديغم التجريبي أنهم يقاربون الواقع بطريقة موضوعية، في حين يعترف البعض الآخر منهم بتدخل الذاتية. ولكن بقدر ما يكون الموضوع معقدا بقدر ما تختلف القبضة على الواقع. ذلك أن المقاربة تتبع ما سبق وترتبط بالظروف الخاصة للبحث. لذلك فإن النمذجة تقارب الواقع بطريقة معقدة (مركبة) لا يمكن اختزالها في نموذج نهائي ومغلق، بل لا يوجد واقع وإنما وقائع متعددة، فليس هناك حقيقة واحدة بل عدة حقائق. والواقع متعدّد وهو ذاتي بصفة شاملة، فالنمذجة تفترض قبليا وجود عدة نماذج يمكن تصورها لنفس الظاهرة التي ينظر إليها في وحدتها وفي التفاعلات الداخلية التي تكونها. والمنمذج يكوّن معرفة حول الظاهرة انطلاقا من المعلومات (المعطيات) التي ينتجها هو ذاته اصطناعيا وبطريقة حرة. وهذا التدخل من قبل المنمذج والنموذج تقتضي ضرورة أن يشرح المنمذج غاياته الخاصة بالإضافة إلى الغايات التي يسندها للموضوع المنمذج، وتدخله في الموضوع المنمذج ليس محايدا. فعندما يصف ما يعرف عن العالم، يغير المنمذج العالم الذي يعرفه، وعندما يغير هذا الواقع الذي يعيش فيه يتطور هو ذاته. ولذلك تتموضع النمذجة في البراديغم البنائي. إن المقاربة النسقية تفتح على خلق استراتيجيات فعل. إذ تمكن من تنظيم المعرفة عبر بناء نماذج يمكن التواصل حولها ويمكن استعمالها في الفكر والممارسة. ويتموضع المنمذج في التفاعل بين النسق المنمذج والنموذج. ويتمظهر بجلاء في ذاتيته وبقيمه الخاصة. إذ تفترض النسقية أن فعل النمذجة ليس حياديا إذ لا يمكن فصله عن فعل المنمذج. وهذا يعني أن مثالي النمذجة النسقية لا يمثل في الموضوعية ولكن في اسقاطات المنمذج الذي يمكن أن يتحدّد بقدرته على إظهار مشاريع النمذجة التي يقدمها مثلما ذهب إلى ذلك لوموانيو. فعلى المنمذج أن يعبر عن مقاصده وأن يعرضها قبل أن يقدم النموذج الذي تخيله بكل حرية. وحق الخيال، هذه الحرية التي للمنمذج ليست خاضعة لأي قاعدة بل لا يمكن أن نخضعها لأي قاعدة أو قانون imprescriptible وهذا يعني أن الذاتية علنية في النمذجة النسقية، والواقع يتم استنتاجه من مقدمات توضع قبليا بالتجارب والمعارف. وبالتالي فإن النمذجة تفتح المجال للإسقاط والإبداع والمنمذج ينغمس في الوسط ويتخيل مشاريع الظواهر التي يدرسها. النموذج لا يعكس، إذن، الواقع في كليته و إنما يعكس الواقع كما تمثله، فالمعطيات الخبرية أو الافتراضية تعطي للنموذج دلالته أو تقتضي تعديله، فعلاقة النموذج بالواقع ليست علاقة تطابق و إنما هي علاقة تفاعلية تتحدد بالملاءمة، لذلك يُشترط أن يكون النموذج مرنا قابلا للتعديل، و ثريا قابلا للتحول من كونه نموذجا خاصا إلى كونه نموذجا شاملا لأكثر من نسق و بالتالي عام، و تتحدد صلاحيته التجريبية إما بتجارب قياسية عبر التمثل الاصطناعي في الواقع الافتراضي و إما بتجربته في الواقع الفعلي.
البعد التداولي للنمذجة النسقية
لنذكر بأن النمذجة النسقية ليست إلا منهج تمثل إجرائي له غايات عملية, منهجا ينطلق من مسلمة تقر بعدم إمكان إنتاج معرفة كاملة و أن هذه التمثلات التي تنتجها النمذجة لا يمكن أن نقول عنها أنها صادقة أو كاذبة بل هي فقط تمثلات ناجعة للفعل المستقبلي بما أنها تمكن من تحقيق ضرب من التوقع و إلا لما كانت هذه التمثلات ناجعة. و هذا يعني أن ضروب تطور الأنساق المركبة تقطع مع النموذج الميكانيكي للنمذجة التحليلية, ذلك أن النموذج الميكانيكي يتحرك في مستوى حتمي في حين أن الأنساق المركبة تتحرك في مستوى لا حتمي. فمنذ الثورة العلمية الثانية التي حققها اينشتاين في الفيزياء، نحن نعلم جيدا أن الواقع التجريبي يعبر عن تسلسل خفي للظواهر المواضيع مرتبط بالفضاء ـ زمان L'espace-temps، ولكن هذه الظواهر تبدو مستقلة عن بعضها في بناء لغات الوصف في أفق مصورن، ذلك أن المنطق الصوري في شكله الرياضي مؤسس على مبدأ الحتمية الذي يقرّ بأن حالة الظاهرة في الزمن "ز" المعطى، تحدّد حالة الظاهرة في الزمن "ز + 1" وهذا المبدأ هو ذاته شكل مهذب للحتمية باعتبارها قانون سببي والذي يقرّ أسبقية السبب على النتيجة. ولكن يجب أن نلاحظ أننا لا نستطيع أن نغمض أعيننا على الضغوطات الفيزيائية، وربما حتى الكسموفيزيائية لمعالجة جيدة لضغوطات علوم التصور. فاكتشاف الكون في علوم التصور يقتضي تصوّر سببية خطية ومتعددة في ذات الوقت بالشكل الذي يجعل ممكنا تصور عدّة أسباب: التدبير، الاضطرابات التي تصدر عن المحيط،، الضغوطات المختلفة، التعديلات... لتحديد حالات مرتبطة بالحالات المراد تحقيقها، وذلك للتقليل من الفوارق بين هذه الحالات، وبناء رابط بين المنطقي والخبري أي بين المبررات القبلية بما هي « المماثلة المؤسسة علميا بين الوضعية الطبيعية والنموذج»، والمبررات البعدية بما هي «المجابهة التجريبية»، كما يعبر عن ذلك روني طوم R.Thom. وهكذا فإن تعدّد الأسباب في اشتغال نسق آلي يولّد أيضا نتائج ارتجاعية تساهم في فعالية النسق. والتكامل بين ما يتعلق بالمستوى القانوني التركيبي وما يتعلق بديناميكية قرينة (Contexte) المعرفة والفعل للوظيفة الدلالية، يساهم هنا في وظيفة التحويل الموحّدة للتجريد وفكّ شفرة التجريد. والفوارق بين المعطيات الخبرية والمعطيات المنطقية الصورية تحيل بالتناسب إلى تأويلات مختلفة للسيرورات التماثلية (المُحتوَى) وإلى تأويلات ترتبط بالمنطق الصوري (المحتوِي). ومن هذا المنطلق فإن التشنج، لاستعارة عبارة E.Morin، بين المُحتوَى / المحتوِي الذي يسعى إلى إظهاره الحكم ألتأليفي الذي يقارب كلّ ما نستطيع تمثله بطريقة مباشرة، وما يظهره الحكم التحليلي يتضمن تثبت وإمكانية دحض، صرامة، كمال، و مراقبة... وهكذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التركيب اللامتناهية للظواهر المدروسة حتى نتمكن من نمذجتها بواسطة المقتضيات المنطقية و التماثلية و الخبرية التي تستجيب لشروط العلمية, و من هذا المنطلق فان النموذج باعتباره تمثل مجرّد للواقع من جهة كونه يبسط هذا الواقع لفعل معيّن فيه و لا يبقى إلا على الخصائص الهامة بالنسبة إلى السياق الذي تتحرك فيه غاية الفعل، يجعل من النموذج نظرة ذاتية حول الواقع تمكّن من تمثيل اصطناعي للنسق المدروس. ذلك أن تقنيات ما يسمى بالواقع الافتراضي « réalité virtuelle » تمكّن المنمذج من الولوج و الفعل و التفاعل في عالم التأليف الذي يكوّنه الحاسوب, لأن مفهوم الواقع الافتراضي يتضمّن ثلاث معاني:
- الانغماس « Immersion »
- التفاعل « Interaction »
- الإبحار « Navigation »
و الانغماس يعني أنّ الفرد ينغمس كليا في الصورة بواسطة خوذة تسترجع رؤية مجسادية Vision stéréoscopique, أي صورة ثلاثية الأبعاد. أمّا التفاعل فانّه يعبّر على قدرة اصطناع و تحويل الصورة في الزمن الواقعي. و أخيرا يقتضي الإبحار الوجود في عالم افتراضي و تحقيق لقاءات بفضل منظومة التحكم في التواصل عن بعد. و تطبيقات الواقع الافتراضي ترتبط أوّلا بالفعل التحكّمي الذي يمكن من التدخل في الأماكن البعيدة أو الأماكن التي لا يستطيع الإنسان الولوج إليها مباشرة أو حتى الأماكن الخطيرة. و النمذجة تستخدم تقنيات الواقع الافتراضي لتعويض التجارب المكلفة أو التي لا نستطيع انجازها فعليا في الواقع, لذلك تقدم هذه التقنية سندا في عملية التثبّت من ملائمة النموذج للنسق المدروس خاصة و أنّ الاصطناع الذي يستخدم برمجيات معلوماتية متطورة يمكن من دراسة ردود نموذج النسق المتطوّر, إذ يتعلق الأمر بأداة تثبت حيث ننطلق من الوصف البنيوي و الوظيفي للنسق الذي نريد اصطناعه و المتغير الذي نريد تطبيقه على مداخل النسق، و البرمجية المعلوماتية تمكن من حساب تطور النسق و تمد المنمذج بالنتائج التي تعبر عن نشاطه. و هذا يعني أنّ دراسة النموذج وفق التمثيل الاصطناعي تعوض أساسا التجارب المكلفة على التصاميم، لذلك يقول "رونيه توم" « بموجب التكلفة الباهضة للتجريب يكون علينا أن نستنجد بنماذج مبررة ماقبليا تبريرا جيدا ». و بالتالي يجب على المنمذج أن يحقق معرفة معمّقة باشتغال الأنساق التي يسعى إلى اصطناعها حتى يتمكّن من الحكم على حدود اشتغال النتائج التي يتحصّل عليها. و الصعوبة الجوهرية التي تعترض المنمذج في عملية التمثيل الاصطناعي تتمثل في تحقيق شرطين متعارضين, فمن جهة يجب أن يكون النموذج دقيقا لتحقيق نتيجة تعكس أحسن ما يمكن الواقع و من جهة ثانية يجب أن يكون النموذج على غاية البساطة الممكنة لنقلل أكثر ما يمكن من العمليات الحسابية. و من هذا المنطلق يرى نوال مولود Noël Mouloud أن استخدام النماذج هو مساعدة إضافية لخدمة غايات معرفية، ناهيك أن كل المختصين في مناهج العلم المختلفة يتحدثون عن النماذج باعتبارها تمكن من تحقيقات امثل، و يتحدثون عن الأدوار المتكاملة التي تلعبها في ما بينها، فالنمذجة تجعل التبسيط ممكنا و لكن تمكن في نفس الوقت من تناول شامل للموضوع المدروس وبالتالي تمكننا من تجاوز الاختزالات الأحادية. فنحن ننمذج لننسق بين وجهات نظر التفسير في صرامة لا تتماهى و التحجر، بما أنه يجب أن تكون النماذج مرنة وقابلة للتعديل لتستجيب لمقتضيات الاختراع والاكتشاف. وهكذا فإن النمذجة لا تخلط بين الحقيقة المدلول عليها والمحتوى الضيق للتشكيل، وبالتالي تتجنب النمذجة النسقية الدوغمائية التي تنتج عن الخلط بين الموضوع ونموذجه، فالنموذج هو "تخيّل مراقب" Fiction controlée على حدّ عبارة "نوال مولود"، مراقب بنجاح أو فشل التجربة بما أنّ النموذج يخضع لشرط التماسك كأحد معايير البعد التركيبي. ومن هذا المنطلق فإن غائية النمذجة النسقية تتمثل في بناء استراتيجيات وتمكن من إيجاد ومن تنظيم نوايا الفعل الممكنة ونتائجها التي لم تكن تخطر على البال وبالتالي تحديد قواعد الفعل. ذلك أن النمذجة تنظر في مشروعها من جهة كونه مسار له فعل وتاريخ. لذلك فإن المقاربة التليلوجية Téléologique تمكن من اكتشاف حلول في المدى القريب ولكن خاصة في المدى البعيد. ويجب أن نلاحظ أن الخصائص التداولية للنموذج والمتمثلة في قابلية التوظيف والاستعمال والتعديل والمرونة والثبات والايجابية في الأداء تجعل النموذج قادرا على القيام بوظائف مختلفة نذكر منها ثلاث أساسية:
* وظيفة معرفية: إذ يمكّن النموذج من تفسير النسق المدروس عبر إبراز بعض خصائصه وضبط علاقات بين مداخل النسق ومخارجه، فالفهم يمثل الوسيط بين الهدف القصدي وقوانين بنية المحيط الفيزيائي (طبيعيا كان أو تجريبيا) أو المحيط الاصطناعي (أي المنطقي-رياضي المطبق) أو حتى المحيط الإنساني وهذا الوصف يربط مقاصد المنمذج بالهدف المراد تحقيقه وبقوانين ضغوطات المحيط. وهي قوانين يمكن أن تكون طبيعية أو اصطناعية أو حتى سيكوسوسيولوجية
* وظيفة توقعية: إذ يمكن النموذج من التنبأ بتصرّف النسق المدروس وبردوده في وضعيات لم تجر ملاحظتها انطلاقا من المعرفة الحاصلة حول النسق في وضعية معينة، ذلك أن التفسير مثلما بين ذلك "ستراوس" ينطوي على ضرب من التوقع.
* وظيفة اتخاذ القرار: يوفر النموذج لصاحب القرار المعطيات الضرورية التي تسمح له بإنارة قرار يهدف إلى الفعل في النسق فيكون القرار ملائما للمشكل المطروح وما يتصل به من ضغوطات، إذ لا يجب أن ننسى أن كلّ نموذج هو تمثل يسمح بمعرفة أو فهم أو تفسير كيفية اشتغال النسق المدروس بغاية التحكم فيه أو الفعل فيه. وإن هذه الغاية تضع النموذج في علاقة لا فقط بالمنمذج ولكن أيضا بمن يستعمل النموذج والفاعلين في النسق المنمذج.
يتعلق الأمر إذن، في المستوى التداولي، بالنظر إلى النماذج على أنها وسائل سيطرة وتحكم وهو ما يعني ارتباط النشاط العلمي بالتقني مثلما بين ذلك "لادريار"، فالنمذجة تفتح على التقنية إذ «تضيف للأنساق الطبيعية أنساقا اصطناعية أو تهب الأنساق الطبيعية خاصيات جديدة و طابعا مصطنعا». والنماذج التقنية ليست محايدة وإنما هي متداخلة مع الجيهات العملية وحتى السياسية التي تحيط بالممارسة العلمية و توجهها. والبعد التداولي للنمذجة النسقية يؤكّد لنا التحالف بين العلم والمصلحة، التحالف "بين السعي إلى فهم العالم والرغبة في قولبته" على حدّ عبارة "ايليا بريقوجين" و"ايليزابات ستنجرس"، و يعلن نهائيا براغماتية المعرفة العلمية في البراديغم البنائي.
عن موقع Minerve
مواضيع مماثلة
» ابعاد النمذجة
» حدود النمذجة
» تعريف النمذجة
» كيف يساهم فعل النمذجة في تقدم المعرفة العلمية؟
» الموضوع : هل تكتشف النمذجة العلمية الواقع أم تبنيه ؟
» حدود النمذجة
» تعريف النمذجة
» كيف يساهم فعل النمذجة في تقدم المعرفة العلمية؟
» الموضوع : هل تكتشف النمذجة العلمية الواقع أم تبنيه ؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem
» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني
» لست أدري! لست أدري!
27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني
» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني
» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني
» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني