بحـث
المواضيع الأخيرة
الشغل بين الفلسفة والتاريخ
صفحة 1 من اصل 1
الشغل بين الفلسفة والتاريخ
الشغل بين الفلسفة والتاريخ
حسن قرنفل
دراسات
يعتبر العمل من الوظائف الأساسية التي تميز الإنسان عن الحيوان، إلا أن هذا الأمر لم ينظر إليه بنفس الطريقة من طرف الباحثين والمهتمين. فالبعض رأى في ذلك إكراها فرض على الإنسان فرضا، والبعض الآخر وجد فيه تفجيرا للإبداع الإنساني الذي يرقى به الإنسان على باقي الكائنات. ولا يخلو الأمر من البعدين معا.
فمما لا شك فيه أن العمل إكراه حيوي مفروض على الإنسان، لأنه مضطر للعمل لتلبية حاجياته البيولوجية المرتبطة بالتغذية والحماية من الأخطار ذات المصدر الحيواني أو الطبيعي، وهذا الإكراه هو الذي يجعل من العمل أمرا إجباريا تحول بفعل التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها الإنسانية إلى نوع من الإكراه الاقتصادي في مجتمعاتنا الحديثة
[1].
ويملك الناس بصفة عامة، تصورا مثاليا عن الماضي، إذ يعتقدون أن الأمور كانت أحسن مما يه عليه الآن، وأن كل شخص كان يحصل على ما يحتاجه دون عناء ولا جهد. وقد ازدادت هذه الفكرة رسوخا مع المذهب الطبيعي الذي دافع عنه بضراوة المفكر جان جاك روسو. وأصبح كثير من الناس يظنون أن الحياة كانت أفضل وأسلم في السابق. إلا أن الواقع يكذب ذلك بشكل جذري. فما تمنحه الطبيعة للإنسان من خيرات لا يمكن استهلاكه بالشكل الذي تقدمه، ولا بد من تدخل الإنسان من أجل تطهيره أو تنقيته من السموم والأخطار التي يحملها. فالحليب الطبيعي للأبقار الطبيعية، على سبيل المثال، يصيب بداء السل. كما أن الحياة الطبيعية الماضية كانت تجعل طفلا من ضمن ثلاثة أطفال يموت قبل اكتمال السنة، في حين لم يكن يتجاوز معدل عمر الاثنان الباقيان 25 سنة، وذلك في حدود سنة 1800 بفرنسا على سبيل المثال [2].
إن كل ما نستهلكه اليوم هو نتاج العمل الإنساني سواء تعلق الأمر بالقمح أو البطاطس أو بأشجار الفواكه أو بالحيوانات الداجنة. وهنا يجب التذكير بأن حاجيات الإنسان ليست ذات طبيعة غذائية فقط، فله حاجيات أخرى ذات طبيعة ثقافية كما هو الأمر بالنسبة للملابس ومختلف الأجهزة والتجهيزات التي يستخدمها في حياته اليومية. وهذا يدفعنا إلى استنتاج حقيقة أساسية وهي أن الإنسان مخلوق غريب لا توجد حاجياته في الكوكب الذي يعيش فيه، بل عليه أن ينتجها. وهذه الحقيقة في جوهرها مخالفة لما جاء في كثير من الكتابات التي تتحدث عن تلبية الطبيعة بسخاء لحاجيات الإنسان. فالأمر الذي لا مراء فيه هو أن الكوكب الذي نعيش فوقه غير منسجم مع حاجيات الإنسان. إنه فقط الأوكسجين الذي يعطى للإنسان بدون تدخل. أما سائر الأمور الأخرى فهي تستدعي بدل مجهودات إنسانية كبرى، بما في ذلك أبسط حاجيات الإنسان كالماء الصالح للشرب، فالحصول عليه يقتضي حفر الآبار أو تجميع المياه وتصفيتها…إلخ [3].
من هنا يمكن أن نستخلص أننا نعمل من أجل تحويل الطبيعة التي لا تستجيب مباشرة لحاجياتنا أو كلها على الأقل.
فنحن نعمل من أجل تحويل الأعشاب المتوحشة إلى حبوب (قمح، ذرة، شعير) والثمار غير القابلة للاستهلاك إلى الفواكه، والحديد إلى سيارات وطائرات…إلخ. فالنشاط الاقتصادي هو كل نشاط يهدف إلى تحويل الطبيعة إلى مواد قابلة للاستهلاك من طرف الإنسان [4].
هكذا يظهر أن الإنسان مضطر للعمل من أجل ترويض الطبيعة واستغلال خيراتها بشكل يناسبه. ولكن إذا اكتفى الإنسان بقوة يديه لإنجاز هذا العمل، فإنه لن يحقق تقدما كبيرا، ومن هنا ضرورة استعانته بالتقنيات، وهو ما يقودنا إلى الحديث عن الجانب الإبداعي في عمل الإنسان.
إن الاختراعات التقنية الجديدة هي الممر الحقيقي لتطور الإنسانية، وهي في الأصل مجموعة من المناهج والطرق المستخدمة لأول مرة من أجل تحسين الإنتاج، كما يمكن الحديث في نفس السياق عن تقليد هذه الأسباب والطرق من طرف أشخاص آخرين أو حضارات أخرى للحصول على نفس النتيجة. إن التحديات الكبرى التي فرضتها الطبيعة على الإنسان هي التي دفعته باستمرار إلى التفكير في أفضل السبل لمقاومتها أو إخضاعها. وهكذا فإن كل اختراع جديد هو انتصار حقيقي على الطبيعة وتقدم في مجال السيطرة عليها وترويضها، وفي نفس الوقت فإن الإبداع العلمي والاختراعات التقنية هي التي أسهمت بشكل فعال في تقدم الإنسان. ومع ذلك لا يمكن القول بأن الإنسانية قد خلقت عددا كبيرا من المخترعين والمبدعين. فقد عاش على سطح الكرة الأرضية، منذ ظهور الحياة، أزيد من 15 مليار من الأشخاص، ومن ضمن هذا العدد الكبير لا يوجد أكثر من 5000 مخترع، فندرة الإبداع الخلاق سمة أساسية في تطور الإنسانية [5].
الفلاسفة والعمل:
لم يهتم الفلاسفة في الماضي أو الحاضر بموضوع العمل اهتماما خاصا، غير أن الإشارات التي نعثر عليها في الكتابات الفلسفية لا تخلو من أهمية بالغة. ففي الكتاب الثاني من الجمهورية يبحث أفلاطون (428-384ق.م) عن أصل المدينة أو ما يمكن أن نسميه بالمجتمع السياسي، ويرد ذلك إلى تعدد حاجيات الإنسان التي لا يمكن أن يحققها لوحده فيفرض عليه العيش داخل جماعة من البشر. "أفيعمل كل من هؤلاء (…) ما يلزم للجميع من منتوجه، فيعد الفلاح مثلا وهو أحدهم، ما يحتاج إليه أربعة أشخاص من الطعام، فيقضي في إعداد طعامهم أربعة أضعاف الوقت اللازم له لإعداد طعامه، ثم يقاسم إخوانه الثلاثة منتوجه، أم أنه يهملهم ويعمل ما يسد حاجته، فيقضي ربع وقته في إعداد ربع مقدار الطعام، ويقضي الثلاثة الأرباع الباقية من وقته في إعداد مسكنه وكسوته وحذائه، ولا يتعب نفسه في مبادلة إخوانه الحاجات بل يعمل ما يحتاج إليه بذاته لذاته؟" [6].
وقبل أن يجيب المتحاورون في الجمهورية عن هذا التساؤل يقوم أفلاطون بالتعريف بالحاجيات الأساسية للإنسان. ويحددها في ثلاث حاجيات هي التغذية والسكن والملابس، ثم يضيف الأحذية. ومن أجل تلبية هذه الحاجيات على الإنسان أن يقوم بثلاث أنشطة مختلفة: تحضير الغذاء، وصناعة الملابس وبناء السكن. وكي يتم تحقيق ذلك يرى أفلاطون أن هنالك سبيلان:
ـ السبيل الأول: هو أن يقوم كل فرد بإنجاز هذه الأنشطة الثلاثة بالتتابع، فيقسم وقته بينها، وهذا ما يحصل فعلا في بعض المجتمعات "البدائية" حيث يقوم الإنسان بكل أنواع الأنشطة.
ـ السبيل الثاني: وهو المتبع في المجتمعات المتطورة ويقوم على تخصص كل فرد من أفراد المجتمع في نشاط من هذه الأنشطة، حيث يخصص لها كامل وقته وهذا هو ما يسمى بالتقسيم الاجتماعي للعمل [7]، وهو الرأي الذي يميل إليه.
وتقسيم العمل عند أفلاطون مسألة ضرورية لثلاثة أسباب على الأقل:
*السبب الأول هو أن الطبيعة لم تمنح جميع الناس نفس المهارات والكفاءات، وهذا ما يجعل الناس مكملين لبعضهم البعض.
*السبب الثاني هو أن الإنسان يصبح ماهرا في عمل ما إذا كان ينجزه لوحده فقط. فالتخصص يؤدي إلى المهارة وتحسين الإنتاج.
*السبب الثالث هو أن التخصص يجنب إضاعة الوقت عند الانتقال من عمل لآخر، وهكذا فإن كل مدينة حسب أفلاطون، يجب أن تتوفر على الأقل على ثلاثة أو أربعة أشخاص: مزارع، بناء، حائك، وإسكافي (صانع أحذية). والواقع أنه يجب إضافة تخصصات أخرى لأن الموارع لن يستطيع صنع محراثه بنفسه كما أن الحائك لن يتمكن من صنع أدوات عمله بنفسه أيضا، ومن هنا ضرورة إضافة الحداد والنجار…إلخ [8].
ويستفيد الجميع من تقسيم العمل فالمستعمل سيحصل على منتوج من نوعية جيدة، والمنتج سيكون مستريحا في عمله لأنه سينجز نوعا واحدا من العمل هو ذاك الذي يملك أفضل المهارات فيه. إلا أن هنالك فرقا كبيرا بين ما جاء عند أفلاطون في الجمهورية من ضرورة تقسيم العمل وما يدافع عنه اليوم رجال الاقتصاد والاجتماع. فأفلاطون لا يعير أية أهمية لارتفاع الإنتاج باعتباره أحد النتائج المباشرة المترتبة عن تقسيم العمل. إن ارتفاع الإنتاج شيء ينتمي إلى طبيعة الأشياء، وليس اختراعا اجتماعيا أو تاريخيا. بالإضافة إلى ذلك فإن أفلاطون يرى أن الهدف النهائي للعمل هو تلبية حاجة طبيعة فقط، ومن هنا نظرته إلى العمل كخدمة يقدمها المنتج للمستعمل، بتعبير آخر –لم يرد عند أفلاطون ولكن نستعيره من الاقتصاد السياسي الحديث- فإن الأشياء عند أفلاطون تتوفر على قيمة استعمال فقط، أما قيمة تبادلها فمنعدمة تماما، إن هدف مجتمع المدينة الفاضلة ليس هو إنتاج أكبر قدر ممكن من المنتوجات، كما هو الأمر في المجتمعات الصناعية، ولكن إنتاج قيم استعمال ذات جودة عليا [9].
وينطلق أرسطو كأستاذه أفلاطون من المدينة كأعلى وحدة اجتماعية وسياسية، ويرى أن وظيفتها هي توفير أسباب السعادة لأعضائها. وهذه الأسباب ذات طبيعة مادية ومعنوية، ويقوم العبيد بتحصيل الثروة الضرورية لاستمرار الأسرة، ويجعلهم أحد المكونات الأساسية لهذه الأخيرة [10].
ويعتبر أرسطو نظام الرق نظاما طبيعيا، ويصف العبد بكونه آلة للحياة "لأن وجوده ضروري لإنجاز الأعمال الآلية المنافية لكرامة المواطن الحر. والعبد آلة "منزلية" أيضا لأنه يساعد على تدبير الحياة داخل المنزل. وإذا تساءلنا من هو العبد بالنسبة لأرسطو؟ جاءتنا الإجابة بأن الطبيعة هي التي تعينه، أي جملة العوامل الوراثية والبيئية والاجتماعية، والاختلاف بين الأعلى والأدنى أو بين الممتاز والرديء أمر ملاحظ، حسب أرسطو، في كل مظاهر الطبيعة: بين الإنسان والحيوان، بين الذكر والأنثى…إلخ. وكلما وجد هذا الاختلاف كان من الأفضل للجميع أن يسيطر الأقوى على الأضعف [11]. إن الطبيعة إذن تميل إلى إيجاد التمايز بين البشر فتجعل بعضهم قليل الذكاء أقوياء البنية، وبعضهم أكفاء للحياة السياسية، وينتج عن ذلك أن البشر صنفان: صنف حر بالطبيعة وصنف عبد بالطبيعة أيضا. وفي ذلك يقول أرسطو: "إن شعوب الشمال الجليدي وأوروبا شجعان، لهذا لا يكدر عليهم أحدهم صفو حريتهم، ولكنهم عاطلون من الذكاء والمهارة والأنظمة السياسية الصالحة، لهذا فهم عاجزون عن التسلط على جيرانهم، أما الشرقيون فيمتازون بالذكاء والمهارة ولكنهم خلو من الشجاعة، ولهذا هم مغلوبون ومستعبدون إلى الأبد. وأما الشعب اليوناني فيجمع بين الميزتين: الشجاعة والذكاء. كما أن بلده متوسط الموقع، لهذا هو يحتفظ بالحرية ولو أتيحت له الفرصة لتسلط على الجميع" [12].
ومن جهة أخرى يرى أرسطو أن الأسرة بحاجة للثورة، ويمكن تحصيل الثروة بطريقتين:
*الطريقة الأولى: طبيعية وتكمن في جمع النتاج الطبيعي اللازم للحياة، وهو الأمر الذي يتم بدوره حسب ثلاثة أشكال: تربية الماشية والقنص والزراعة.
*والطريقة الثانية يسميها صناعية وتتكون من ثلاثة أنواع: التجارة البرية والبحرية، والقرض، والأجر. ويرى أن مبادلة المواد والمنتوجات تفرض على المجتمعات حين تكون هنالك قلة في بعض المواد التي تضطر لاستيرادها من الخارج، وهذا هو الأمر الذي يجعل الحاجة إلى النقود ضرورية، فهي رمز يستخدم في المبادلة. إلا أن هنالك خطرا يهدد المجتمعات بفعل استعمالها للنقود، حيث تصبح هاته وسيلة في حد ذاتها، وهو ما يؤدي بدوره إلى أن يصبح الإنتاج غاية في ذاته، لا وسيلة لإرضاء الحاجات الطبيعية، الشيء الذي يقود حتما إلى اضطراب الحياة الاجتماعية بفعل تراجع الفضيلة إلى المراتب الأخيرة وطغيان المصالح المادية [13].
ومن خلال كل هذا يتبين بأن أرسطو لا يعتبر العمل، والعمل اليدوي على وجه الخصوص، قيمة اجتماعية، فهو إكراه طبيعي. فللإنسان في الحياة وظيفة أساسية هي تحصيل الفضيلة، ويتم ذلك عن طريق البحث الفلسفي والاشتغال بالسياسة بأشمل معانيها، غير أن الفيلسوف والمواطن الحر بصفة عامة في حاجة إلى تلبية حاجياته الأساسية من تغذية وملبس ومسكن، ولو قام بنفسه بتحصيل ذلك، لما بقي له من الوقت ما يكفيه لممارسة وظيفته النبيلة: السياسة.
من هنا ضرورة أن توجد طبقة من البشر تختص في هذه الأعمال، إلا أن هذه الطبقة من البشر لا يجب أن تكون من بين المواطنين، فيأتي دور العبيد لينجزوا الأعمال المنزلية وكل الأعمال المقترحة ويتحملوا عن المواطنين الأحرار أعباء تحصيل الرزق. فلا يجوز لمن يعملون لكسب قوتهم وقوت غيرهم أن يحسبوا في عداد المواطنين. فالمواطنون، حسب أرسطو، لا يحيون حياة أرباب الآلات والحرف، لأن مثل هذه الحياة تحط من شرف الإنسان، ولا تتفق مع الفضيلة. كما لا يجوز للمواطنين أن يشتغلوا بالزراعة، لأنهم في حاجة إلى فراغ؛ وإن كان من حقهم أن يملكوا الأرض الزراعية، أما فلاحة الأرض فتترك للعبيد من جنس آخر [14].
وهكذا يمكن القول بصفة عامة بأن نظرة الفلسفة اليونانية القديمة إلى العمل كانت نظرة احتقار واشمئزاز. وقد ظلت هذه النظرة الفلسفية السلبية للعمل حاضرة عند كل الفلاسفة الذين أتوا بعد أرسطو إلى حدود القرن الثامن عشر. ولم تتغير الوضعية بشكل جذري إلا مع الفيلسوف الألماني هيجل(1770-1831) الذي أعطى لمفهوم "العمل" معنى بعيدا وذلك في كتابه La phénoménologie de l'esprit (1807). ففي الفصل المعنون "جدل السيد والعبد" يعرف هيجل العمل باعتباره إنتاجا للإنسان بواسطة الإنسان.
وهنا يهتم بإظهار الكيفية التي ينتقل بها الفرد من مجرد الشعور بالوجود Sentiment de soi إلى الإحساس بالذات Conscience de soi، أي إلى الاعتراف به كإنسان أو الانتقال من درجة الحيوانية إلى درجة الإنسانية [15]. إن الإنسان حسب تعريف هيجل كائن رغبة être de désir لأنه لا يستطيع أن يعيش دون الحصول على شيء آخر غير ذاته، ومن هنا بحثه عن الغذاء واستهلامه. فالرغبة تدفعه إلى القيام بأفعال، حتى ولو كانت تعبيرا عن نفي المعطى المباشر (البحث عن الأغذية واستهلاكها وهضمها) فإنها في نفس الوقت تأكيد لحقيقة وجوده. فباستهلاك الأغذية يحافظ الكائن الحي على وجوده، إلا أنه لا ينفصل من خلال هذا الفعل وحده، عن المرحلة الحيوانية لأنه يظل حريصا على تلبية حاجاته الحيوية، ومن ثمة لا يتجاوز مرحلة الشعور بالوجود إلى مرحلة الإحساس بالذات. ومن أجل تحقيق ذلك يجب أن تتحول رغبة الإنسان من المواضيع المادية (الغذاء مثلا) إلى مواضيع أخرى غير مادية. إن اعتراف ذات أخرى بوجوده هو الكفيل بتلبية وتحقيق شعوره بذاته، وهذا ما يمكن تلخيصه في القول بأن ما يرغب فيه الإنسان قبل كل شيء هو أن يعترف به كإنسان من طرف إنسان آخر. ومن هنا فإن الواقع الإنساني لا يمكن أن يكون إلا ذا طابع اجتماعي لأن الرغبة في الاعتراف والتقدير من طرف الآخر ترغم الإنسان على الدخول في علاقات مع أشخاص آخرين [16]. إن الفرق بين الإنسان والحيوان، حسب هيجل هو أن الحيوان يرغب في الحفاظ على وجوده، أما الإنسان فإنه لا يكتفي بأن يكون مجرد كائن حي، بل يريد أن يكون بالأساس إنسانا، وأن يعترف به كذلك من طرف أشخاص آخرين. ومن أجل تحقيق ذلك، فإن الإنسان على استعداد للقيام بأي شيء، بل إنه يذهب إلى حد نفي ذاته والمخاطرة بها. إنه يخاطر بذاته لكي يثبت أنه موجود. فالإنسان يعتقد أن هنالك مجموعة من القيم تتجاوز قيمة الحياة نفسها، وعلى رأس هذه القيم توجد الحرية.
وإذا انتقلنا إلى مثال توضيحي يصور كائنين، فإن كل واحد منهما لن يكون إنسانا بالنسبة للآخر (بمعنى كائن في ذاته) إلا إذا اعترف به الآخر بتلك الصفة، ولن يتمكنا معا من ذلك إلا إذا برهنا عليه، وهو الأمر الذي يتحقق فعلا حين يظهر كل واحد منهما للآخر بأنه غير متمسك بالحياة، ولكن عليه أيضا أن يترك الآخر يفعل الشيء نفسه. وهنا سيدخل الإثنان في صراع قاتل من أجل الاعتراف بذاتيتهما. وقبل اندلاع هذا الصراع تكون كل ذات واعية بوجودها فحسب وليس بوجود ذات الآخر، وفي هذه الحالة فإن الإحساس بالذات لا قيمة له في غياب الآخر واعترافه بذلك [17].
إن هيجل يرى أن المخاطرة بالحياة هي التي تعطينا الشعور بالحرية. وإذا عدنا إلى المثال السابق، فإن المواجهة بين الطرفين لا يجب أن تصل إلى حد الموت، لأن موت أحدهما يعني اختفاء الاعتراف بالذات من طرف الميت لصالح الحي، ومن هنا حرص الأشخاص على الحصول على الاعتراف من طرف الآخرين دون قتلهم. والحل لهذه الورطة يكمن في استعباد الآخرين بدل قتلهم، وهنا يجب التأكيد، حسب هيجل، أن الاستعباد ليس نفيا للآخر، بل إنه حافظ عليه، وحفاظ على اعترافه [18]. فالصراع القاتل بين الأفراد ينتهي بهم إلى إقرار علاقات قائمة على الهيمنة والعبودية. القوي يهيمن والضعيف يستعبد ليحتفظ به ككائن يقر بوجود الكائن المهيمن. وفي ظل هذا الصراع يقوم الضعيف المستعبد بإنجاز المهام المنوطة بالقوي المسيطر، فهذا الأخير لن يشتغل لأن العبد يشتغل مكانه [19]، وهنا نلتقي مع ما جاء عند أرسطو.
ويبدو للوهلة الأولى أن العبد يوجد في وضعية دونية، إلا أن هيجل يرى أنه بفضل عمله سيكون قويا ومتفوقا على سيده، وسيرتقي بذلك إلى درجة الإنسانية، وسيحصل تحول كبير على الوضعية الأولى للسيد والعبد، حيث سيصبح العبد سيد السيد. لماذا؟ لأن العبد لم يضعف أمام الخوف من الموت. إنه في هذا المستوى يتساوى مع الحيوان، الذي لا يتردد في المخاطرة بحياته من أجل حاجة حيوية، إلا أن قلق الموت الذي يواجهه العبد بتفوق يمنحه قيمة أساسية وهي تجاوز القلق وانتزاع الاعتراف من طرف الآخر [20].
وخلافا لما يمكن أن نتوقعه، يضيف هيجل، فإن السيد في علاقته مع العبد لا يشعر بالرضى عن وضعه، لأن الاعتراف بإنسانيته يأتي من طرف شخص لا يعترف هو بإنسانيته. إضافة إلى ذلك فإن السيد يكتفي بالاستهلاك وبالتالي يقضي على نتيجة عمل العبد. أما العبد فعلى العكس، يجعله تحكمه في الأشياء مساهما في الخلق، ويتمكن بذلك من السيطرة على الطبيعة وأنسنتها وذلك عن طريق العمل، ومن ثمة ينفصل نهائيا عن العالم الحيواني ويرتقي إلى درجة الوجود الإنساني الحقيقي [21].
ويضيف هيجل بأن العبد يضع بصمته الشخصية على الأشياء التي يصنعها وهنا يكمن الفرق بين الإنسان والحيوات. فالحيوان يدخل بدوره في علاقات مع العالم من حوله إلا أنها علاقات ساتهلام، أما الإنسان، وبفعل قدرته على كبح جماح رغباته الآنية فإنه يؤسس العالم élabore le monde، وبذلك فإن العبد الذي يصنع الأشياء يحقق ذاته فيها، بل يمكن القول بأنه يصبح آخر.
وهذه الكينونة الأخرى (أن يصبح الإنسان آخر) هي السبيل الوحيد للمرور نحو المرحلة العليا من الإنسانية. وهكذا يتمكن العبد بفضل العمل من تغيير الطبيعة الخارجية ومن تغيير طبيعته أيضا. إنه يتجاوز درجة الحيوانية ليصبح إنسانا، ويتأكد بذلك أن الإنسان لا يتوفر على طبيعة معطاة بشكل نهائي ثابت وقار. إن طبيعة الإنسان عبارة عن صيرورة متطورة، تتحول باستمرار بتحويل الإنسان للطبيعة. ويتأكد من خلال ذلك أيضا أن الوجود الحقيقي للإنسان هو الوجود التاريخي، وبأن الطبيعة الحقيقية للإنسان هي الثقافة la culture، أي قدرته على خلق طبيعة ثانية داخل الطبيعة، إن الإنسان هو ما يفعل في الطبيعة وما يفعل بذاته [22].
ويتبين إذن من خلال عرض جدلية العبد والسيد كما أوضحها هيجل أن العمل هو أداة التحرير الوحيدة للإنسان. فعمل العبد هو الذي يحرره من سيطرة الطبيعة كما يحرره من سيطرة السيد فيما بعد، إن علاقات الإنسان بالطبيعة ليست علاقات معرفية فقط، ولكنها أيض وقبل كل شيء علاقات تحويل وتغيير متبادلة، فالعمل في نهاية يشتغل لصالح السيد، وهذا يعني أن العمل نشاط اجتماعي ينجزه الناس بعضهم لصالح بعض من أجل التلبية المتبادلة لحاجياتهم، إن العمل يكون بذلك اللحمة الحقيقية للعلاقات الاجتماعية [23].
ويقوم كارل ماركس استنادا على تحليل هيجل السابق للعمل بالتمييز بين العمل الإنساني والأنشطة التي تقوم بها بعض الكائنات الأخرى (بعض الحشرات والطيور)، ويستخلص أن العمل هو أساسا فعل طرفاه الأساسيان هما الإنسان والطبيعة. ويلعب الإنسان في مواجهة الطبيعة دور قوة طبيعية، فالقوة التي يتوفر عليها الإنسان والكامنة في يديه ورجليه ورأسه تستخدم بشكل إيجابي من أجل تحقيق أهدافه، وفي نفس الوقت يؤثر بعمله هذا في الطبيعة الخارجية ويحولها. وبتحويل الطبيعة يحول طبيعته الخاصة sa propre nature أيضا، وينمي الملكات والقدرات الراقدة فيه. إن العمل شيء ينتمي إلى المجال الإنساني فقط، صحيح إن العنكبوت يقوم بعمليات تشبه تلك التي يقوم بها صانع الزرابي، كما أن النحلة تهش أكثر من مهندس بما تقوم به، إلا أن ما يميز ما يقوم به أسوأ مهندس وأمهر نحلة، هو أن المهندس ينجز في رأسه ما سيقوم به قبل تنفيذه. إن النتيجة المحصل عليها بواسطة عمل الإنسان توجد بشكل قبلي في مخيلته [24].
إن العمل عند ماركس نشاط واع، متأمل ومقصود activité consciente réfléchie, volontaire فالإنسان يتمثل ويتخيل في البداية ما ينوي القيام به. وقدرته هاته على تمثل أهدافه وتنظيم حركاته وأعماله طبقا لهذه الأهداف تميز عمل الإنسان عن الأنشطة الغريزية التي تقوم بها الحيوانات. وما دام عمل الإنسان ليس شيئا غريزيا فإنه يرتكز على الاهتمام والإرادة. ويركز ماركس بقوة على هذه النقطة، فالعمل في نظره ليس عفويا ولا طبيعيا، وهو لا يتطلب مجهودات عضلية فقط من أجل تحويل الطبيعة، ولكن استعدادا سيكولوجيا أيضا، حيث يقتضي الحفاظ على الإرادة الإنسانية في مستوى محدد من التوتر والانفعال المستمر.
وحين يعمل الإنسان فإنه يحقق ويخرج ويموضع objectivise قدراته الخاصة، ومن ثمة فإن الهمل ليس فقط تحويلا للطبيعة ولكن أيضا تحويلا لطبيعة الإنسان نفسه، ويعترف ماركس بكل موضوعية بالمرجعية الهيجلية لهذه الفكرة المحورية في تحليله لعمل الإنسان [25].
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لعمل الإنسان في الفترات السابقة، فإن الأمور ستعرف منعطفا جديدا مع ظهور الرأسمالية، حيث سيتحول العمل من قوة محررة للإنسان إلى نشاط مستلب aliéné في ظروف نمط الإنتاج الرأسمالي. وقد استخدم ماركس هذا المفهوم في مخطوطات 1844 التي لم تنشر إلا خمسين سنة بعد وفاته، وألهمت عددا كبيرا من الفلاسفة والمفكرين [26]. وقد قصد كارل ماركس بمفهوم الاستلاب التشويه العميق الذي يلحق العمل داخل نمط الإنتاج الرأسمالي. ففي ظل هذا النظام يكون العامل مستغلا، ولأنه يشعر بذلك فإن العمل يتوقف عن أن يكون أحد أسباب ومظاهر وجوده (أي الإنسان) ليصبح مجرد وسيلة عيش. إن العمل في ظل هذه الظروف ليس تأكيدا للكائن العامل ولكن نفي له [27] ولمفهوم الاستلاب الذي استخدمه ماركس معنى قانوني، حيث يعني التنازل أو البيع للآخر شيئا نملكه. كما أن النعت اللاتيني alienus، وهو مصدر الكلمة، يعني الآخر أو الأجنبي، ومن هنا استعمال كلمة الاستلاب العقلي aliénation mentale للإشارة إلى شخص لم يعد يتحكم في نفسه وسلوكه، أي شخص أجنبي عن ذاته.
ويتجسد الاستلاب في علاقة الشغل من خلال تجريد العامل من نتاج عمله الذي ليس بإمكانه مراقبته، ليصبح المنتوج، وهو التجسيد لعمل العامل، بمثابة قوة معادية تسيطر تماما على العامل باعتبار أن هذا المنتوج أصبح ملك شخص آخر هو الرأسمالي الذي باع له العامل قوة عمله، فكأن العامل في هذه العملية قد فقد حقيقته [28].
إلا أن الاستلاب لا يهم منتوج العمل فحسب بل يهيمن على كل مراحل العمل. فالعامل ليس حر أثناء القيام بالعمل. إنه مقيد بسلوك محدد وبنشاط بدني مرسوم مسبقا، الأمر الذي يعطي العامل الانطباع بأنه قد انفصل عن ذاته، فعمله ليس اختياري. إنه عمل مجبر. فهو ليس تلبية لحاجة في حد ذاته، ولكنه وسيلة لتلبية حاجيات خارج العمل، وباختصار فاستلاب العامل يرجع بالأساس لكونه يشتغل فقط ليستمر حيا [29].
ـ تطور العمل عبر التاريخ:
لم يهتم الباحثون بعصر "ما قبل التاريخ" كثيرا بظاهرة العمل، لأن الأفراد خلال هذه الفترة كانوا في بحث مستمر عن وسائل البقاء من أجل الحفاظ على النوع، كما أن الأنشطة التي كان يقوم بها الإنسان لا يمكن أن توصف بأنها عمل، على الأقل بمعنى العمل كما نتداوله اليوم، أي كنشاط منظم ومتخصص ومؤدى عنه من أجل إنتاج خدمة أو منتوج [30].
والواقع أن العمل لم يظهر بشكل فعلي إلا مع الإنسان الملقب Gro-Magnon ومع homo-sapiens (ثلاثون الف سنة تقريبا قبل ظهور المسيح) حيث لم يعد النشاط الإنساني مقتصرا على الأنشطة الأولية (جني الثمار، الصيد) فقد تمكن الإنسان من بناء الأكواخ والإقامة فيها بدل المغارات كما كان الحال مع الإنسان النيودرتال، وأصبح الإنسان قادرا أيضا على حياكة الأثواب وإنجاز بعض المنحوتات والرسوم، كما سيتحول الإنسان ابتداءا من هذه المرحلة إلى ممارسة أنشطة أكثر تعقيدا وأهمية من تلك المرتبطة بالتفتيش في الأرض بواسطة العصي بحثا عن الحشرات والفطريات والجذور. ويميل بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأنه يمكن العثور على نماذج من الحياة والأنشطة الممارسة من طرف الإنسان في هذه المرحلة في بعض المجتمعات البدائية المعاصرة المنتشرة في استراليا على سبيل المثال، والتي كانت موضوعا لعدة أبحاث من طرف الأنتروبولوجيون [31].
وقد أصبح حوض البحر الأبيض المتوسط ابتداءا من الألفية السابعة قبل ميلاد المسيح، لأسباب مناخية، مسرحا لتطورات هامة أهمها ظهور الزراعة. وبالفعل أدت زراعة القمح والشعير والحمص والفول إلى استقرار السكان بهذه المنطقة، وظهرت بذلك أولى الحضارات الإنسانية التي كان من أول نتائجها انتقال الإنسان من نمط العيش المتنقل (الرحل) إلى نمط عيش يستقر فيه الأفراد بالأراضي التي يزرعونها [32]. وقد لعب المحراث دورا كبيرا في هذه العملية، لأن هذه الأداة شكلت تقدما أساسيا في خدمة الأرض، وأدت بدورها إلى ظهور تقنيات جديدة وتطورات جديدة، فعلى سبيل المثال يقتضي المحراث وجود حيوانات قوية تجره، وهو الأمر الذي سيدفع الإنسان في اتجاه تدجين الحيوانات واستخدامها [33].
ولأن كثيرا من الأعمال أصبحت تتطلب جهدا بدنيا فقد مالت الشعوب الأولى إلى الاستعانة بالعبيد وبأسرى الحروب لإنجاز المهام والأعمال الكبرى دون اهتمام بتحسين ظروف عمل الإنسان. وكان يقدم للعاملين بعض المواد الغذائية كالقمح والشعير، ثم الخبز والزيت فيما بعد. وفي حالات أخرى كان يقدم لهم أيضا كسوة ووسائل تدفئة (حطب). وهنا نكتشف أن المشغلين الأوائل كانوا يدركون تماما أن العمال كانوا في حاجة إلى وسائل العيش من أجل الاستمرار والقيام بمهامهم [34].
ومع الحضارة اليونانية ظهر أول تقسيم إنساني للعمل، وقد قام أساسا على التمييز بين العمل اليدوي والعمل الفكري، فصنف السكان إلى فئات اجتماعية تقوم بالأعباء والأعمال المجهدة الكبرى. والواقع أن العمل اليدوي قد عرف انتكاسة كبرى مع الحضارة اليونانية الكلاسيكية، ففي السابق سادت أسطورة برومثيوس القائمة على تمجيد العمل الإنساني والاحتفاء به باعتباره مصدر كل الخيرات. ولكن يونان العصر الكلاسيكي ستعرف توجها آخر خصوصا في أثينا، حيث أصبح الصانع يحظى بقيمة اجتماعية متدنية [35]، وهذا ما أكده أرسطو نفسه في كتاب السياسة كما أوضحنا ذلك.
لقد اعتقدت الحضارة اليونانية في عصرها الكلاسيكي أن ما يرفع قدر الإنسان الحر هو بناءات الفكر وليس ما يصنعه بيديه، وينتج عن ذلك أن الأعمال المهنية الوضيعية Viles تنجز من طرف العبيد لصيانة المواطن عن القيام بها، علما، كما سبقت الإشارة، بأنه ليس كل سكان المدينة مواطنون، فالعبيد مستثنون من ذلك. وعلى العموم، فإن التصور الذي ساد في اليونان في العصر الكلاسيكي هو أن وظيفة العمل ي إنتاج الحاجيات الضرورية من مأكل وملبس لسكان المدينة، دون تفكير في تحقيق أرباح مادية من وراء عملية الإنتاج، لأن الأهم في الحياة هو التأمل والتفكير وممارسة السياسة والخطابة وهي أمور نبيلة ترتبط بالفكر الإنساني، ولكن لما كان الجسم البشري في حاجة إلى تغذية، فلا بد من أن تختص فئة من السكان في إنتاج حاجياته الإنسانية، على أن هذه الفئة من السكان لن تكون هي الفئة الفضلى في المجتمع، بل على العكس إنها تحتل أدنى المراتب [36].
وقد استمر الأمر بنفس الشكل في الإمبراطورية الرومانية بالرغم من تطور الصناعة والتجارة. حيث ظل العمل من اختصاص الفئات الفقيرة والعبيد والفلاحين، وكان شيشرون Cicéron يحتقر بشدة الأشخاص الذين يستأجرون لأعمالهم وليس لمواهبهم [37]. وكان التصور العام هو أن كسب المال عن طريق العمل عبودية.
ولم تستطع المسيحية بعد انتشارها أن تغير شيئا من هذه الوضعية بل إن ما قالت عن الجنة والحياة الأولى للإنسان صار في نفس الاتجاه، حيث تم التأكيد أن الإنسان في عصره الذهبي كان يعيش حياة شبيهة بحياة الملائكة، فالروح خالية من الهموم ومتحررة من العمل والألم. وبعد نزول الإنسان إلى الأرض حكم عليه أن يعيش من جهده وعرق جبينه. عقابا له على خطيئته [38].
ولم تتغير الأمور كثيرا في مرحلة الإقطاع إذ كان لزاما على القن Le serf بأن يعمل ويشقى من أجل الحصول على حماية السلطات المدنية ومن أجل الحصول على الخلاص في العالم الآخر. أما الطبقتان الأخريان المشكلتان للمجتمع الإقطاعي، وهي طبقة رجال الكنيسة Oratères وطبقة المحاربين Guerriers فلم تكونا تمارسان أي نشاط من تلك الأنشطة التي يمارسها الفلاحون أو الصناع، فقد كانت في نظرهم مهام مهينة وغير ملائمة للسادة الذين يجب أن يهتموا بالسياسة والجانب العسكري أو الديني. إلا هذا النموذج الإقطاعي لم يكن حاضرا بنفس الشكل وبنفس القوة في المناطق التي يسطر فيها الإقطاع، ثم سرعان ما تكونت داخل المجتمع الإقطاعي نفسه فئة اجتماعية جديدة هي فئة الصناع والتجار التي كان أعضاؤها يمارسون أنشطة حرة بعيدة عن رقابة الإقطاعيين، الأمر الذي دعم استقلاليتهم إلى أن أصبحوا يشكلون بذور طبقة اجتماعية جديدة في المدن، خصوصا بعد تنامي قوتهم الاقتصادية. وقد رافق هذه التحولات الاجتماعية تحول على مستوى المواقف داخل مكونات المجتمع الإقطاعي نفسه حيث لم تعد الكنيسة ترى في العمل اليدوي والتجارة أعمالا غير فاضلة، بل على العكس مال كثير من القساوسة إلى اعتبار العمل فضيلة أساسية، وتم تشجيع رجال الدين المقيمين داخل الأديرة والكنائس على ممارسة الحرف والصنائع ومختلف المهن. كما أصبحت الكنيسة ترى في الفراغ رذيلة يجب تجنبها [39].
وقد عملت روح النهضة والإصلاح التي عرفتها أوروبا بعد ذلك على ترسيخ هذه التحولات في النظرة إلى العمل. فمارتن لوثروجان كافلن، اللذين قادا حركة الإصلاح الديني في أوروبا، ساهما بشكل فعال في إزاحة التصورات القديمة المرتبطة بالعمل وقيمته المتدنية. واصبح التيار المسيحي الجديد يلح على ضرورة أن يقوم المسيحي بإنجاز المهنة أو الحرفة التي أوكلها الله به، واعتبر ذلك واجبا من الواجبات الضروري القيام بها. ولم يعد هنالك تعارض بين العمل اليومي وعبادة الله. كما أصبح العمل والإخلاص في إنجازه وسيلة من وسائل التقرب إلى الله وعبادته. وغدا النجاح الذي يحققه الإنسان بفضل التجارة أو الصناعة دليلا على الحظوة الكبيرة للإنسان عند الله التي يحصلها بفضل العمل. وهذا التصور الجديد للتقرب من الله وارتباطه بالعمل الإنساني سيكون له تأثير كبير على انطلاق الرأسمالية [40] [ماكس فيبر].
ومع ظهور الإرهاصات الأولى للرأسمالية أصبحت طبقة النبلاء وبشكل خاص الأرستقراطية المرتبطة بالقصر، تجد صعوبة كبرى في الحفاظ على مواقعها، وظهرت على الساحة الاجتماعية أرستقراطية جديدة ذات أصول جديدة، تدعى بأرستقراطية البذلة Aristocratie de robe أخذت تنافس الأرستقراطية التقليدية في ممارسة النفوذ الاجتماعية، كما أن بورجوازية الأعمال أصبحت تتقوى شيئا فشيئا. وغدا الرخاء الاجتماعي مرتبطا عند هاتين الطبقتين الجديدتين بالنشاط الاقتصادي، أي بممارسة التجارة والعمل. ويرى المؤرخ الفرنسي الكبير فرناند بروديل أن هذه البورجوازية الجديدة تعايشت لمدة قرون مع الأستقراطية وتمكنت الطبقتان من العيش جنبا إلى جنب في جو من التنافس الحاد. وقد استفادت البورجوازية من أخطاء وعثرات الأرستقراطية ومن نمط عيشها ووقت فراغها، ومن عدم قدرتها على استقراء المستقبل من أجل الحفاظ على ممتلكاتها نتيجة اعتمادها على الربا. وانتهت البورجوازية إلى الامتزاج التام بالأرستقراطية وتذويبها داخلها [41].
وأدت القوة الصاعدة للصناع والتجار إلى تشكيل ما سمي بجماعات مهنية أو وداديات مهنية Compag-nonnage. وهي عبارة عن تنظيمات كانت تضم الحرفيين والصناع ومستقلة عن أية سلطة دينية أو فيودالية. وقد خلقت بنفسها شروط ديناميةكيتها الخاصة وقيمها وأصبحت تؤثر على المكانة التي يشغلها العمل كقيمة أساسية في المجتمع. وأخذ أعضاء هذه التنظيمات ينظمون سوق العمل: العرض والطلب، كما أخذوا يراقبون التكوين والتشغيل ويقيمون تقاليد وأعراف خاصة بالمعاملات الاقتصادية والتجارية. وتوطدت بذلك قيم التضامن المهني والحرفي داخل هذه التنظيمات. وبالرغم من الطابع المتقدم لهذه الممارسات فإن الثورة الفرنسية لم تسترح لها وسارعت بمنعها سنة 1791، وذلك خوفا من أن يؤدي ذلك إلى تشتيت المجتمع وتقسيم الدولة [42]. ومن هنا يتضح أن إعادة الاعتبار للعمل كنشاط اجتماعي لم يرافقه بالضرورة تكريم العمل وتمكينهم من حقوقهم، إذ ظلت الفئات العامة بعيدة عن السلطة والتأثير عليها.
وتمكنت بدل ذلك الطبقة البورجوازية، في كثير من الأحيان بتواطئ مع الأرستقراطية، من الوصول إلى السلطة، أو على الأقل التأثير عليها. ولم يكن العمل بالنسبة للبورجوازية سوى وسيلة أساسية للحصول على فائض القيمة وتكديس الثروات، ومن هنا فإن المجتمع البورجوازي الصاعد، وإن كان قد أعاد الاعتبار للعمل، فإنه لم يهتم أبدا بتحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للعمال. وهو الأمر الذي أدى إلى اشتداد الصراع بين الطبقة البورجوازية والطبقة العاملة. ومن أجل الدفاع عن حقوقهم وصيانتها عمد العمال في كثير من الدول الأوروبية ابتداءا من القرن 19 إلى إنشاء تنظيمات نقابية. وبعد صراع طويل أصبح ممثلو العمال يتدخلون في الاجتماعات والنقاشات والمواجهات وكل القضايا التي تهم العمال. وسارعوا إلى بلورة مطالبهم وتنظيم هياكلهم، وهو ما مكنهم من انتزاع عدد كبير من المكاسب همت ظروف العمل وحقوق العمال [43].
وقبل إنهاء الحديث عن هذه المسألة يجذر بنا الإشارة، ولو بشكل موجز، إلى واقع العمل في الحضارة العربية الإسلامية. وكما هو معروف فإن مدينة مكة التي ظهر فيها الإسلام كانت مركزا تجاريا كبيرا. وكان كل أسياد العرب وكبارهم يمارسون النشاط التجاري سواء بشكل مباشر أو بتسخير بعض الأشخاص للقيام ببعض المعاملات ومرافقة القوافل التجارية. وبمجيئ الإسلام وامتداد الفتح الإسلامي انخرط عدد كبير من المسلمين في الفتوحات وأهملوا التجارة، وبإشعاع الدعوة الإسلامية ودخول شعوب جديدة في الإسلام ظهرت معالم حضارة إسلامية متجسدة في حواضر كبرى تمارس فيها مختلف الأنشطة الاقتصادية. وأصبحت المدن مراكز الحرف والمهن، وصارت حسب بعض الباحثين "مسرحا لحركة عمالية واضحة، وتمثلت في قيام تنظيمات الحرف والأصناف، وفي ظهور تنظيمات عنيفة هي تنظيمات العيارين والشطار التي نمت وانتظما إلى حركة الفتوة والأخية" [44]. وقد تبلورت هذه التطورات في القرنين الثالث والرابع للهجرة (التاسع والعاشر للميلاد) وأصبح التفاوت الاجتماعي المرتبط بالإمكانات المادية أمرا واضحا. وفي هذا الخصوص صنف إخوان الصفا الناس في رسائلهم على أساس مادي. وهكذا رأوا أن المجتمع العربي الإسلامي ينقسم إلى صناع يعملون بأيديهم وأدواتهم، وتجار "يتبايعون بالأخذ والعطاء غرضهم طلب الزيادة فيما يأخذون على ما يعطون" ثم أخيرا أغنياء يملكون المواد "الأولية" ويشترون البضائع المنتجة [45].
وقد ارتبط اقتصاد العالم العربي الإسلامي ارتباطا وثيقا بالحركة التجارية العالمية التي كان يراقب طرقها الأساسية والتي تصل الشرق الأقصى بأوروبا، إلا أن الاكتشافات الجغرافية التي شهدها العالم ابتداء من القرن 15 والتي أدت إلى ظهور طرق جديدة بعيدة عن الأراضي العربية كان من نتائجها تراجع الدور الاقتصادي للمنطقة العربية. في نفس الوقت حاولت الدول الأوروبية السيطرة على البلاد العربية، وتعددت المحاولات في هذا الجانب ابتداءا من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واتخذت في البداية شكل معاهدات تجارية أبرمت مع الباب العالي (الدولة العثمانية) من أجل تسهيل التغلغل إلى الأسواق العربية [46].
ومع ذلك فإن الصناعة في نهاية القرن الثامن عشر، لم تكن راكدة تماما، بل إن صناعة النسيج من قطن وحرير كانت في وضع جيد، وكان إنتاجها يكفي حاجة الأسواق ويصدر بعضه، إلا أن أساليب الصناعة بقيت تقليدية، وبدا واضحا أنها لن تستطيع مجاراة الصناعة الأوروبية من حيث الأساليب العلمية والتنوع والأثمان. وسرعان ما بدأ الاندحار في مطلع القرن التاسع عشر حيث بدأت الصناعات الأوروبية تغزو الأسواق. ولم تبذل الدولة العثمانية أي مجهود، ولم تصدر عنها أية محاولة جادة لمواجهة الأزمة التي أخذت تهدد الصناعة في البلاد الإسلامية. وجاءت المحاولة من محمد علي في مصر، إذ حاول الانتقال بمصر من اقتصاد الكفاف إلى الاقتصاد المركب، وتجسد ذلك بالخصوص في ثورته على نظام ملكية الأراضي وتركيزه على زراعة تعطي محاصيل تجارية، ثم تحسين طرق المواصلات لتيسير التجارة، بالإضافة لذلك فإنه اتبع نظام الاحتكار في التجارة، حيث كان يشتري المحاصيل من الفلاحين بأسعار محدودة ويبيعها للمصدرين الأجانب بفوائد كبرى. وحاول محمد علي إنشاء صناعة حديثة أيضا، ولهذا الغرض احتكر كافة الصناعات وتولى تجهيز الصناع بالمواد الأولية واشترى إنتاجهم بأسعار محددة وتولى بيعه. ولكن رغبته في تنمية قوة مصر الإنتاجية وحاجة قواته المسلحة ونصيحة بعض الخبراء جعلته ينشئ سنة 1818 صناعة حديثة. فاستورد الآلات من أوروبا واستخدم التقنيين وأنشأ معامل عديدة. ومع بداية 1830 أصبحت معامله تنتج منتوجات قطنية وصوفية وحريرية بالإضافة إلى الورق والزجاج والسكر والمصنوعات الجلدية وبعض المواد الكيمازية. وحاول في نفس الوقت إعداد أشخاص مدربين تدريبا حديث فأرسل حوالي 300 مبعوث إلى أوروبا، وأدخل أضعاف هذا العدد إلى المدارس الحديثة التي أنشأها لدراسة الطب والهندسة والكيمياء [47].
وهكذا حاول محمد علي أن ينفذ برنامج تصنيع إجباري، فحصل على المال الضروري من أرباح الاحتكارات التجارية ومن الضرائب والقروض الإجبارية، ويعود نجاحه إلى الحماية الإدارية لصناعاته. ولكن الضغط الأوروبي، بتواطئ الباب العالي، قوض هذه الحماية وعرض الصناعة الناشئة إلى منافسة لصناعة الأوروبية القوية وهو ما أدى إلى انهيارها. ولم يكن محمد علي حرا في فرض الرسوم على الواردات، إذ كان مقيدا باتفاقيات الباب العالي مع الدول الأوروبية، فقد كانت تربط أوروبا بالدولة العثمانية معاهدة (يالتا-ليمان) 1838 التي فتحت الباب أمام البضائع الأوروبية لقاء حق جمركي لا يتعدى 5%. وقد شكل ذلك ضربة قاضية لنظام الاحتكار في مصر، وحاول محمد علي تجاهل هذا الواقع في بداية الأمر، لكنه لم يستطع ذلك بعد 1840 حين ضربت القوات الأوروبية قواته، وبذلك تعرضت صناعاته للمنافسة الأوروبية وأخذت تضعف وتتراجع ولم تعش بعد وفاته.
ولم تجر بعد ذلك أية محاولة جدية أخرى في الدولة العثمانية لمواجهة الصناعات الأوروبية. فواجهت الصناعة المحلية أزمة واضحة بعد الربع الأول من القرن التاسع عشر، ولم يأت النصف الثاني من القرن حتى تدهور وضعها بشكل مأساوي، إذ لم تعد الصناعات القائمة تكفي الحاجيات المحلية الضعيفة أصلا بفعل ضعف القوة الشرائية للسكان. وتدهورت الصناعات العائلية وكادت أن تنهار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في نفس الوقت الذي اكتسحت فيه البضائع الأوروبية الأسواق المحلية [48].
وفي وضعية من هذا القبيل لا يمكن أن يكون للعمل، وعلى وجه الخصوص العمل اليدوي، قيمة اجتماعية كبرى بفعل ضعف أدائه وضعف مردوديته وعدم قدرته على تأمين الحاجيات الضرورية للمشتغلين به. وظل المجتمع العربي الإسلامي، كما كان الأمر في السابق، مجتمعا يرى في التجارة أفضل وسيلة للعيش.
ـ الشغل، اللاشغل، البطالة.
تعتبر هذه المفاهيم الثلاثة أساسية لفهم عالم الشغل، فهي مختلفة عن بعضها ولكنها مرتبطة ببعضها أيضا. وما يميز الشغل هو كونه نشاط يقوم به الإنسان من أجل الاستمرار في الحياة، ومن ثمة فإنه اتخذ عند كثير من الحضارات طابع الإكراه، واعتبره الكتاب المقدس عقابا للإنسان على عصيانه الله وارتكابه الخطيئة الأولى، واقترن بذلك العمل بالشقاء والمعاناة، ولكي يخفف الإنسان من معاناته شرع في استخدام بعض الأدوات، فاستعان بالأحجار التي صقلها ليسهل استخدامها، ثم صنع أدوات من حديد كالفؤوس والسيوف، وقد أحدثت هذه التقنية الإنسانية قطيعة مع ما يمكن تسميته تجاوزا بـ"التقنية الحيوانية" التي يمكن وصفها بأنها تقنية تكرارية. فالتقنية الإنسانية تفترض نوعا من الذكاء والتعليم، ونقل هذا التعليم إلى أفراد آخرين. كما أنها تجديد مستمر. فهنالك تحسين مستمر لوسائل العمل، فقد تطورت أدوات العمل،ثم فيما بعد آلات العمل، كما تم اكتشاف مصادر جديدة للطاقة: البخار، الكهرباء، الذرة، ونتج عن ذلك ارتفاع مستمر في الإنتاج.
ويرى أحد الباحثين أن التكوين الفيزيولوجي للإنسان هو الذي مكنه من استخدام الأدوات بل وفرض عليه استخدامها. فإذا عدنا إلى الماضي البعيد للإنسانية سنجد أن الإنسان لم يتميز في البداية عن الحيوان بالعقل، ولكن بخصائصه الفيزيولوجية والبدنية. فما ساعد الإنسان في مواجهته للطبيعة هو كونه كائن يمشي على قدميه وليس على أربعة قوائم كباقي الحيوانات. وهذه الطريقة في التحرك مكنت من تحرير أيادي الإنسان التي لم تعد وسائل سير وحركة كما هو الأمر بالنسبة للحيوان، وأصبحت شيئا فشيئا وسائل إمساك وقبض Préhension، وأدى هذا التطور بدوره إلى تراجع دور الإنسان والفك وإلى نمو المخ. فتحرر اليد وتضاؤل حجم الوجه هي الأمور التي مكنت من ظهور اللغة والتقنية [49].
إن التقنية الإنسانية تبدو في البداية كتأقلم للإنسان مع مجاله، ولكنها أيضا نوع من القطيعة مع نفس هذا المجال الطبيعي. فحين يحول الإنسان المعطى الطبيعي فإنه يخلق مجالا اصطناعيا وتقنيا، ومن ثمة فإنه يساهم في إنتاج العالم، وبذلك يمكن القول بأن العمل الإنساني هو إنتاج للطبيعة. ولكن بإنتاج الإنسان للطبيعة فإنه ينتج نفسه أيضا [50].
وبانتقال الإنسان من اختراع الأدوات إلى اختراع الآلات حقق انتقالا نوعيا، واستطاع التحرر من أعباء العمل، وما كان لذلك أن يتحقق لولا سياحة التفكير العلمي الذي أصبح يزود الإنسان بمجموعة من الحقائق العلمية القابلة للتحويل إلى آلات. وفي هذا المجال يجب التمييز بين العالم والمهندس. فالعالم يتابع في المختبر الأبحاث التي تقود إلى اكتشاف قوانين تخضع المادة. أما المهندس فهو يعمل على تطبيق هذه القوانين، أو استغلال المادة من أجل هدف علمي محدد، وهو هدف تجاري بالأساس، يرمي إلى تحويل الفكرة أو الاكتشاف العلمي إلى خدمة أو سلعة قابلة للبيع. ومن هنا ضرورة تنفيذها بأقل تكلفة ممكنة. والانتقال من مجال العالم إلى مجال المهندس هو أيضا انتقال من مجال تقنيي المختبر إلى مجال عمال ومأجوري المعامل، أي انتقال من العلم إلى الشغل، من نشاط ذي طابع فردي إلى نشاط ذي طابع جماعي. وكما هو معروف فإن عالم المختبر لا يعرف أي نزاع أو صراع. فالأبحاث يقودها عادة باحث أو باحثان يساعدهم عدد قليل من التقنيين فيكون بذلك عدد العاملين في المختبر محدودا جدا. كما أن هؤلاء يعملون لغاية واحدة هي الوصول إلى الكشف العلمي. إن الرغبة في النجاح وفي قهر الطبيعة هي التي تهيمن على العاملين في المختبر من علماء وتقنيين، لهذا فإن عالمهم خال من الصراع والمواجهة، وقد ظهرت المشاكل الاجتماعية بالانتقال من المختبر إلى المعمل. ففي المعمل يحيط عدد كبير من العمال بالمهندس الذي يوزع عليهم مهاما مختلفة يطلب منهم إنجازها بأقصى سرعة لإنتاج أكبر عدد ممكن من المنتوجات وتحقيق أكبر قدر من الأرباح. وبفعل السرعة في الإنجاز والرغبة المهووسة في تحقيق المزيد من الأرباح فإن المهندس أو صاحب المعمل أصبح يميل إلى التعامل مع العمال كما لو كانوا من الآليات والتجهيزات الموجودة في مكان العمل، وهو الأمر الذي انتبه له العمال بشكل مبكر، ورفضوه بقوة [51].
من جهة أخرى نلاحظ أن الباحثين المهتمين بمسألة الشغل يتحدثون تارة عن الشغل وتارة أخرى عن العمل فهل يخفي الفرق في التسمية فرقا في مضمون المفهومين؟ إن تحليلا أوليا يظهر أنه ليس هنالك أي فرق جوهري بين المفهومين "فالشغل" emploi و"العمل" travail يستخدمان على التتالي في نفس السياق وبنفس المعنى، إلا أنه يمكن الإشارة مع ذلك إلى أن كلمة شغل تستخدم بشكل واسع حين يتعلق الأمر بالنشاط الذي يقوم به الإنسان في المجتمعات المعاصرة مقابل أجر يتقاضاه عن ذلك.
أما كلمة عمل فإنها تشير إضافة إلى المعنى السابق، إلى كل نشاط إنساني يدويا كان أو فكريا، مأجورا كان أو بدون مقابل مادي. وهنا يمكن أن نقول بأن الشخص الذي يقوم ب
حسن قرنفل
دراسات
يعتبر العمل من الوظائف الأساسية التي تميز الإنسان عن الحيوان، إلا أن هذا الأمر لم ينظر إليه بنفس الطريقة من طرف الباحثين والمهتمين. فالبعض رأى في ذلك إكراها فرض على الإنسان فرضا، والبعض الآخر وجد فيه تفجيرا للإبداع الإنساني الذي يرقى به الإنسان على باقي الكائنات. ولا يخلو الأمر من البعدين معا.
فمما لا شك فيه أن العمل إكراه حيوي مفروض على الإنسان، لأنه مضطر للعمل لتلبية حاجياته البيولوجية المرتبطة بالتغذية والحماية من الأخطار ذات المصدر الحيواني أو الطبيعي، وهذا الإكراه هو الذي يجعل من العمل أمرا إجباريا تحول بفعل التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها الإنسانية إلى نوع من الإكراه الاقتصادي في مجتمعاتنا الحديثة
[1].
ويملك الناس بصفة عامة، تصورا مثاليا عن الماضي، إذ يعتقدون أن الأمور كانت أحسن مما يه عليه الآن، وأن كل شخص كان يحصل على ما يحتاجه دون عناء ولا جهد. وقد ازدادت هذه الفكرة رسوخا مع المذهب الطبيعي الذي دافع عنه بضراوة المفكر جان جاك روسو. وأصبح كثير من الناس يظنون أن الحياة كانت أفضل وأسلم في السابق. إلا أن الواقع يكذب ذلك بشكل جذري. فما تمنحه الطبيعة للإنسان من خيرات لا يمكن استهلاكه بالشكل الذي تقدمه، ولا بد من تدخل الإنسان من أجل تطهيره أو تنقيته من السموم والأخطار التي يحملها. فالحليب الطبيعي للأبقار الطبيعية، على سبيل المثال، يصيب بداء السل. كما أن الحياة الطبيعية الماضية كانت تجعل طفلا من ضمن ثلاثة أطفال يموت قبل اكتمال السنة، في حين لم يكن يتجاوز معدل عمر الاثنان الباقيان 25 سنة، وذلك في حدود سنة 1800 بفرنسا على سبيل المثال [2].
إن كل ما نستهلكه اليوم هو نتاج العمل الإنساني سواء تعلق الأمر بالقمح أو البطاطس أو بأشجار الفواكه أو بالحيوانات الداجنة. وهنا يجب التذكير بأن حاجيات الإنسان ليست ذات طبيعة غذائية فقط، فله حاجيات أخرى ذات طبيعة ثقافية كما هو الأمر بالنسبة للملابس ومختلف الأجهزة والتجهيزات التي يستخدمها في حياته اليومية. وهذا يدفعنا إلى استنتاج حقيقة أساسية وهي أن الإنسان مخلوق غريب لا توجد حاجياته في الكوكب الذي يعيش فيه، بل عليه أن ينتجها. وهذه الحقيقة في جوهرها مخالفة لما جاء في كثير من الكتابات التي تتحدث عن تلبية الطبيعة بسخاء لحاجيات الإنسان. فالأمر الذي لا مراء فيه هو أن الكوكب الذي نعيش فوقه غير منسجم مع حاجيات الإنسان. إنه فقط الأوكسجين الذي يعطى للإنسان بدون تدخل. أما سائر الأمور الأخرى فهي تستدعي بدل مجهودات إنسانية كبرى، بما في ذلك أبسط حاجيات الإنسان كالماء الصالح للشرب، فالحصول عليه يقتضي حفر الآبار أو تجميع المياه وتصفيتها…إلخ [3].
من هنا يمكن أن نستخلص أننا نعمل من أجل تحويل الطبيعة التي لا تستجيب مباشرة لحاجياتنا أو كلها على الأقل.
فنحن نعمل من أجل تحويل الأعشاب المتوحشة إلى حبوب (قمح، ذرة، شعير) والثمار غير القابلة للاستهلاك إلى الفواكه، والحديد إلى سيارات وطائرات…إلخ. فالنشاط الاقتصادي هو كل نشاط يهدف إلى تحويل الطبيعة إلى مواد قابلة للاستهلاك من طرف الإنسان [4].
هكذا يظهر أن الإنسان مضطر للعمل من أجل ترويض الطبيعة واستغلال خيراتها بشكل يناسبه. ولكن إذا اكتفى الإنسان بقوة يديه لإنجاز هذا العمل، فإنه لن يحقق تقدما كبيرا، ومن هنا ضرورة استعانته بالتقنيات، وهو ما يقودنا إلى الحديث عن الجانب الإبداعي في عمل الإنسان.
إن الاختراعات التقنية الجديدة هي الممر الحقيقي لتطور الإنسانية، وهي في الأصل مجموعة من المناهج والطرق المستخدمة لأول مرة من أجل تحسين الإنتاج، كما يمكن الحديث في نفس السياق عن تقليد هذه الأسباب والطرق من طرف أشخاص آخرين أو حضارات أخرى للحصول على نفس النتيجة. إن التحديات الكبرى التي فرضتها الطبيعة على الإنسان هي التي دفعته باستمرار إلى التفكير في أفضل السبل لمقاومتها أو إخضاعها. وهكذا فإن كل اختراع جديد هو انتصار حقيقي على الطبيعة وتقدم في مجال السيطرة عليها وترويضها، وفي نفس الوقت فإن الإبداع العلمي والاختراعات التقنية هي التي أسهمت بشكل فعال في تقدم الإنسان. ومع ذلك لا يمكن القول بأن الإنسانية قد خلقت عددا كبيرا من المخترعين والمبدعين. فقد عاش على سطح الكرة الأرضية، منذ ظهور الحياة، أزيد من 15 مليار من الأشخاص، ومن ضمن هذا العدد الكبير لا يوجد أكثر من 5000 مخترع، فندرة الإبداع الخلاق سمة أساسية في تطور الإنسانية [5].
الفلاسفة والعمل:
لم يهتم الفلاسفة في الماضي أو الحاضر بموضوع العمل اهتماما خاصا، غير أن الإشارات التي نعثر عليها في الكتابات الفلسفية لا تخلو من أهمية بالغة. ففي الكتاب الثاني من الجمهورية يبحث أفلاطون (428-384ق.م) عن أصل المدينة أو ما يمكن أن نسميه بالمجتمع السياسي، ويرد ذلك إلى تعدد حاجيات الإنسان التي لا يمكن أن يحققها لوحده فيفرض عليه العيش داخل جماعة من البشر. "أفيعمل كل من هؤلاء (…) ما يلزم للجميع من منتوجه، فيعد الفلاح مثلا وهو أحدهم، ما يحتاج إليه أربعة أشخاص من الطعام، فيقضي في إعداد طعامهم أربعة أضعاف الوقت اللازم له لإعداد طعامه، ثم يقاسم إخوانه الثلاثة منتوجه، أم أنه يهملهم ويعمل ما يسد حاجته، فيقضي ربع وقته في إعداد ربع مقدار الطعام، ويقضي الثلاثة الأرباع الباقية من وقته في إعداد مسكنه وكسوته وحذائه، ولا يتعب نفسه في مبادلة إخوانه الحاجات بل يعمل ما يحتاج إليه بذاته لذاته؟" [6].
وقبل أن يجيب المتحاورون في الجمهورية عن هذا التساؤل يقوم أفلاطون بالتعريف بالحاجيات الأساسية للإنسان. ويحددها في ثلاث حاجيات هي التغذية والسكن والملابس، ثم يضيف الأحذية. ومن أجل تلبية هذه الحاجيات على الإنسان أن يقوم بثلاث أنشطة مختلفة: تحضير الغذاء، وصناعة الملابس وبناء السكن. وكي يتم تحقيق ذلك يرى أفلاطون أن هنالك سبيلان:
ـ السبيل الأول: هو أن يقوم كل فرد بإنجاز هذه الأنشطة الثلاثة بالتتابع، فيقسم وقته بينها، وهذا ما يحصل فعلا في بعض المجتمعات "البدائية" حيث يقوم الإنسان بكل أنواع الأنشطة.
ـ السبيل الثاني: وهو المتبع في المجتمعات المتطورة ويقوم على تخصص كل فرد من أفراد المجتمع في نشاط من هذه الأنشطة، حيث يخصص لها كامل وقته وهذا هو ما يسمى بالتقسيم الاجتماعي للعمل [7]، وهو الرأي الذي يميل إليه.
وتقسيم العمل عند أفلاطون مسألة ضرورية لثلاثة أسباب على الأقل:
*السبب الأول هو أن الطبيعة لم تمنح جميع الناس نفس المهارات والكفاءات، وهذا ما يجعل الناس مكملين لبعضهم البعض.
*السبب الثاني هو أن الإنسان يصبح ماهرا في عمل ما إذا كان ينجزه لوحده فقط. فالتخصص يؤدي إلى المهارة وتحسين الإنتاج.
*السبب الثالث هو أن التخصص يجنب إضاعة الوقت عند الانتقال من عمل لآخر، وهكذا فإن كل مدينة حسب أفلاطون، يجب أن تتوفر على الأقل على ثلاثة أو أربعة أشخاص: مزارع، بناء، حائك، وإسكافي (صانع أحذية). والواقع أنه يجب إضافة تخصصات أخرى لأن الموارع لن يستطيع صنع محراثه بنفسه كما أن الحائك لن يتمكن من صنع أدوات عمله بنفسه أيضا، ومن هنا ضرورة إضافة الحداد والنجار…إلخ [8].
ويستفيد الجميع من تقسيم العمل فالمستعمل سيحصل على منتوج من نوعية جيدة، والمنتج سيكون مستريحا في عمله لأنه سينجز نوعا واحدا من العمل هو ذاك الذي يملك أفضل المهارات فيه. إلا أن هنالك فرقا كبيرا بين ما جاء عند أفلاطون في الجمهورية من ضرورة تقسيم العمل وما يدافع عنه اليوم رجال الاقتصاد والاجتماع. فأفلاطون لا يعير أية أهمية لارتفاع الإنتاج باعتباره أحد النتائج المباشرة المترتبة عن تقسيم العمل. إن ارتفاع الإنتاج شيء ينتمي إلى طبيعة الأشياء، وليس اختراعا اجتماعيا أو تاريخيا. بالإضافة إلى ذلك فإن أفلاطون يرى أن الهدف النهائي للعمل هو تلبية حاجة طبيعة فقط، ومن هنا نظرته إلى العمل كخدمة يقدمها المنتج للمستعمل، بتعبير آخر –لم يرد عند أفلاطون ولكن نستعيره من الاقتصاد السياسي الحديث- فإن الأشياء عند أفلاطون تتوفر على قيمة استعمال فقط، أما قيمة تبادلها فمنعدمة تماما، إن هدف مجتمع المدينة الفاضلة ليس هو إنتاج أكبر قدر ممكن من المنتوجات، كما هو الأمر في المجتمعات الصناعية، ولكن إنتاج قيم استعمال ذات جودة عليا [9].
وينطلق أرسطو كأستاذه أفلاطون من المدينة كأعلى وحدة اجتماعية وسياسية، ويرى أن وظيفتها هي توفير أسباب السعادة لأعضائها. وهذه الأسباب ذات طبيعة مادية ومعنوية، ويقوم العبيد بتحصيل الثروة الضرورية لاستمرار الأسرة، ويجعلهم أحد المكونات الأساسية لهذه الأخيرة [10].
ويعتبر أرسطو نظام الرق نظاما طبيعيا، ويصف العبد بكونه آلة للحياة "لأن وجوده ضروري لإنجاز الأعمال الآلية المنافية لكرامة المواطن الحر. والعبد آلة "منزلية" أيضا لأنه يساعد على تدبير الحياة داخل المنزل. وإذا تساءلنا من هو العبد بالنسبة لأرسطو؟ جاءتنا الإجابة بأن الطبيعة هي التي تعينه، أي جملة العوامل الوراثية والبيئية والاجتماعية، والاختلاف بين الأعلى والأدنى أو بين الممتاز والرديء أمر ملاحظ، حسب أرسطو، في كل مظاهر الطبيعة: بين الإنسان والحيوان، بين الذكر والأنثى…إلخ. وكلما وجد هذا الاختلاف كان من الأفضل للجميع أن يسيطر الأقوى على الأضعف [11]. إن الطبيعة إذن تميل إلى إيجاد التمايز بين البشر فتجعل بعضهم قليل الذكاء أقوياء البنية، وبعضهم أكفاء للحياة السياسية، وينتج عن ذلك أن البشر صنفان: صنف حر بالطبيعة وصنف عبد بالطبيعة أيضا. وفي ذلك يقول أرسطو: "إن شعوب الشمال الجليدي وأوروبا شجعان، لهذا لا يكدر عليهم أحدهم صفو حريتهم، ولكنهم عاطلون من الذكاء والمهارة والأنظمة السياسية الصالحة، لهذا فهم عاجزون عن التسلط على جيرانهم، أما الشرقيون فيمتازون بالذكاء والمهارة ولكنهم خلو من الشجاعة، ولهذا هم مغلوبون ومستعبدون إلى الأبد. وأما الشعب اليوناني فيجمع بين الميزتين: الشجاعة والذكاء. كما أن بلده متوسط الموقع، لهذا هو يحتفظ بالحرية ولو أتيحت له الفرصة لتسلط على الجميع" [12].
ومن جهة أخرى يرى أرسطو أن الأسرة بحاجة للثورة، ويمكن تحصيل الثروة بطريقتين:
*الطريقة الأولى: طبيعية وتكمن في جمع النتاج الطبيعي اللازم للحياة، وهو الأمر الذي يتم بدوره حسب ثلاثة أشكال: تربية الماشية والقنص والزراعة.
*والطريقة الثانية يسميها صناعية وتتكون من ثلاثة أنواع: التجارة البرية والبحرية، والقرض، والأجر. ويرى أن مبادلة المواد والمنتوجات تفرض على المجتمعات حين تكون هنالك قلة في بعض المواد التي تضطر لاستيرادها من الخارج، وهذا هو الأمر الذي يجعل الحاجة إلى النقود ضرورية، فهي رمز يستخدم في المبادلة. إلا أن هنالك خطرا يهدد المجتمعات بفعل استعمالها للنقود، حيث تصبح هاته وسيلة في حد ذاتها، وهو ما يؤدي بدوره إلى أن يصبح الإنتاج غاية في ذاته، لا وسيلة لإرضاء الحاجات الطبيعية، الشيء الذي يقود حتما إلى اضطراب الحياة الاجتماعية بفعل تراجع الفضيلة إلى المراتب الأخيرة وطغيان المصالح المادية [13].
ومن خلال كل هذا يتبين بأن أرسطو لا يعتبر العمل، والعمل اليدوي على وجه الخصوص، قيمة اجتماعية، فهو إكراه طبيعي. فللإنسان في الحياة وظيفة أساسية هي تحصيل الفضيلة، ويتم ذلك عن طريق البحث الفلسفي والاشتغال بالسياسة بأشمل معانيها، غير أن الفيلسوف والمواطن الحر بصفة عامة في حاجة إلى تلبية حاجياته الأساسية من تغذية وملبس ومسكن، ولو قام بنفسه بتحصيل ذلك، لما بقي له من الوقت ما يكفيه لممارسة وظيفته النبيلة: السياسة.
من هنا ضرورة أن توجد طبقة من البشر تختص في هذه الأعمال، إلا أن هذه الطبقة من البشر لا يجب أن تكون من بين المواطنين، فيأتي دور العبيد لينجزوا الأعمال المنزلية وكل الأعمال المقترحة ويتحملوا عن المواطنين الأحرار أعباء تحصيل الرزق. فلا يجوز لمن يعملون لكسب قوتهم وقوت غيرهم أن يحسبوا في عداد المواطنين. فالمواطنون، حسب أرسطو، لا يحيون حياة أرباب الآلات والحرف، لأن مثل هذه الحياة تحط من شرف الإنسان، ولا تتفق مع الفضيلة. كما لا يجوز للمواطنين أن يشتغلوا بالزراعة، لأنهم في حاجة إلى فراغ؛ وإن كان من حقهم أن يملكوا الأرض الزراعية، أما فلاحة الأرض فتترك للعبيد من جنس آخر [14].
وهكذا يمكن القول بصفة عامة بأن نظرة الفلسفة اليونانية القديمة إلى العمل كانت نظرة احتقار واشمئزاز. وقد ظلت هذه النظرة الفلسفية السلبية للعمل حاضرة عند كل الفلاسفة الذين أتوا بعد أرسطو إلى حدود القرن الثامن عشر. ولم تتغير الوضعية بشكل جذري إلا مع الفيلسوف الألماني هيجل(1770-1831) الذي أعطى لمفهوم "العمل" معنى بعيدا وذلك في كتابه La phénoménologie de l'esprit (1807). ففي الفصل المعنون "جدل السيد والعبد" يعرف هيجل العمل باعتباره إنتاجا للإنسان بواسطة الإنسان.
وهنا يهتم بإظهار الكيفية التي ينتقل بها الفرد من مجرد الشعور بالوجود Sentiment de soi إلى الإحساس بالذات Conscience de soi، أي إلى الاعتراف به كإنسان أو الانتقال من درجة الحيوانية إلى درجة الإنسانية [15]. إن الإنسان حسب تعريف هيجل كائن رغبة être de désir لأنه لا يستطيع أن يعيش دون الحصول على شيء آخر غير ذاته، ومن هنا بحثه عن الغذاء واستهلامه. فالرغبة تدفعه إلى القيام بأفعال، حتى ولو كانت تعبيرا عن نفي المعطى المباشر (البحث عن الأغذية واستهلاكها وهضمها) فإنها في نفس الوقت تأكيد لحقيقة وجوده. فباستهلاك الأغذية يحافظ الكائن الحي على وجوده، إلا أنه لا ينفصل من خلال هذا الفعل وحده، عن المرحلة الحيوانية لأنه يظل حريصا على تلبية حاجاته الحيوية، ومن ثمة لا يتجاوز مرحلة الشعور بالوجود إلى مرحلة الإحساس بالذات. ومن أجل تحقيق ذلك يجب أن تتحول رغبة الإنسان من المواضيع المادية (الغذاء مثلا) إلى مواضيع أخرى غير مادية. إن اعتراف ذات أخرى بوجوده هو الكفيل بتلبية وتحقيق شعوره بذاته، وهذا ما يمكن تلخيصه في القول بأن ما يرغب فيه الإنسان قبل كل شيء هو أن يعترف به كإنسان من طرف إنسان آخر. ومن هنا فإن الواقع الإنساني لا يمكن أن يكون إلا ذا طابع اجتماعي لأن الرغبة في الاعتراف والتقدير من طرف الآخر ترغم الإنسان على الدخول في علاقات مع أشخاص آخرين [16]. إن الفرق بين الإنسان والحيوان، حسب هيجل هو أن الحيوان يرغب في الحفاظ على وجوده، أما الإنسان فإنه لا يكتفي بأن يكون مجرد كائن حي، بل يريد أن يكون بالأساس إنسانا، وأن يعترف به كذلك من طرف أشخاص آخرين. ومن أجل تحقيق ذلك، فإن الإنسان على استعداد للقيام بأي شيء، بل إنه يذهب إلى حد نفي ذاته والمخاطرة بها. إنه يخاطر بذاته لكي يثبت أنه موجود. فالإنسان يعتقد أن هنالك مجموعة من القيم تتجاوز قيمة الحياة نفسها، وعلى رأس هذه القيم توجد الحرية.
وإذا انتقلنا إلى مثال توضيحي يصور كائنين، فإن كل واحد منهما لن يكون إنسانا بالنسبة للآخر (بمعنى كائن في ذاته) إلا إذا اعترف به الآخر بتلك الصفة، ولن يتمكنا معا من ذلك إلا إذا برهنا عليه، وهو الأمر الذي يتحقق فعلا حين يظهر كل واحد منهما للآخر بأنه غير متمسك بالحياة، ولكن عليه أيضا أن يترك الآخر يفعل الشيء نفسه. وهنا سيدخل الإثنان في صراع قاتل من أجل الاعتراف بذاتيتهما. وقبل اندلاع هذا الصراع تكون كل ذات واعية بوجودها فحسب وليس بوجود ذات الآخر، وفي هذه الحالة فإن الإحساس بالذات لا قيمة له في غياب الآخر واعترافه بذلك [17].
إن هيجل يرى أن المخاطرة بالحياة هي التي تعطينا الشعور بالحرية. وإذا عدنا إلى المثال السابق، فإن المواجهة بين الطرفين لا يجب أن تصل إلى حد الموت، لأن موت أحدهما يعني اختفاء الاعتراف بالذات من طرف الميت لصالح الحي، ومن هنا حرص الأشخاص على الحصول على الاعتراف من طرف الآخرين دون قتلهم. والحل لهذه الورطة يكمن في استعباد الآخرين بدل قتلهم، وهنا يجب التأكيد، حسب هيجل، أن الاستعباد ليس نفيا للآخر، بل إنه حافظ عليه، وحفاظ على اعترافه [18]. فالصراع القاتل بين الأفراد ينتهي بهم إلى إقرار علاقات قائمة على الهيمنة والعبودية. القوي يهيمن والضعيف يستعبد ليحتفظ به ككائن يقر بوجود الكائن المهيمن. وفي ظل هذا الصراع يقوم الضعيف المستعبد بإنجاز المهام المنوطة بالقوي المسيطر، فهذا الأخير لن يشتغل لأن العبد يشتغل مكانه [19]، وهنا نلتقي مع ما جاء عند أرسطو.
ويبدو للوهلة الأولى أن العبد يوجد في وضعية دونية، إلا أن هيجل يرى أنه بفضل عمله سيكون قويا ومتفوقا على سيده، وسيرتقي بذلك إلى درجة الإنسانية، وسيحصل تحول كبير على الوضعية الأولى للسيد والعبد، حيث سيصبح العبد سيد السيد. لماذا؟ لأن العبد لم يضعف أمام الخوف من الموت. إنه في هذا المستوى يتساوى مع الحيوان، الذي لا يتردد في المخاطرة بحياته من أجل حاجة حيوية، إلا أن قلق الموت الذي يواجهه العبد بتفوق يمنحه قيمة أساسية وهي تجاوز القلق وانتزاع الاعتراف من طرف الآخر [20].
وخلافا لما يمكن أن نتوقعه، يضيف هيجل، فإن السيد في علاقته مع العبد لا يشعر بالرضى عن وضعه، لأن الاعتراف بإنسانيته يأتي من طرف شخص لا يعترف هو بإنسانيته. إضافة إلى ذلك فإن السيد يكتفي بالاستهلاك وبالتالي يقضي على نتيجة عمل العبد. أما العبد فعلى العكس، يجعله تحكمه في الأشياء مساهما في الخلق، ويتمكن بذلك من السيطرة على الطبيعة وأنسنتها وذلك عن طريق العمل، ومن ثمة ينفصل نهائيا عن العالم الحيواني ويرتقي إلى درجة الوجود الإنساني الحقيقي [21].
ويضيف هيجل بأن العبد يضع بصمته الشخصية على الأشياء التي يصنعها وهنا يكمن الفرق بين الإنسان والحيوات. فالحيوان يدخل بدوره في علاقات مع العالم من حوله إلا أنها علاقات ساتهلام، أما الإنسان، وبفعل قدرته على كبح جماح رغباته الآنية فإنه يؤسس العالم élabore le monde، وبذلك فإن العبد الذي يصنع الأشياء يحقق ذاته فيها، بل يمكن القول بأنه يصبح آخر.
وهذه الكينونة الأخرى (أن يصبح الإنسان آخر) هي السبيل الوحيد للمرور نحو المرحلة العليا من الإنسانية. وهكذا يتمكن العبد بفضل العمل من تغيير الطبيعة الخارجية ومن تغيير طبيعته أيضا. إنه يتجاوز درجة الحيوانية ليصبح إنسانا، ويتأكد بذلك أن الإنسان لا يتوفر على طبيعة معطاة بشكل نهائي ثابت وقار. إن طبيعة الإنسان عبارة عن صيرورة متطورة، تتحول باستمرار بتحويل الإنسان للطبيعة. ويتأكد من خلال ذلك أيضا أن الوجود الحقيقي للإنسان هو الوجود التاريخي، وبأن الطبيعة الحقيقية للإنسان هي الثقافة la culture، أي قدرته على خلق طبيعة ثانية داخل الطبيعة، إن الإنسان هو ما يفعل في الطبيعة وما يفعل بذاته [22].
ويتبين إذن من خلال عرض جدلية العبد والسيد كما أوضحها هيجل أن العمل هو أداة التحرير الوحيدة للإنسان. فعمل العبد هو الذي يحرره من سيطرة الطبيعة كما يحرره من سيطرة السيد فيما بعد، إن علاقات الإنسان بالطبيعة ليست علاقات معرفية فقط، ولكنها أيض وقبل كل شيء علاقات تحويل وتغيير متبادلة، فالعمل في نهاية يشتغل لصالح السيد، وهذا يعني أن العمل نشاط اجتماعي ينجزه الناس بعضهم لصالح بعض من أجل التلبية المتبادلة لحاجياتهم، إن العمل يكون بذلك اللحمة الحقيقية للعلاقات الاجتماعية [23].
ويقوم كارل ماركس استنادا على تحليل هيجل السابق للعمل بالتمييز بين العمل الإنساني والأنشطة التي تقوم بها بعض الكائنات الأخرى (بعض الحشرات والطيور)، ويستخلص أن العمل هو أساسا فعل طرفاه الأساسيان هما الإنسان والطبيعة. ويلعب الإنسان في مواجهة الطبيعة دور قوة طبيعية، فالقوة التي يتوفر عليها الإنسان والكامنة في يديه ورجليه ورأسه تستخدم بشكل إيجابي من أجل تحقيق أهدافه، وفي نفس الوقت يؤثر بعمله هذا في الطبيعة الخارجية ويحولها. وبتحويل الطبيعة يحول طبيعته الخاصة sa propre nature أيضا، وينمي الملكات والقدرات الراقدة فيه. إن العمل شيء ينتمي إلى المجال الإنساني فقط، صحيح إن العنكبوت يقوم بعمليات تشبه تلك التي يقوم بها صانع الزرابي، كما أن النحلة تهش أكثر من مهندس بما تقوم به، إلا أن ما يميز ما يقوم به أسوأ مهندس وأمهر نحلة، هو أن المهندس ينجز في رأسه ما سيقوم به قبل تنفيذه. إن النتيجة المحصل عليها بواسطة عمل الإنسان توجد بشكل قبلي في مخيلته [24].
إن العمل عند ماركس نشاط واع، متأمل ومقصود activité consciente réfléchie, volontaire فالإنسان يتمثل ويتخيل في البداية ما ينوي القيام به. وقدرته هاته على تمثل أهدافه وتنظيم حركاته وأعماله طبقا لهذه الأهداف تميز عمل الإنسان عن الأنشطة الغريزية التي تقوم بها الحيوانات. وما دام عمل الإنسان ليس شيئا غريزيا فإنه يرتكز على الاهتمام والإرادة. ويركز ماركس بقوة على هذه النقطة، فالعمل في نظره ليس عفويا ولا طبيعيا، وهو لا يتطلب مجهودات عضلية فقط من أجل تحويل الطبيعة، ولكن استعدادا سيكولوجيا أيضا، حيث يقتضي الحفاظ على الإرادة الإنسانية في مستوى محدد من التوتر والانفعال المستمر.
وحين يعمل الإنسان فإنه يحقق ويخرج ويموضع objectivise قدراته الخاصة، ومن ثمة فإن الهمل ليس فقط تحويلا للطبيعة ولكن أيضا تحويلا لطبيعة الإنسان نفسه، ويعترف ماركس بكل موضوعية بالمرجعية الهيجلية لهذه الفكرة المحورية في تحليله لعمل الإنسان [25].
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لعمل الإنسان في الفترات السابقة، فإن الأمور ستعرف منعطفا جديدا مع ظهور الرأسمالية، حيث سيتحول العمل من قوة محررة للإنسان إلى نشاط مستلب aliéné في ظروف نمط الإنتاج الرأسمالي. وقد استخدم ماركس هذا المفهوم في مخطوطات 1844 التي لم تنشر إلا خمسين سنة بعد وفاته، وألهمت عددا كبيرا من الفلاسفة والمفكرين [26]. وقد قصد كارل ماركس بمفهوم الاستلاب التشويه العميق الذي يلحق العمل داخل نمط الإنتاج الرأسمالي. ففي ظل هذا النظام يكون العامل مستغلا، ولأنه يشعر بذلك فإن العمل يتوقف عن أن يكون أحد أسباب ومظاهر وجوده (أي الإنسان) ليصبح مجرد وسيلة عيش. إن العمل في ظل هذه الظروف ليس تأكيدا للكائن العامل ولكن نفي له [27] ولمفهوم الاستلاب الذي استخدمه ماركس معنى قانوني، حيث يعني التنازل أو البيع للآخر شيئا نملكه. كما أن النعت اللاتيني alienus، وهو مصدر الكلمة، يعني الآخر أو الأجنبي، ومن هنا استعمال كلمة الاستلاب العقلي aliénation mentale للإشارة إلى شخص لم يعد يتحكم في نفسه وسلوكه، أي شخص أجنبي عن ذاته.
ويتجسد الاستلاب في علاقة الشغل من خلال تجريد العامل من نتاج عمله الذي ليس بإمكانه مراقبته، ليصبح المنتوج، وهو التجسيد لعمل العامل، بمثابة قوة معادية تسيطر تماما على العامل باعتبار أن هذا المنتوج أصبح ملك شخص آخر هو الرأسمالي الذي باع له العامل قوة عمله، فكأن العامل في هذه العملية قد فقد حقيقته [28].
إلا أن الاستلاب لا يهم منتوج العمل فحسب بل يهيمن على كل مراحل العمل. فالعامل ليس حر أثناء القيام بالعمل. إنه مقيد بسلوك محدد وبنشاط بدني مرسوم مسبقا، الأمر الذي يعطي العامل الانطباع بأنه قد انفصل عن ذاته، فعمله ليس اختياري. إنه عمل مجبر. فهو ليس تلبية لحاجة في حد ذاته، ولكنه وسيلة لتلبية حاجيات خارج العمل، وباختصار فاستلاب العامل يرجع بالأساس لكونه يشتغل فقط ليستمر حيا [29].
ـ تطور العمل عبر التاريخ:
لم يهتم الباحثون بعصر "ما قبل التاريخ" كثيرا بظاهرة العمل، لأن الأفراد خلال هذه الفترة كانوا في بحث مستمر عن وسائل البقاء من أجل الحفاظ على النوع، كما أن الأنشطة التي كان يقوم بها الإنسان لا يمكن أن توصف بأنها عمل، على الأقل بمعنى العمل كما نتداوله اليوم، أي كنشاط منظم ومتخصص ومؤدى عنه من أجل إنتاج خدمة أو منتوج [30].
والواقع أن العمل لم يظهر بشكل فعلي إلا مع الإنسان الملقب Gro-Magnon ومع homo-sapiens (ثلاثون الف سنة تقريبا قبل ظهور المسيح) حيث لم يعد النشاط الإنساني مقتصرا على الأنشطة الأولية (جني الثمار، الصيد) فقد تمكن الإنسان من بناء الأكواخ والإقامة فيها بدل المغارات كما كان الحال مع الإنسان النيودرتال، وأصبح الإنسان قادرا أيضا على حياكة الأثواب وإنجاز بعض المنحوتات والرسوم، كما سيتحول الإنسان ابتداءا من هذه المرحلة إلى ممارسة أنشطة أكثر تعقيدا وأهمية من تلك المرتبطة بالتفتيش في الأرض بواسطة العصي بحثا عن الحشرات والفطريات والجذور. ويميل بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأنه يمكن العثور على نماذج من الحياة والأنشطة الممارسة من طرف الإنسان في هذه المرحلة في بعض المجتمعات البدائية المعاصرة المنتشرة في استراليا على سبيل المثال، والتي كانت موضوعا لعدة أبحاث من طرف الأنتروبولوجيون [31].
وقد أصبح حوض البحر الأبيض المتوسط ابتداءا من الألفية السابعة قبل ميلاد المسيح، لأسباب مناخية، مسرحا لتطورات هامة أهمها ظهور الزراعة. وبالفعل أدت زراعة القمح والشعير والحمص والفول إلى استقرار السكان بهذه المنطقة، وظهرت بذلك أولى الحضارات الإنسانية التي كان من أول نتائجها انتقال الإنسان من نمط العيش المتنقل (الرحل) إلى نمط عيش يستقر فيه الأفراد بالأراضي التي يزرعونها [32]. وقد لعب المحراث دورا كبيرا في هذه العملية، لأن هذه الأداة شكلت تقدما أساسيا في خدمة الأرض، وأدت بدورها إلى ظهور تقنيات جديدة وتطورات جديدة، فعلى سبيل المثال يقتضي المحراث وجود حيوانات قوية تجره، وهو الأمر الذي سيدفع الإنسان في اتجاه تدجين الحيوانات واستخدامها [33].
ولأن كثيرا من الأعمال أصبحت تتطلب جهدا بدنيا فقد مالت الشعوب الأولى إلى الاستعانة بالعبيد وبأسرى الحروب لإنجاز المهام والأعمال الكبرى دون اهتمام بتحسين ظروف عمل الإنسان. وكان يقدم للعاملين بعض المواد الغذائية كالقمح والشعير، ثم الخبز والزيت فيما بعد. وفي حالات أخرى كان يقدم لهم أيضا كسوة ووسائل تدفئة (حطب). وهنا نكتشف أن المشغلين الأوائل كانوا يدركون تماما أن العمال كانوا في حاجة إلى وسائل العيش من أجل الاستمرار والقيام بمهامهم [34].
ومع الحضارة اليونانية ظهر أول تقسيم إنساني للعمل، وقد قام أساسا على التمييز بين العمل اليدوي والعمل الفكري، فصنف السكان إلى فئات اجتماعية تقوم بالأعباء والأعمال المجهدة الكبرى. والواقع أن العمل اليدوي قد عرف انتكاسة كبرى مع الحضارة اليونانية الكلاسيكية، ففي السابق سادت أسطورة برومثيوس القائمة على تمجيد العمل الإنساني والاحتفاء به باعتباره مصدر كل الخيرات. ولكن يونان العصر الكلاسيكي ستعرف توجها آخر خصوصا في أثينا، حيث أصبح الصانع يحظى بقيمة اجتماعية متدنية [35]، وهذا ما أكده أرسطو نفسه في كتاب السياسة كما أوضحنا ذلك.
لقد اعتقدت الحضارة اليونانية في عصرها الكلاسيكي أن ما يرفع قدر الإنسان الحر هو بناءات الفكر وليس ما يصنعه بيديه، وينتج عن ذلك أن الأعمال المهنية الوضيعية Viles تنجز من طرف العبيد لصيانة المواطن عن القيام بها، علما، كما سبقت الإشارة، بأنه ليس كل سكان المدينة مواطنون، فالعبيد مستثنون من ذلك. وعلى العموم، فإن التصور الذي ساد في اليونان في العصر الكلاسيكي هو أن وظيفة العمل ي إنتاج الحاجيات الضرورية من مأكل وملبس لسكان المدينة، دون تفكير في تحقيق أرباح مادية من وراء عملية الإنتاج، لأن الأهم في الحياة هو التأمل والتفكير وممارسة السياسة والخطابة وهي أمور نبيلة ترتبط بالفكر الإنساني، ولكن لما كان الجسم البشري في حاجة إلى تغذية، فلا بد من أن تختص فئة من السكان في إنتاج حاجياته الإنسانية، على أن هذه الفئة من السكان لن تكون هي الفئة الفضلى في المجتمع، بل على العكس إنها تحتل أدنى المراتب [36].
وقد استمر الأمر بنفس الشكل في الإمبراطورية الرومانية بالرغم من تطور الصناعة والتجارة. حيث ظل العمل من اختصاص الفئات الفقيرة والعبيد والفلاحين، وكان شيشرون Cicéron يحتقر بشدة الأشخاص الذين يستأجرون لأعمالهم وليس لمواهبهم [37]. وكان التصور العام هو أن كسب المال عن طريق العمل عبودية.
ولم تستطع المسيحية بعد انتشارها أن تغير شيئا من هذه الوضعية بل إن ما قالت عن الجنة والحياة الأولى للإنسان صار في نفس الاتجاه، حيث تم التأكيد أن الإنسان في عصره الذهبي كان يعيش حياة شبيهة بحياة الملائكة، فالروح خالية من الهموم ومتحررة من العمل والألم. وبعد نزول الإنسان إلى الأرض حكم عليه أن يعيش من جهده وعرق جبينه. عقابا له على خطيئته [38].
ولم تتغير الأمور كثيرا في مرحلة الإقطاع إذ كان لزاما على القن Le serf بأن يعمل ويشقى من أجل الحصول على حماية السلطات المدنية ومن أجل الحصول على الخلاص في العالم الآخر. أما الطبقتان الأخريان المشكلتان للمجتمع الإقطاعي، وهي طبقة رجال الكنيسة Oratères وطبقة المحاربين Guerriers فلم تكونا تمارسان أي نشاط من تلك الأنشطة التي يمارسها الفلاحون أو الصناع، فقد كانت في نظرهم مهام مهينة وغير ملائمة للسادة الذين يجب أن يهتموا بالسياسة والجانب العسكري أو الديني. إلا هذا النموذج الإقطاعي لم يكن حاضرا بنفس الشكل وبنفس القوة في المناطق التي يسطر فيها الإقطاع، ثم سرعان ما تكونت داخل المجتمع الإقطاعي نفسه فئة اجتماعية جديدة هي فئة الصناع والتجار التي كان أعضاؤها يمارسون أنشطة حرة بعيدة عن رقابة الإقطاعيين، الأمر الذي دعم استقلاليتهم إلى أن أصبحوا يشكلون بذور طبقة اجتماعية جديدة في المدن، خصوصا بعد تنامي قوتهم الاقتصادية. وقد رافق هذه التحولات الاجتماعية تحول على مستوى المواقف داخل مكونات المجتمع الإقطاعي نفسه حيث لم تعد الكنيسة ترى في العمل اليدوي والتجارة أعمالا غير فاضلة، بل على العكس مال كثير من القساوسة إلى اعتبار العمل فضيلة أساسية، وتم تشجيع رجال الدين المقيمين داخل الأديرة والكنائس على ممارسة الحرف والصنائع ومختلف المهن. كما أصبحت الكنيسة ترى في الفراغ رذيلة يجب تجنبها [39].
وقد عملت روح النهضة والإصلاح التي عرفتها أوروبا بعد ذلك على ترسيخ هذه التحولات في النظرة إلى العمل. فمارتن لوثروجان كافلن، اللذين قادا حركة الإصلاح الديني في أوروبا، ساهما بشكل فعال في إزاحة التصورات القديمة المرتبطة بالعمل وقيمته المتدنية. واصبح التيار المسيحي الجديد يلح على ضرورة أن يقوم المسيحي بإنجاز المهنة أو الحرفة التي أوكلها الله به، واعتبر ذلك واجبا من الواجبات الضروري القيام بها. ولم يعد هنالك تعارض بين العمل اليومي وعبادة الله. كما أصبح العمل والإخلاص في إنجازه وسيلة من وسائل التقرب إلى الله وعبادته. وغدا النجاح الذي يحققه الإنسان بفضل التجارة أو الصناعة دليلا على الحظوة الكبيرة للإنسان عند الله التي يحصلها بفضل العمل. وهذا التصور الجديد للتقرب من الله وارتباطه بالعمل الإنساني سيكون له تأثير كبير على انطلاق الرأسمالية [40] [ماكس فيبر].
ومع ظهور الإرهاصات الأولى للرأسمالية أصبحت طبقة النبلاء وبشكل خاص الأرستقراطية المرتبطة بالقصر، تجد صعوبة كبرى في الحفاظ على مواقعها، وظهرت على الساحة الاجتماعية أرستقراطية جديدة ذات أصول جديدة، تدعى بأرستقراطية البذلة Aristocratie de robe أخذت تنافس الأرستقراطية التقليدية في ممارسة النفوذ الاجتماعية، كما أن بورجوازية الأعمال أصبحت تتقوى شيئا فشيئا. وغدا الرخاء الاجتماعي مرتبطا عند هاتين الطبقتين الجديدتين بالنشاط الاقتصادي، أي بممارسة التجارة والعمل. ويرى المؤرخ الفرنسي الكبير فرناند بروديل أن هذه البورجوازية الجديدة تعايشت لمدة قرون مع الأستقراطية وتمكنت الطبقتان من العيش جنبا إلى جنب في جو من التنافس الحاد. وقد استفادت البورجوازية من أخطاء وعثرات الأرستقراطية ومن نمط عيشها ووقت فراغها، ومن عدم قدرتها على استقراء المستقبل من أجل الحفاظ على ممتلكاتها نتيجة اعتمادها على الربا. وانتهت البورجوازية إلى الامتزاج التام بالأرستقراطية وتذويبها داخلها [41].
وأدت القوة الصاعدة للصناع والتجار إلى تشكيل ما سمي بجماعات مهنية أو وداديات مهنية Compag-nonnage. وهي عبارة عن تنظيمات كانت تضم الحرفيين والصناع ومستقلة عن أية سلطة دينية أو فيودالية. وقد خلقت بنفسها شروط ديناميةكيتها الخاصة وقيمها وأصبحت تؤثر على المكانة التي يشغلها العمل كقيمة أساسية في المجتمع. وأخذ أعضاء هذه التنظيمات ينظمون سوق العمل: العرض والطلب، كما أخذوا يراقبون التكوين والتشغيل ويقيمون تقاليد وأعراف خاصة بالمعاملات الاقتصادية والتجارية. وتوطدت بذلك قيم التضامن المهني والحرفي داخل هذه التنظيمات. وبالرغم من الطابع المتقدم لهذه الممارسات فإن الثورة الفرنسية لم تسترح لها وسارعت بمنعها سنة 1791، وذلك خوفا من أن يؤدي ذلك إلى تشتيت المجتمع وتقسيم الدولة [42]. ومن هنا يتضح أن إعادة الاعتبار للعمل كنشاط اجتماعي لم يرافقه بالضرورة تكريم العمل وتمكينهم من حقوقهم، إذ ظلت الفئات العامة بعيدة عن السلطة والتأثير عليها.
وتمكنت بدل ذلك الطبقة البورجوازية، في كثير من الأحيان بتواطئ مع الأرستقراطية، من الوصول إلى السلطة، أو على الأقل التأثير عليها. ولم يكن العمل بالنسبة للبورجوازية سوى وسيلة أساسية للحصول على فائض القيمة وتكديس الثروات، ومن هنا فإن المجتمع البورجوازي الصاعد، وإن كان قد أعاد الاعتبار للعمل، فإنه لم يهتم أبدا بتحسين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للعمال. وهو الأمر الذي أدى إلى اشتداد الصراع بين الطبقة البورجوازية والطبقة العاملة. ومن أجل الدفاع عن حقوقهم وصيانتها عمد العمال في كثير من الدول الأوروبية ابتداءا من القرن 19 إلى إنشاء تنظيمات نقابية. وبعد صراع طويل أصبح ممثلو العمال يتدخلون في الاجتماعات والنقاشات والمواجهات وكل القضايا التي تهم العمال. وسارعوا إلى بلورة مطالبهم وتنظيم هياكلهم، وهو ما مكنهم من انتزاع عدد كبير من المكاسب همت ظروف العمل وحقوق العمال [43].
وقبل إنهاء الحديث عن هذه المسألة يجذر بنا الإشارة، ولو بشكل موجز، إلى واقع العمل في الحضارة العربية الإسلامية. وكما هو معروف فإن مدينة مكة التي ظهر فيها الإسلام كانت مركزا تجاريا كبيرا. وكان كل أسياد العرب وكبارهم يمارسون النشاط التجاري سواء بشكل مباشر أو بتسخير بعض الأشخاص للقيام ببعض المعاملات ومرافقة القوافل التجارية. وبمجيئ الإسلام وامتداد الفتح الإسلامي انخرط عدد كبير من المسلمين في الفتوحات وأهملوا التجارة، وبإشعاع الدعوة الإسلامية ودخول شعوب جديدة في الإسلام ظهرت معالم حضارة إسلامية متجسدة في حواضر كبرى تمارس فيها مختلف الأنشطة الاقتصادية. وأصبحت المدن مراكز الحرف والمهن، وصارت حسب بعض الباحثين "مسرحا لحركة عمالية واضحة، وتمثلت في قيام تنظيمات الحرف والأصناف، وفي ظهور تنظيمات عنيفة هي تنظيمات العيارين والشطار التي نمت وانتظما إلى حركة الفتوة والأخية" [44]. وقد تبلورت هذه التطورات في القرنين الثالث والرابع للهجرة (التاسع والعاشر للميلاد) وأصبح التفاوت الاجتماعي المرتبط بالإمكانات المادية أمرا واضحا. وفي هذا الخصوص صنف إخوان الصفا الناس في رسائلهم على أساس مادي. وهكذا رأوا أن المجتمع العربي الإسلامي ينقسم إلى صناع يعملون بأيديهم وأدواتهم، وتجار "يتبايعون بالأخذ والعطاء غرضهم طلب الزيادة فيما يأخذون على ما يعطون" ثم أخيرا أغنياء يملكون المواد "الأولية" ويشترون البضائع المنتجة [45].
وقد ارتبط اقتصاد العالم العربي الإسلامي ارتباطا وثيقا بالحركة التجارية العالمية التي كان يراقب طرقها الأساسية والتي تصل الشرق الأقصى بأوروبا، إلا أن الاكتشافات الجغرافية التي شهدها العالم ابتداء من القرن 15 والتي أدت إلى ظهور طرق جديدة بعيدة عن الأراضي العربية كان من نتائجها تراجع الدور الاقتصادي للمنطقة العربية. في نفس الوقت حاولت الدول الأوروبية السيطرة على البلاد العربية، وتعددت المحاولات في هذا الجانب ابتداءا من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واتخذت في البداية شكل معاهدات تجارية أبرمت مع الباب العالي (الدولة العثمانية) من أجل تسهيل التغلغل إلى الأسواق العربية [46].
ومع ذلك فإن الصناعة في نهاية القرن الثامن عشر، لم تكن راكدة تماما، بل إن صناعة النسيج من قطن وحرير كانت في وضع جيد، وكان إنتاجها يكفي حاجة الأسواق ويصدر بعضه، إلا أن أساليب الصناعة بقيت تقليدية، وبدا واضحا أنها لن تستطيع مجاراة الصناعة الأوروبية من حيث الأساليب العلمية والتنوع والأثمان. وسرعان ما بدأ الاندحار في مطلع القرن التاسع عشر حيث بدأت الصناعات الأوروبية تغزو الأسواق. ولم تبذل الدولة العثمانية أي مجهود، ولم تصدر عنها أية محاولة جادة لمواجهة الأزمة التي أخذت تهدد الصناعة في البلاد الإسلامية. وجاءت المحاولة من محمد علي في مصر، إذ حاول الانتقال بمصر من اقتصاد الكفاف إلى الاقتصاد المركب، وتجسد ذلك بالخصوص في ثورته على نظام ملكية الأراضي وتركيزه على زراعة تعطي محاصيل تجارية، ثم تحسين طرق المواصلات لتيسير التجارة، بالإضافة لذلك فإنه اتبع نظام الاحتكار في التجارة، حيث كان يشتري المحاصيل من الفلاحين بأسعار محدودة ويبيعها للمصدرين الأجانب بفوائد كبرى. وحاول محمد علي إنشاء صناعة حديثة أيضا، ولهذا الغرض احتكر كافة الصناعات وتولى تجهيز الصناع بالمواد الأولية واشترى إنتاجهم بأسعار محددة وتولى بيعه. ولكن رغبته في تنمية قوة مصر الإنتاجية وحاجة قواته المسلحة ونصيحة بعض الخبراء جعلته ينشئ سنة 1818 صناعة حديثة. فاستورد الآلات من أوروبا واستخدم التقنيين وأنشأ معامل عديدة. ومع بداية 1830 أصبحت معامله تنتج منتوجات قطنية وصوفية وحريرية بالإضافة إلى الورق والزجاج والسكر والمصنوعات الجلدية وبعض المواد الكيمازية. وحاول في نفس الوقت إعداد أشخاص مدربين تدريبا حديث فأرسل حوالي 300 مبعوث إلى أوروبا، وأدخل أضعاف هذا العدد إلى المدارس الحديثة التي أنشأها لدراسة الطب والهندسة والكيمياء [47].
وهكذا حاول محمد علي أن ينفذ برنامج تصنيع إجباري، فحصل على المال الضروري من أرباح الاحتكارات التجارية ومن الضرائب والقروض الإجبارية، ويعود نجاحه إلى الحماية الإدارية لصناعاته. ولكن الضغط الأوروبي، بتواطئ الباب العالي، قوض هذه الحماية وعرض الصناعة الناشئة إلى منافسة لصناعة الأوروبية القوية وهو ما أدى إلى انهيارها. ولم يكن محمد علي حرا في فرض الرسوم على الواردات، إذ كان مقيدا باتفاقيات الباب العالي مع الدول الأوروبية، فقد كانت تربط أوروبا بالدولة العثمانية معاهدة (يالتا-ليمان) 1838 التي فتحت الباب أمام البضائع الأوروبية لقاء حق جمركي لا يتعدى 5%. وقد شكل ذلك ضربة قاضية لنظام الاحتكار في مصر، وحاول محمد علي تجاهل هذا الواقع في بداية الأمر، لكنه لم يستطع ذلك بعد 1840 حين ضربت القوات الأوروبية قواته، وبذلك تعرضت صناعاته للمنافسة الأوروبية وأخذت تضعف وتتراجع ولم تعش بعد وفاته.
ولم تجر بعد ذلك أية محاولة جدية أخرى في الدولة العثمانية لمواجهة الصناعات الأوروبية. فواجهت الصناعة المحلية أزمة واضحة بعد الربع الأول من القرن التاسع عشر، ولم يأت النصف الثاني من القرن حتى تدهور وضعها بشكل مأساوي، إذ لم تعد الصناعات القائمة تكفي الحاجيات المحلية الضعيفة أصلا بفعل ضعف القوة الشرائية للسكان. وتدهورت الصناعات العائلية وكادت أن تنهار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في نفس الوقت الذي اكتسحت فيه البضائع الأوروبية الأسواق المحلية [48].
وفي وضعية من هذا القبيل لا يمكن أن يكون للعمل، وعلى وجه الخصوص العمل اليدوي، قيمة اجتماعية كبرى بفعل ضعف أدائه وضعف مردوديته وعدم قدرته على تأمين الحاجيات الضرورية للمشتغلين به. وظل المجتمع العربي الإسلامي، كما كان الأمر في السابق، مجتمعا يرى في التجارة أفضل وسيلة للعيش.
ـ الشغل، اللاشغل، البطالة.
تعتبر هذه المفاهيم الثلاثة أساسية لفهم عالم الشغل، فهي مختلفة عن بعضها ولكنها مرتبطة ببعضها أيضا. وما يميز الشغل هو كونه نشاط يقوم به الإنسان من أجل الاستمرار في الحياة، ومن ثمة فإنه اتخذ عند كثير من الحضارات طابع الإكراه، واعتبره الكتاب المقدس عقابا للإنسان على عصيانه الله وارتكابه الخطيئة الأولى، واقترن بذلك العمل بالشقاء والمعاناة، ولكي يخفف الإنسان من معاناته شرع في استخدام بعض الأدوات، فاستعان بالأحجار التي صقلها ليسهل استخدامها، ثم صنع أدوات من حديد كالفؤوس والسيوف، وقد أحدثت هذه التقنية الإنسانية قطيعة مع ما يمكن تسميته تجاوزا بـ"التقنية الحيوانية" التي يمكن وصفها بأنها تقنية تكرارية. فالتقنية الإنسانية تفترض نوعا من الذكاء والتعليم، ونقل هذا التعليم إلى أفراد آخرين. كما أنها تجديد مستمر. فهنالك تحسين مستمر لوسائل العمل، فقد تطورت أدوات العمل،ثم فيما بعد آلات العمل، كما تم اكتشاف مصادر جديدة للطاقة: البخار، الكهرباء، الذرة، ونتج عن ذلك ارتفاع مستمر في الإنتاج.
ويرى أحد الباحثين أن التكوين الفيزيولوجي للإنسان هو الذي مكنه من استخدام الأدوات بل وفرض عليه استخدامها. فإذا عدنا إلى الماضي البعيد للإنسانية سنجد أن الإنسان لم يتميز في البداية عن الحيوان بالعقل، ولكن بخصائصه الفيزيولوجية والبدنية. فما ساعد الإنسان في مواجهته للطبيعة هو كونه كائن يمشي على قدميه وليس على أربعة قوائم كباقي الحيوانات. وهذه الطريقة في التحرك مكنت من تحرير أيادي الإنسان التي لم تعد وسائل سير وحركة كما هو الأمر بالنسبة للحيوان، وأصبحت شيئا فشيئا وسائل إمساك وقبض Préhension، وأدى هذا التطور بدوره إلى تراجع دور الإنسان والفك وإلى نمو المخ. فتحرر اليد وتضاؤل حجم الوجه هي الأمور التي مكنت من ظهور اللغة والتقنية [49].
إن التقنية الإنسانية تبدو في البداية كتأقلم للإنسان مع مجاله، ولكنها أيضا نوع من القطيعة مع نفس هذا المجال الطبيعي. فحين يحول الإنسان المعطى الطبيعي فإنه يخلق مجالا اصطناعيا وتقنيا، ومن ثمة فإنه يساهم في إنتاج العالم، وبذلك يمكن القول بأن العمل الإنساني هو إنتاج للطبيعة. ولكن بإنتاج الإنسان للطبيعة فإنه ينتج نفسه أيضا [50].
وبانتقال الإنسان من اختراع الأدوات إلى اختراع الآلات حقق انتقالا نوعيا، واستطاع التحرر من أعباء العمل، وما كان لذلك أن يتحقق لولا سياحة التفكير العلمي الذي أصبح يزود الإنسان بمجموعة من الحقائق العلمية القابلة للتحويل إلى آلات. وفي هذا المجال يجب التمييز بين العالم والمهندس. فالعالم يتابع في المختبر الأبحاث التي تقود إلى اكتشاف قوانين تخضع المادة. أما المهندس فهو يعمل على تطبيق هذه القوانين، أو استغلال المادة من أجل هدف علمي محدد، وهو هدف تجاري بالأساس، يرمي إلى تحويل الفكرة أو الاكتشاف العلمي إلى خدمة أو سلعة قابلة للبيع. ومن هنا ضرورة تنفيذها بأقل تكلفة ممكنة. والانتقال من مجال العالم إلى مجال المهندس هو أيضا انتقال من مجال تقنيي المختبر إلى مجال عمال ومأجوري المعامل، أي انتقال من العلم إلى الشغل، من نشاط ذي طابع فردي إلى نشاط ذي طابع جماعي. وكما هو معروف فإن عالم المختبر لا يعرف أي نزاع أو صراع. فالأبحاث يقودها عادة باحث أو باحثان يساعدهم عدد قليل من التقنيين فيكون بذلك عدد العاملين في المختبر محدودا جدا. كما أن هؤلاء يعملون لغاية واحدة هي الوصول إلى الكشف العلمي. إن الرغبة في النجاح وفي قهر الطبيعة هي التي تهيمن على العاملين في المختبر من علماء وتقنيين، لهذا فإن عالمهم خال من الصراع والمواجهة، وقد ظهرت المشاكل الاجتماعية بالانتقال من المختبر إلى المعمل. ففي المعمل يحيط عدد كبير من العمال بالمهندس الذي يوزع عليهم مهاما مختلفة يطلب منهم إنجازها بأقصى سرعة لإنتاج أكبر عدد ممكن من المنتوجات وتحقيق أكبر قدر من الأرباح. وبفعل السرعة في الإنجاز والرغبة المهووسة في تحقيق المزيد من الأرباح فإن المهندس أو صاحب المعمل أصبح يميل إلى التعامل مع العمال كما لو كانوا من الآليات والتجهيزات الموجودة في مكان العمل، وهو الأمر الذي انتبه له العمال بشكل مبكر، ورفضوه بقوة [51].
من جهة أخرى نلاحظ أن الباحثين المهتمين بمسألة الشغل يتحدثون تارة عن الشغل وتارة أخرى عن العمل فهل يخفي الفرق في التسمية فرقا في مضمون المفهومين؟ إن تحليلا أوليا يظهر أنه ليس هنالك أي فرق جوهري بين المفهومين "فالشغل" emploi و"العمل" travail يستخدمان على التتالي في نفس السياق وبنفس المعنى، إلا أنه يمكن الإشارة مع ذلك إلى أن كلمة شغل تستخدم بشكل واسع حين يتعلق الأمر بالنشاط الذي يقوم به الإنسان في المجتمعات المعاصرة مقابل أجر يتقاضاه عن ذلك.
أما كلمة عمل فإنها تشير إضافة إلى المعنى السابق، إلى كل نشاط إنساني يدويا كان أو فكريا، مأجورا كان أو بدون مقابل مادي. وهنا يمكن أن نقول بأن الشخص الذي يقوم ب
مواضيع مماثلة
» الفلسفة والتواصل
» مفهوم الشغل
» دراسة مسترسلة حول العرق والتاريخ لكلود ليفي ستروس
» الشغل/الدولة/اللغة
» الحجاج في الفلسفة وفي تدريسها
» مفهوم الشغل
» دراسة مسترسلة حول العرق والتاريخ لكلود ليفي ستروس
» الشغل/الدولة/اللغة
» الحجاج في الفلسفة وفي تدريسها
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem
» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني
» لست أدري! لست أدري!
27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني
» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني
» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني
» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني