بحـث
المواضيع الأخيرة
الأخلاق وتاريخ الحمق
صفحة 1 من اصل 1
الأخلاق وتاريخ الحمق
الأخلاق وتاريخ الحمق
إدريس هواري
خصص ميشال فوكو، قبل وفاته بقليل، لمسألة الأخلاق كتابين [1] توج بهما عمله الفلسفي. لكن كم سنفاجأ عندما نعرف أن هذا الموضوع –موضوع القيم- لم يكن غائبا بالمرة في دراساته الفلسفة-التاريخية. صحيح أنه في كتابه الكلمات والأشياء، وفي صفحات جميلة خصها لمسألة الزوج الكوجيطو واللامفكر يقرر أن الفكر المعاصر ليس في حاجة إلى الأخلاق، فـ"منذ القرن التاسع عشر خرج الفكر من ذاته… ولم يعد بعد نظرية؛ فما أن يفكر [هذا الفكر] حتى يجرح أو يوفق، يقرب أو يبعد، يفصل، يحل، يعقد أو يفك، وبالتالي لا يمكن إلا أن يحرر ويستبعد. فالفكر، حتى قبل أن يفرض أو يرسم أفقا للمستقبل وقبل أن يعلن عما يجب القيام به، وقبل أن ينصح وينذر فقط، فليس هو منذ وجوده، وفي شكله المبكر، وحتى في ذاته، سوى فعل، وفعل خطير" [2]. يتبين من هذا القول أن فوكو وقت كتابته لـ "الكلمات والأشياء"، وأثناء صياغته لفقرات الكوجيطو واللامفكر كان يقيم التعارض بين الفكر والأخلاق، ومرد هذا التعارض هو اعتقاده أن الفكر لم يعد يرسم للناس ماذا يفعلون، وفيما يجب أن يعتقدوا، وما الحقيقة التي عليهم أن يتشبثوا بها، وما هو الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم [3]. فكل حديث عن الفكر بهذا المعنى لا يمكن إلى أن يعترف بعدم جدوى الحديث عن الأخلاق، لكونها لا تعكس ما يعيشه الفكر المعاصر، وبالتالي المجتمع المعاصر؛ وما يعيشه الفكر المعاصر هو أنه لم يعد "نظرية" تنتظر من سيقوم بتطبيقها لمعرفة هل تعكس الواقع فعلا، أم أنها منفصلة عنه. فالفكر ليس أداة تسمح لنا بالاختيار لكي نكون في اليمين أو في اليسار، بل هو، أساسا، ممارسة بها نحارب ونقاوم. ليس شيئا محايدا عن مجال الصراع بل هو أداة الصراع نفسها؛ فهناك علاقة وطيدة بين الطريقة التي نفكر بها، والطريقة التي نمارس بها.
لكن هذا الموقف الذي اتخذه فوكو من الأخلاق في كتابه الكلمات والأشياء، إذا فهمناه في إطار النقاش الذي افتتحه كتابه الحراسة والعقاب حول مسألة السلطة، تبين لنا بجلاء أن مسألة الأخلاق حاضرة بقوة في كتاباته الأولى، وأنها تعد من القضايا الأساسية التي انشغل بها وخصها بحيز مهم في هذه الكتابات، وبعد ذلك طفت إلى السطح كما طفت مسألة السلطة التي كانت حاضرة هي الأخرى [4]. وإذا كانت مسألة الأخلاق شبه غائبة في الكلمات والأشياء فمرد ذلك إلى كون الطابع الغالب على الكتاب هو الطابع المعرفي الذي يبحث في اختلاف الإبستميات. ولعل المرحلة التي كتب فيها الكتاب، والتي تتميز بطغيان الاتجاه البنيوي لم يساعد على فتح نقاش جدي حول الأخلاق، وهذا ما جعل مؤسس الاتجاه البنيوي في مجال الأنتروبولوجيا، كلود ليفي-ستروس لا يتعرض بشكل صريح لمسألة الأخلاق [5]، رغم كتابه الهام الذي أصدره تحت عنوان العرق والتاريخ.
لكن بشكل عام يمكن أن ننظر إلى موقف فوكو من مسألة الأخلاق والكلمات والأشياء على أنه موقف حذر يهدف إلى إيجاد المنحى اللائق والملائم لتناول الأخلاق، بعيدا عن الطرح الإيديولوجي والميتافيزيقي لها. وهذا ما تعرض له في كتابه اللاحق، وهو "حفريات المعرفة"، حيث أشار إلى الإمكانيات المنفتحة أمام الحفريات؛ هذه الإمكانيات التي ليست محصورة في إقامة حفريات للمعرفة العلمية، بل تتجاوزها إلى البحث في مسألة السلطة، ومسألة الأخلاق. وفيما يخص مسألة الجنس فإنها [ الحفريات ] ستبين كيف أن ألوان الحصر والإقصاء والتقييد والتقييم والحريات والانتهاكات الجنسية وجميع مظاهر الجنس الكلامية أو غيرها مرتبطة أوثق ارتباط بممارسة خطابية معينة… وهذا تحليل سوف يسير لا في اتجاه إبراز الإبستمية، والبحث عنها، بل في اتجاه ما يمكن أن ندعوه بالأخلاقية" [6].
مما سبق يتبين لنا أن وعي فوكو بأهمية الأخلاق. ذلك لأن الأمر يتعلق بمجال لا يمكن تغييبه وإقصاؤه بالاهتمام بالإبستميات وحدها؛ فالأخلاق، وما يرتبط بها من قضايا تمس الوجود الإنساني، تحدد ذاتية الإنسان وتجعل منها ممارسة فعلية لا تختزل في القوانين. لهذا وجب إقامة حفريات للأخلاق تهتم ليس بما يصبغ الناس عليه، في مرحلة تاريخية، صفة الحق والحقيقة بل بالممارسات الخطابية (حقل العبارات، مجموع المفاهيم، الاختيارات) التي تسند تصرفاتهم وتمثلاتهم في ذلك.
يظهر، إذن، أن البعد الأخلاقي لم يكن غائبا بشكل تام في فكر فوكو؛ بل هناك تعدد في أشكال الأخلاق التي تعرض لتناولها. ففي كل مرحلة من مراحل تفكيره نجد نوعا من الأخلاق يتخذ منها موقفا، أو يدعو إلى تبينها بجعلها مركزا لاهتمامات فلسفية راهنة. ولعل هذا التعدد الذي يطبع اهتمامه هو ما يؤكد أن الأخلاق لم تكن بالنسبة إليه مسألة معرفية محضة، يجب على المفكر أن يرسم معالمها الكبرى، ثم يقوم خطوة خطوة بتطويرها وإغنائها. إن الأخلاق تهم الحياة والكيفية التي نعيش بها، ونصارع من أجلها، ونريد أن نعطي بها لوجودنا بعدا استيتيقيا معينا.
نود أن نقف عند كتابه تاريخ الحمق لكونه يعتبر الإنتاج المؤسس للاتجاه الحفري، ولأنه يتعرض لشكل من أشكال الأخلاق. وسيكون موضوع اهتمامنا البعد الأنطولوجي للأخلاق، على أن نفهم من الأنطولوجيا الوجود من حيث هو إنتاج لصراع القوى، ومجال للهيمنة والإخضاع. لذا سينصب اهتمامنا ليس على القيم الأخلاقية التي عادة ما توضع كهدف للوجود الإنساني، إذ بفضلها يتمكن الإنسان من أن يجعل من وجوده وجودا يتصف بالسمو والتعالي عن وضعه الطبيعي الحيواني، بل على الممارسات المعرفية والمجتمعية التي تجد في الأخلاق "كأثيقا" [7] (=كأخلاقيات) وسيلة للتمييز، والفصل، والإقصاء، والترتيب… وبالتالي طريقة لإنتاج الحياة والمعنى. فالأخلاق من هذا المنظور مجموعة من "مقولات النظام" التي بواسطتها تعمل ثقافة ما على جعل التماسك والانسجام، وبالتالي التطابق والهوية يطبعان سلوكات الذين ينتمون إلى هذه الثقافة بطابع واحد؛ على أساس أن الانسجام المستهدف في إطار "النظام" يرمي إلى محو كل آثار "اللانظام. فهناك عملية خفية ومستترة في الأخلاق يتمكن بواسطتها "النظام" من أن يصبح آلة تمكن الثقافة، وبالتالي المجتمع، من أن يتحدث عن هوية واحدة، وتجعل المنتمين إليها يتحدثون ويعملون ويرغبون على أساسها وانطلاقا منها؛ وهذه الآلة تتشكل من "البداهات" و"المسلمات" [8] التي تنتمي إلى اللامفكر في كل ثقافة، حيث يظهر الفصل، بين النظام واللانظام شيئا مقبولا من الوجهة الأخلاقية. هذا ما يجعل الحديث عن حفريات الصمت يعني: متابعة نشأة وتكون وانتشار الخط الفاصل بين "النظام" و"اللانظام، وذلك بإبراز شكل وطبيعة الإدراك المنسجم الذي يتمتع بقدر من الوضوح والتمييز، والذي بفضله تتمكن ثقافة ما من الرفع من مكانة مقولات معينة لكونها تمثل وتجسد "النظام "من الوجهة العملية ، كما تمكنها من تهميش أخرى لكونها تفكك انسجام وتماسك الهوية.
إن موضوع كتاب تاريخ الحمق هو الحمق نفسه [9]، إذ يرمي فوكو إلى جعل الحمق يتحدث لغته الخاصة، ويحكي مسيرة اللاعقل في الثقافة الغربية التي أقصيت وهمشت كشيء يجب التخلص منه لأنها لا تساهم في "تقدم" الحضارة الغربية. من هنا جاء مشروع فوكو بوضع حفريات للصمت، وإقامة تاريخ للاستلاب، بهدف بيان كيف أنه يتم تغيير وتحوير وجود أناس معينين وتحويلهم إلى كائنات غريبة ومشوهة لا يمكن التعرف عليها ولا إدراك ما يجمعها ببقية البشرية. أما ما يبرر به ذلك، إن كان ثمة مبرر، فهو أنها تقع ضمن مجال غير معترف به، مجال ما يوجد على هامش "ما هو حقيقي" [10]. لهذا يعمل فوكو في عمله التاريخي على إبراز الآليات والممارسات المعرفية والمجتمعية التي جعلت المجتمع الغربي في العصر الكلاسيكي يخاطر بكل قيمه الثقافية والسياسية في صراع بين العقل واللاعقل [11]. ذلك أن تجربة الحمق، كما عرفها ومارسها المجتمع الغربي في العصر الكلاسيكي، لم تكن تجربة عادية ولا ممارسة مألوفة؛ فهي ليست من طينة الممارسات التي نعتبرها عادة طبيعية لارتباطها الوثيق بالطبيعة الإنسانية، بل هي تجربة خاصة ومتميزة، لكونها مثلت الحضارة الغربية في أدق مميزاتها، وحددت مصير هذه الحضارة؛ فكان الصراع بين العقل واللاعقل نوعا من الرهان التاريخي الذي يرتبط به مستقبل الثقافة والمجتمع. لهذا فهدف فوكو هو الوقوف عند اللحظة التاريخية التي برز معها التقسيم والترتيب بين ما ينتمي إلى مجال العقل، وما يقع على هامشه وبالتالي في أفق اللاعقل، وما يترتب عن رسم للحدود من تحديد للحقيقة واليقين في مقابل الخطأ والوهم والحلم والخيال [12]، والتشريع لأطراف بأن تمثل النظام لكونها توجد في دائرة الصدق والمشروع، ووضع أطراف أخرى في أماكن مسيجة ومقفلة لأنها تمثل الغريب والبعيد، ليس لأنها لا تتمتع بحق الوجود، بل لكونها أخضعت وهيمن عليها فتغير وجهها وأصبحت أطرافا صامتة ومستلبة لا يمكن النظر إليها إلا كوجود سلبي لا قوام له ولا شكل؛ فهي لا تصلح حتى أن تكون الوجه السلبي لما هو إيجابي؛ فإبعادها يعني النظر إليها كغريب لا يمكن أن يعتبر عنصرا في الهوية، كشيء يأتي من الخارج الذي يجب قهره باستمرار.
يظهر أنه في منحى البحث في الممارسات والآليات التي ساهمت في وضع خط فاصل بين الحمق والعقل، أو هذا الأخير واللاعقل بشكل عام يتعرض فوكو لمسألة الأخلاق حافرا ومنقبا في المستويات والاتجاهات والبنيات التي احتضنت الأخلاق، وربطت معها علاقات خفية ومستترة، ولكنها نشيطة في حركتها وانتشارها، مما جعلها قادرة على خلق عقد تتركز فيها قوى ومناطق التأثير. فتوجه اهتمام فوكو نحو إعادة اكتشاف العلاقات التي استقرت وأخذت طابعا خاصا متمثلا في الحجز الكبير [13] (الحبس)، وعند هذه النقطة بالضبط يتعرض لمسألة الأخلاق.
لعل ما يميز العصر الكلاسيكي هو ظهور مجال اجتماعي تتحدد سماته وخصائصه انطلاقا من الشغل [14]، الذي أصبح المقياس الذي يمكن الفرد من الحصول على الحق للانتماء إلى الجماعة البشرية، لكون الفرد يساهم بعرق جبينه، ليس بالقيام بعمل ضمن سلسلة الأعمال الإنتاجية للحصول على القوت الضروري للاكتفاء الذاتي، بل لأن الشغل يؤدي إلى تراكمات في رأس المال والوفرة في الإنتاج، مما يسهل تحقيق المدينة المنظمة، فاعتبر "التسول والبطالة والعوز مصادر للبلبلة والاضطرابات الاجتماعية" [15]، وبالتالي لزم إعادة تنظيم الفئات الاجتماعية التي يمثلها المعوزون والفقراء والعاطلون الذين يعدون نتيجة للفوضى واللانظام، وعقبة أمام إقامة النظام [16]. فعمدت البورجوازية والدولة على "إعادة تنظيم عالم الفقر" [17].
إن مقولتي الشغل والبطالة هما اللتان أصبحتا تحددان من ينتمي إلى المجتمع وبالتالي تصان هويته، ومن يوجد في الخارج فيصبح اللامسمى، لأن عالم الفقر والعوز الذي أعيد تشكيل معناه ودلالته بسبب الرفع من مكانة الشغل والإنتاج أصبح يرزح تحت مفهومي النظام واللانظام، يقول فوكو، وهو يتحدث عن الأحمق الذي صنف ضمن العاطلين: "إن الوضع الذي استقر عليه [الحمق في العصر الكلاسيكي ]، تحدد في عالم آخر، عالم مسيج بالقوى المقدسة للعمل. وإذا كان في الحمق الكلاسيكي شيء يتحدث عن البعيد والغريب، فليس مرد ذلك إلى أن الأحمق قادم من سماء أخرى، سماء اللاعقل ويحمل علاماته، بل لكونه تجاوز باختياره حدود النظام البورجوازي، وأصبح بفعل ذلك مستلبا، وخارج حدوده الأخلاقيات المقدسة" [18].
ولقد اخترق هذا التقابل الكنيسة ذاتها، فميزت بين الجهة الخيرة ويمثلها المعوزون والفقراء والعاطلون الذين قبلوا بطواعية الخضوع للنظام ومتطلباته، وبالتالي قبول النظام البورجوازي الذي جعل من الشغل مقياسا للانتماء للمجتمع؛ والجهة الشريرة والعاقة وتتجسد في أولئك الذين رفضوا الخضوع للنظام وقبلوا بدله العيش في الفوضى.
إن ما يظهر لنا هو أن الشغل أصبح ضرورة عامة" [19]، أي خطا فاصلا بين الحياة الإنسانية الخيرة والمنظمة، والحياة المعارضة للطبيعة والنظام. واعتمادا على هذا الخط الفاصل أمكن التمييز بين من هو قابل لأن يجد لنفسه مكانا في المجتمع الذي تحلم به البورجوازي الجديد الذي يعتبر الشغل ضرورة ومقياسا لتحديد من مع النظام ومن ضده. فلكون الشغل لا تحتمه المتطلبات الطبيعية التي جعلت من الإنسان كائنا غير مكتمل عليه أن يقوم بأي عمل ولو كان أوليا، بل تحتمه متطلبات أخلاقية. ذلك أن القوانين ليست هي التي تدفع الإنسان لكي يشتغل بل "تعاليه الإثيقي" [20] (=الأخلاقي). وهذا الأمر هو الذي سيعطي للحجز الكبير معناه ودلالاته.
لقد وقع تداخل مثير في العصر الكلاسيكي بين الشغل والأخلاق والحجز (=السجن)؛ ذلك أن الأخلاق لعبت دورا أساسيا في تحديد مفهوم الشغل من جهة، ومن جهة أخرى إبراز صفات الإنسان الاجتماعي الذي يجب أن يتمتع بحريته، والإنسان الذي يفقدها بحجزه، لأن أصل الفقر والبطالة والكسل، حسب الأخلاق، ليس قلة السلع، وعدم وجود مناصب للشغل، بل في "هشاشة التربية والتهذيب وتساهل التقاليد" [21]، واعتبر الحجز الكبير "مؤسسة أخلاقية مكلفة بمعاقبة العاطلين، وإصلاح "الفراغ" الأخلاقي الذي لا يستحق أن يعرض على محكمة البشر" [22]، وهذا يعني أن كل حجز هو تمرين وتدريب إيثقي وضمانة أخلاقية، فإذا أبان الفرد عن رغبة واضحة في الشغل حتى يؤدي دوره النافع للمجتمع، يطلق سراحه ويستعيد حريته، لكونه "قبل من جديد الخضوع للعقد الإثيقي للوجود الإنساني" [23].
لكن الجديد في هذه التجربة الأخلاقية هو أنه "لأول مرة لا يتم اللجوء إلى الإقصاء والإبعاد عن أسوار المدينة، بل إلى الحجز (=الحبس)؛ فالعاطل لا يطرد ولكن تتكفل به الأمة على حساب ضياع حريته الخاصة، لأن "الفضيلة أصبحت شيئا يهم الدولة، وباستصدار مرسوم يمكن أن تنتشر بين الناس وتصان وتحترم بوضع سلطة لهذا الغرض" [24]. ذلك أن الناس لم يعودوا يحاكمون بمقتضيات القانون، بل بالواجبات الأخلاقية. لقد تراجع هؤلاء الذين لا ينتجون، والذين يعتبرون عالة على الآخرين لكونهم فقراء ومعوزين بسبب ميلهم إلى الراحة والبطالة. إن الحجز تركيبة عجيبة من الواجب الأخلاقي والقوانين المدنية. وهذا ما جعل أن كل محجوز قبل أن يكون "موضوعا للمعرفة والرأفة هو ذات أخلاقية" [25]، وبالتالي فإن التعارض بين الفقراء والمعوزين الطيبين والأشرار هو تعارض أساسي في بنية الحجز، إذ بدونه يفقد كل ذلك معناه ودلالاته الاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما دفع بفوكو إلى القول إن هذه البنايات القمعية: لم تكن بنايات طبية استشفائية، وإنما وضعت لتستجيب لإثيقة جديدة للعمل؛ فهي تلعب دورين أساسيين أولا كأداة "لامتصاص البطالة والقيام بحماية اجتماعية ضد أعمال الشغب والفتن" وثانيا، مستودع في وقت الرخاء "ليد عاملة رخيصة" [26].
فلقد مثل الحجز الكبير إذن، اعتمادا على الأخلاق، المؤسسة الاجتماعية التي مكنت المجتمع البورجوازي من إعادة تنظيم المجتمع وتأهيل العاطلين والمعوزين والفقراء من جديد لكي يصبحوا كائنات اجتماعية مقبولة، لأن ساكنة الحجز تمثل "الجانب السلبي من المدينة الأخلاقية التي تحلم بها البورجوازية" [27]. فهناك تواطؤ بين الأخلاق والشغل، لكون الكسل والبطالة يعتبران شكلان من أشكال الثورة والرفض.
***
لكن لماذا ربط المجتمع في العصر الكلاسيكي بين الشغل والأخلاق؟ لكي نفهم هذا الربط علينا أن نرجع إلى القراءة التي قام بها فوكو لتأملات ديكارت وخاصة التأمل الأول، لأن النص الفلسفي كعلامة من علامات عصره، كشيء منبثق من نفس الأرضية التي أنتجت ما هو عملي (الحجز)، يسمح لنا باختلافه وتباينه على فهم ما وقع من وجهة مغايرة، فليست هناك أفضلية للنظري على ما هو عملي، أو العكس، لكونهما ينتميان إلى نفس التربة، والشبكة العلائقية التي جعلت "الكلاسيكيين" لا يرون إلا ما عبروا عنه، وما مارسوه. فكل خطاب هو قبل كل شيء ممارسة تاريخية يتجذر مضمونه وشكله في الشروط التاريخية التي سمحت بتشكيله وصياغته. في هذا المنحى فإن مسألة الخير والشر كقيمتين أخلاقيتين كانتا مبطنتين بمسألة العقل واللاعقل، وهذا يعني أن النقاش حول الأخلاق كان يمر عبر القنوات والمسالك التي رسمتها العقلانية لنفسها، وهي الرفع من مكانة "العقل" والدفاع عن الإنسان الذي يقع "ضمن نطاق العقل". فالتبطين يعني السكوت على أشياء وإبراز أخرى، وبالتالي ملأ الفراغ، الذي بينهما، بالحقيقة اليقينية التي تغلب، بطبيعة الحال، جانب العقل على ما يعارضه. ولكي نفهم هذا التبطين وما يترتب عنه من سكوت وتهميش وإقصاء، لنتعرف على ما الذي يجعل الأحمق والعاطل والفقير… لا يقعون ضمن نطاق العقل؟
يقول فوكو: "يمكن للعقلانية أن تتصور بشكل متناقض حمقا لا يكون فيه العقل مختلا، لكنها ستقر بوجوده عندما تعتبر أن حياة الفرد الأخلاقية فاسدة وإرادته سيئة. فسر الحمق يكمن في طبيعة الإرادة وليس في كمال العقل" [28]. يظهر أن معنى عبارة "الوقوع ضمن مجال العقل" هو الاتصاف بالإرادة الخيرة التي تريد وتعمل وتجتهد على أن يكون أصل ومبتغى فعلها هو الخير، أي "الإصابة في الحكم" [29]، ما دام هذا الأخير معطى في ذاته، وخارج وجودنا؛ إننا نصبو إلى الوصول إليه بتوظيف "منهج" يحمينا، نحن الكائنات المتناهية، من عدم استعمال الملكة التي توجد عند جميع "البشر بالتساوي" [30] (=العقل السليم)، استعمالا منتجا؛ الشيء الذي يفرض على من يريد أن يصل إلى الحقيقة ويغوص في دروبها الملتوية –لأن البداهة والبساطة هي أساسا تبسيط لما هو معقد- [31] أن يكون قد حسم في أمر إرادته وحدد وجهتها منذ البداية. لهذا يجب علينا، حسب ديكارت، أن نلجأ إلى الشك، كممارسة فلسفية، مرة واحدة في حياتنا على الأقل [32].
يتبين لنا من ما سبق أن العقلانية الديكارتية ترجع السلوكات الأخلاقية إلى مسألة الإرادة، لأن الأحمق والعاطل أرادا بإرادتهما الذاتية أن يكونا كذلك. فهناك مسلمة تنطلق منها فلسفة ديكارت وهي القول بأننا "نقبل بسهولة إصابتنا بالحمق، لكوننا نريد ذلك" [33]. وهذا ما يجعل الحمق، على خلاف وضعه في عصر النهضة، ينشأ من "هذه السلطة الفردية التي لدى الإنسان والتي تتمثل في إرادته، وهذا ما يؤدى إلى تجدر الحمق في عالم الأخلاق" [34]. هذا ما دفع بفوكو إلى القول إن ديكارت "طوق" الحمق وأبعده من عملية الشك التي تحركه منذ انطلاقه، لكون الكوجيطو الذي ليس شيئا آخر سوى الإرادة العازمة على أن تبقى متيقظة يمكن الإنسان الذي يشك من أن لا يعرف الحمق، ما دام قد قرر بإرادته أن يكون عاقلا، وقادرا على إبعاد الأوهام التي تهدد العقل. لقد تم إقصاء اللاإرادة العقل، لأنه "قبل الكوجيطو كان هناك ترابط وتلازم مبكر بين الإرادة والاختيار والعقل واللاعقل. فالعقل لا يجد الإثيقا عند منتهى حقيقته، وفي شكل القوانين الأخلاقية، بل كاختيار ضد اللاعقل، باعتبارها أصل كل فكر مشترك، وأن مساحتها اللامتناهية والممتدة على طول الفكر، تشير إلى مسار حرية هي أساسا مبدأ العقل" [35]. فأصل ومصدر العقل في العصر الكلاسيكي هو "حقل الإيثيقا" [36] (الأخلاقيات).
فالأمر، إذن، من الوجهة الأخلاقية يتعلق بإرادة الاختيار، لكونها عنصر أساسي في بنية العقل، والإنسان نفسه. وهذا ما نجده جليا في حديث ديكارت عن دلالة ووظيفة العقل باعتباره وعيا. فإذا كان العقل هو أعدل قسمة بين الناس وبالتالي لا أحد يريد منه الزيادة، فلكون الفرد يعي ذاته كفرد، وينظر إلى ذاته كمصدر لأفعاله وسلوكاته مما يجعل العقل هو الوعي عندما يتطابق الفرد مع ذاته مجسدا ذلك في الخطاب الذي يتفوه به. فلكي يتمكن الفرد من أن يعي ذاته كذات عاقلة فمن اللازم أن يكون الكلام الذي ينطق به كخطاب يطابق ذاته [37]، مما يعني أن مصدر الخطاب هو الذات وقد تمكنت من أن تجعل مضمون الخطاب وشكله واضحين ومتميزين. ما يترتب عن ما سبق هو أنه إذا كان العقل يعني الوضوح والتمييز لكونه يجسد الوعي، فإن التساؤل عن العقل لا يعني تأمله كتجسيد لنظام كوني ميتافيزيقي، بهدف الوصول إلى حكم صائب. وما دام هذا الأخير يتأسس على الإرادة، فإن الخطأ سيكون منسوبا إلى الإنسان الذي يكون قد استعمل حريته استعمالا سيئا.
يتبين مما سبق أن قراءة فوكو للتأمل الديكارتي الأول هي قراءة أخلاقية [38] توخى منها إبراز تجذر العقلانية في حقل الأخلاق من جهة، والحفر في أسس المسار الذي اتخذته النظرة الفلسفية للإنسان فيما بعد عندما تأسست العلوم الإنسانية. إن ما اكتشفه فوكو هو أن الأخلاق ليست مسألة خير وشر، ولا قيما متعالية يعمل الإنسان على أن يستبطنها أو أن يسمو بسلوكاته لكي يجعلها تطابق هذه القيم، بل إن الأخلاق مسألة أنطولوجية تحدد الإنسان في وجوده بفعل التقسيم والتصنيف، وبالتالي الهيمنة والتغلب. إننا أما درس نيتشه حول جينيالوجيا الأخلاق. وهذا ما يؤكده فوكو عندما أعلن أن العلامة المميزة لأعماله، ابتداءا من كتابه الحراسة والعقاب، هي علامة جينيالوجية الأخلاق.
________________________________________
إدريس هواري
خصص ميشال فوكو، قبل وفاته بقليل، لمسألة الأخلاق كتابين [1] توج بهما عمله الفلسفي. لكن كم سنفاجأ عندما نعرف أن هذا الموضوع –موضوع القيم- لم يكن غائبا بالمرة في دراساته الفلسفة-التاريخية. صحيح أنه في كتابه الكلمات والأشياء، وفي صفحات جميلة خصها لمسألة الزوج الكوجيطو واللامفكر يقرر أن الفكر المعاصر ليس في حاجة إلى الأخلاق، فـ"منذ القرن التاسع عشر خرج الفكر من ذاته… ولم يعد بعد نظرية؛ فما أن يفكر [هذا الفكر] حتى يجرح أو يوفق، يقرب أو يبعد، يفصل، يحل، يعقد أو يفك، وبالتالي لا يمكن إلا أن يحرر ويستبعد. فالفكر، حتى قبل أن يفرض أو يرسم أفقا للمستقبل وقبل أن يعلن عما يجب القيام به، وقبل أن ينصح وينذر فقط، فليس هو منذ وجوده، وفي شكله المبكر، وحتى في ذاته، سوى فعل، وفعل خطير" [2]. يتبين من هذا القول أن فوكو وقت كتابته لـ "الكلمات والأشياء"، وأثناء صياغته لفقرات الكوجيطو واللامفكر كان يقيم التعارض بين الفكر والأخلاق، ومرد هذا التعارض هو اعتقاده أن الفكر لم يعد يرسم للناس ماذا يفعلون، وفيما يجب أن يعتقدوا، وما الحقيقة التي عليهم أن يتشبثوا بها، وما هو الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم [3]. فكل حديث عن الفكر بهذا المعنى لا يمكن إلى أن يعترف بعدم جدوى الحديث عن الأخلاق، لكونها لا تعكس ما يعيشه الفكر المعاصر، وبالتالي المجتمع المعاصر؛ وما يعيشه الفكر المعاصر هو أنه لم يعد "نظرية" تنتظر من سيقوم بتطبيقها لمعرفة هل تعكس الواقع فعلا، أم أنها منفصلة عنه. فالفكر ليس أداة تسمح لنا بالاختيار لكي نكون في اليمين أو في اليسار، بل هو، أساسا، ممارسة بها نحارب ونقاوم. ليس شيئا محايدا عن مجال الصراع بل هو أداة الصراع نفسها؛ فهناك علاقة وطيدة بين الطريقة التي نفكر بها، والطريقة التي نمارس بها.
لكن هذا الموقف الذي اتخذه فوكو من الأخلاق في كتابه الكلمات والأشياء، إذا فهمناه في إطار النقاش الذي افتتحه كتابه الحراسة والعقاب حول مسألة السلطة، تبين لنا بجلاء أن مسألة الأخلاق حاضرة بقوة في كتاباته الأولى، وأنها تعد من القضايا الأساسية التي انشغل بها وخصها بحيز مهم في هذه الكتابات، وبعد ذلك طفت إلى السطح كما طفت مسألة السلطة التي كانت حاضرة هي الأخرى [4]. وإذا كانت مسألة الأخلاق شبه غائبة في الكلمات والأشياء فمرد ذلك إلى كون الطابع الغالب على الكتاب هو الطابع المعرفي الذي يبحث في اختلاف الإبستميات. ولعل المرحلة التي كتب فيها الكتاب، والتي تتميز بطغيان الاتجاه البنيوي لم يساعد على فتح نقاش جدي حول الأخلاق، وهذا ما جعل مؤسس الاتجاه البنيوي في مجال الأنتروبولوجيا، كلود ليفي-ستروس لا يتعرض بشكل صريح لمسألة الأخلاق [5]، رغم كتابه الهام الذي أصدره تحت عنوان العرق والتاريخ.
لكن بشكل عام يمكن أن ننظر إلى موقف فوكو من مسألة الأخلاق والكلمات والأشياء على أنه موقف حذر يهدف إلى إيجاد المنحى اللائق والملائم لتناول الأخلاق، بعيدا عن الطرح الإيديولوجي والميتافيزيقي لها. وهذا ما تعرض له في كتابه اللاحق، وهو "حفريات المعرفة"، حيث أشار إلى الإمكانيات المنفتحة أمام الحفريات؛ هذه الإمكانيات التي ليست محصورة في إقامة حفريات للمعرفة العلمية، بل تتجاوزها إلى البحث في مسألة السلطة، ومسألة الأخلاق. وفيما يخص مسألة الجنس فإنها [ الحفريات ] ستبين كيف أن ألوان الحصر والإقصاء والتقييد والتقييم والحريات والانتهاكات الجنسية وجميع مظاهر الجنس الكلامية أو غيرها مرتبطة أوثق ارتباط بممارسة خطابية معينة… وهذا تحليل سوف يسير لا في اتجاه إبراز الإبستمية، والبحث عنها، بل في اتجاه ما يمكن أن ندعوه بالأخلاقية" [6].
مما سبق يتبين لنا أن وعي فوكو بأهمية الأخلاق. ذلك لأن الأمر يتعلق بمجال لا يمكن تغييبه وإقصاؤه بالاهتمام بالإبستميات وحدها؛ فالأخلاق، وما يرتبط بها من قضايا تمس الوجود الإنساني، تحدد ذاتية الإنسان وتجعل منها ممارسة فعلية لا تختزل في القوانين. لهذا وجب إقامة حفريات للأخلاق تهتم ليس بما يصبغ الناس عليه، في مرحلة تاريخية، صفة الحق والحقيقة بل بالممارسات الخطابية (حقل العبارات، مجموع المفاهيم، الاختيارات) التي تسند تصرفاتهم وتمثلاتهم في ذلك.
يظهر، إذن، أن البعد الأخلاقي لم يكن غائبا بشكل تام في فكر فوكو؛ بل هناك تعدد في أشكال الأخلاق التي تعرض لتناولها. ففي كل مرحلة من مراحل تفكيره نجد نوعا من الأخلاق يتخذ منها موقفا، أو يدعو إلى تبينها بجعلها مركزا لاهتمامات فلسفية راهنة. ولعل هذا التعدد الذي يطبع اهتمامه هو ما يؤكد أن الأخلاق لم تكن بالنسبة إليه مسألة معرفية محضة، يجب على المفكر أن يرسم معالمها الكبرى، ثم يقوم خطوة خطوة بتطويرها وإغنائها. إن الأخلاق تهم الحياة والكيفية التي نعيش بها، ونصارع من أجلها، ونريد أن نعطي بها لوجودنا بعدا استيتيقيا معينا.
نود أن نقف عند كتابه تاريخ الحمق لكونه يعتبر الإنتاج المؤسس للاتجاه الحفري، ولأنه يتعرض لشكل من أشكال الأخلاق. وسيكون موضوع اهتمامنا البعد الأنطولوجي للأخلاق، على أن نفهم من الأنطولوجيا الوجود من حيث هو إنتاج لصراع القوى، ومجال للهيمنة والإخضاع. لذا سينصب اهتمامنا ليس على القيم الأخلاقية التي عادة ما توضع كهدف للوجود الإنساني، إذ بفضلها يتمكن الإنسان من أن يجعل من وجوده وجودا يتصف بالسمو والتعالي عن وضعه الطبيعي الحيواني، بل على الممارسات المعرفية والمجتمعية التي تجد في الأخلاق "كأثيقا" [7] (=كأخلاقيات) وسيلة للتمييز، والفصل، والإقصاء، والترتيب… وبالتالي طريقة لإنتاج الحياة والمعنى. فالأخلاق من هذا المنظور مجموعة من "مقولات النظام" التي بواسطتها تعمل ثقافة ما على جعل التماسك والانسجام، وبالتالي التطابق والهوية يطبعان سلوكات الذين ينتمون إلى هذه الثقافة بطابع واحد؛ على أساس أن الانسجام المستهدف في إطار "النظام" يرمي إلى محو كل آثار "اللانظام. فهناك عملية خفية ومستترة في الأخلاق يتمكن بواسطتها "النظام" من أن يصبح آلة تمكن الثقافة، وبالتالي المجتمع، من أن يتحدث عن هوية واحدة، وتجعل المنتمين إليها يتحدثون ويعملون ويرغبون على أساسها وانطلاقا منها؛ وهذه الآلة تتشكل من "البداهات" و"المسلمات" [8] التي تنتمي إلى اللامفكر في كل ثقافة، حيث يظهر الفصل، بين النظام واللانظام شيئا مقبولا من الوجهة الأخلاقية. هذا ما يجعل الحديث عن حفريات الصمت يعني: متابعة نشأة وتكون وانتشار الخط الفاصل بين "النظام" و"اللانظام، وذلك بإبراز شكل وطبيعة الإدراك المنسجم الذي يتمتع بقدر من الوضوح والتمييز، والذي بفضله تتمكن ثقافة ما من الرفع من مكانة مقولات معينة لكونها تمثل وتجسد "النظام "من الوجهة العملية ، كما تمكنها من تهميش أخرى لكونها تفكك انسجام وتماسك الهوية.
إن موضوع كتاب تاريخ الحمق هو الحمق نفسه [9]، إذ يرمي فوكو إلى جعل الحمق يتحدث لغته الخاصة، ويحكي مسيرة اللاعقل في الثقافة الغربية التي أقصيت وهمشت كشيء يجب التخلص منه لأنها لا تساهم في "تقدم" الحضارة الغربية. من هنا جاء مشروع فوكو بوضع حفريات للصمت، وإقامة تاريخ للاستلاب، بهدف بيان كيف أنه يتم تغيير وتحوير وجود أناس معينين وتحويلهم إلى كائنات غريبة ومشوهة لا يمكن التعرف عليها ولا إدراك ما يجمعها ببقية البشرية. أما ما يبرر به ذلك، إن كان ثمة مبرر، فهو أنها تقع ضمن مجال غير معترف به، مجال ما يوجد على هامش "ما هو حقيقي" [10]. لهذا يعمل فوكو في عمله التاريخي على إبراز الآليات والممارسات المعرفية والمجتمعية التي جعلت المجتمع الغربي في العصر الكلاسيكي يخاطر بكل قيمه الثقافية والسياسية في صراع بين العقل واللاعقل [11]. ذلك أن تجربة الحمق، كما عرفها ومارسها المجتمع الغربي في العصر الكلاسيكي، لم تكن تجربة عادية ولا ممارسة مألوفة؛ فهي ليست من طينة الممارسات التي نعتبرها عادة طبيعية لارتباطها الوثيق بالطبيعة الإنسانية، بل هي تجربة خاصة ومتميزة، لكونها مثلت الحضارة الغربية في أدق مميزاتها، وحددت مصير هذه الحضارة؛ فكان الصراع بين العقل واللاعقل نوعا من الرهان التاريخي الذي يرتبط به مستقبل الثقافة والمجتمع. لهذا فهدف فوكو هو الوقوف عند اللحظة التاريخية التي برز معها التقسيم والترتيب بين ما ينتمي إلى مجال العقل، وما يقع على هامشه وبالتالي في أفق اللاعقل، وما يترتب عن رسم للحدود من تحديد للحقيقة واليقين في مقابل الخطأ والوهم والحلم والخيال [12]، والتشريع لأطراف بأن تمثل النظام لكونها توجد في دائرة الصدق والمشروع، ووضع أطراف أخرى في أماكن مسيجة ومقفلة لأنها تمثل الغريب والبعيد، ليس لأنها لا تتمتع بحق الوجود، بل لكونها أخضعت وهيمن عليها فتغير وجهها وأصبحت أطرافا صامتة ومستلبة لا يمكن النظر إليها إلا كوجود سلبي لا قوام له ولا شكل؛ فهي لا تصلح حتى أن تكون الوجه السلبي لما هو إيجابي؛ فإبعادها يعني النظر إليها كغريب لا يمكن أن يعتبر عنصرا في الهوية، كشيء يأتي من الخارج الذي يجب قهره باستمرار.
يظهر أنه في منحى البحث في الممارسات والآليات التي ساهمت في وضع خط فاصل بين الحمق والعقل، أو هذا الأخير واللاعقل بشكل عام يتعرض فوكو لمسألة الأخلاق حافرا ومنقبا في المستويات والاتجاهات والبنيات التي احتضنت الأخلاق، وربطت معها علاقات خفية ومستترة، ولكنها نشيطة في حركتها وانتشارها، مما جعلها قادرة على خلق عقد تتركز فيها قوى ومناطق التأثير. فتوجه اهتمام فوكو نحو إعادة اكتشاف العلاقات التي استقرت وأخذت طابعا خاصا متمثلا في الحجز الكبير [13] (الحبس)، وعند هذه النقطة بالضبط يتعرض لمسألة الأخلاق.
لعل ما يميز العصر الكلاسيكي هو ظهور مجال اجتماعي تتحدد سماته وخصائصه انطلاقا من الشغل [14]، الذي أصبح المقياس الذي يمكن الفرد من الحصول على الحق للانتماء إلى الجماعة البشرية، لكون الفرد يساهم بعرق جبينه، ليس بالقيام بعمل ضمن سلسلة الأعمال الإنتاجية للحصول على القوت الضروري للاكتفاء الذاتي، بل لأن الشغل يؤدي إلى تراكمات في رأس المال والوفرة في الإنتاج، مما يسهل تحقيق المدينة المنظمة، فاعتبر "التسول والبطالة والعوز مصادر للبلبلة والاضطرابات الاجتماعية" [15]، وبالتالي لزم إعادة تنظيم الفئات الاجتماعية التي يمثلها المعوزون والفقراء والعاطلون الذين يعدون نتيجة للفوضى واللانظام، وعقبة أمام إقامة النظام [16]. فعمدت البورجوازية والدولة على "إعادة تنظيم عالم الفقر" [17].
إن مقولتي الشغل والبطالة هما اللتان أصبحتا تحددان من ينتمي إلى المجتمع وبالتالي تصان هويته، ومن يوجد في الخارج فيصبح اللامسمى، لأن عالم الفقر والعوز الذي أعيد تشكيل معناه ودلالته بسبب الرفع من مكانة الشغل والإنتاج أصبح يرزح تحت مفهومي النظام واللانظام، يقول فوكو، وهو يتحدث عن الأحمق الذي صنف ضمن العاطلين: "إن الوضع الذي استقر عليه [الحمق في العصر الكلاسيكي ]، تحدد في عالم آخر، عالم مسيج بالقوى المقدسة للعمل. وإذا كان في الحمق الكلاسيكي شيء يتحدث عن البعيد والغريب، فليس مرد ذلك إلى أن الأحمق قادم من سماء أخرى، سماء اللاعقل ويحمل علاماته، بل لكونه تجاوز باختياره حدود النظام البورجوازي، وأصبح بفعل ذلك مستلبا، وخارج حدوده الأخلاقيات المقدسة" [18].
ولقد اخترق هذا التقابل الكنيسة ذاتها، فميزت بين الجهة الخيرة ويمثلها المعوزون والفقراء والعاطلون الذين قبلوا بطواعية الخضوع للنظام ومتطلباته، وبالتالي قبول النظام البورجوازي الذي جعل من الشغل مقياسا للانتماء للمجتمع؛ والجهة الشريرة والعاقة وتتجسد في أولئك الذين رفضوا الخضوع للنظام وقبلوا بدله العيش في الفوضى.
إن ما يظهر لنا هو أن الشغل أصبح ضرورة عامة" [19]، أي خطا فاصلا بين الحياة الإنسانية الخيرة والمنظمة، والحياة المعارضة للطبيعة والنظام. واعتمادا على هذا الخط الفاصل أمكن التمييز بين من هو قابل لأن يجد لنفسه مكانا في المجتمع الذي تحلم به البورجوازي الجديد الذي يعتبر الشغل ضرورة ومقياسا لتحديد من مع النظام ومن ضده. فلكون الشغل لا تحتمه المتطلبات الطبيعية التي جعلت من الإنسان كائنا غير مكتمل عليه أن يقوم بأي عمل ولو كان أوليا، بل تحتمه متطلبات أخلاقية. ذلك أن القوانين ليست هي التي تدفع الإنسان لكي يشتغل بل "تعاليه الإثيقي" [20] (=الأخلاقي). وهذا الأمر هو الذي سيعطي للحجز الكبير معناه ودلالاته.
لقد وقع تداخل مثير في العصر الكلاسيكي بين الشغل والأخلاق والحجز (=السجن)؛ ذلك أن الأخلاق لعبت دورا أساسيا في تحديد مفهوم الشغل من جهة، ومن جهة أخرى إبراز صفات الإنسان الاجتماعي الذي يجب أن يتمتع بحريته، والإنسان الذي يفقدها بحجزه، لأن أصل الفقر والبطالة والكسل، حسب الأخلاق، ليس قلة السلع، وعدم وجود مناصب للشغل، بل في "هشاشة التربية والتهذيب وتساهل التقاليد" [21]، واعتبر الحجز الكبير "مؤسسة أخلاقية مكلفة بمعاقبة العاطلين، وإصلاح "الفراغ" الأخلاقي الذي لا يستحق أن يعرض على محكمة البشر" [22]، وهذا يعني أن كل حجز هو تمرين وتدريب إيثقي وضمانة أخلاقية، فإذا أبان الفرد عن رغبة واضحة في الشغل حتى يؤدي دوره النافع للمجتمع، يطلق سراحه ويستعيد حريته، لكونه "قبل من جديد الخضوع للعقد الإثيقي للوجود الإنساني" [23].
لكن الجديد في هذه التجربة الأخلاقية هو أنه "لأول مرة لا يتم اللجوء إلى الإقصاء والإبعاد عن أسوار المدينة، بل إلى الحجز (=الحبس)؛ فالعاطل لا يطرد ولكن تتكفل به الأمة على حساب ضياع حريته الخاصة، لأن "الفضيلة أصبحت شيئا يهم الدولة، وباستصدار مرسوم يمكن أن تنتشر بين الناس وتصان وتحترم بوضع سلطة لهذا الغرض" [24]. ذلك أن الناس لم يعودوا يحاكمون بمقتضيات القانون، بل بالواجبات الأخلاقية. لقد تراجع هؤلاء الذين لا ينتجون، والذين يعتبرون عالة على الآخرين لكونهم فقراء ومعوزين بسبب ميلهم إلى الراحة والبطالة. إن الحجز تركيبة عجيبة من الواجب الأخلاقي والقوانين المدنية. وهذا ما جعل أن كل محجوز قبل أن يكون "موضوعا للمعرفة والرأفة هو ذات أخلاقية" [25]، وبالتالي فإن التعارض بين الفقراء والمعوزين الطيبين والأشرار هو تعارض أساسي في بنية الحجز، إذ بدونه يفقد كل ذلك معناه ودلالاته الاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما دفع بفوكو إلى القول إن هذه البنايات القمعية: لم تكن بنايات طبية استشفائية، وإنما وضعت لتستجيب لإثيقة جديدة للعمل؛ فهي تلعب دورين أساسيين أولا كأداة "لامتصاص البطالة والقيام بحماية اجتماعية ضد أعمال الشغب والفتن" وثانيا، مستودع في وقت الرخاء "ليد عاملة رخيصة" [26].
فلقد مثل الحجز الكبير إذن، اعتمادا على الأخلاق، المؤسسة الاجتماعية التي مكنت المجتمع البورجوازي من إعادة تنظيم المجتمع وتأهيل العاطلين والمعوزين والفقراء من جديد لكي يصبحوا كائنات اجتماعية مقبولة، لأن ساكنة الحجز تمثل "الجانب السلبي من المدينة الأخلاقية التي تحلم بها البورجوازية" [27]. فهناك تواطؤ بين الأخلاق والشغل، لكون الكسل والبطالة يعتبران شكلان من أشكال الثورة والرفض.
***
لكن لماذا ربط المجتمع في العصر الكلاسيكي بين الشغل والأخلاق؟ لكي نفهم هذا الربط علينا أن نرجع إلى القراءة التي قام بها فوكو لتأملات ديكارت وخاصة التأمل الأول، لأن النص الفلسفي كعلامة من علامات عصره، كشيء منبثق من نفس الأرضية التي أنتجت ما هو عملي (الحجز)، يسمح لنا باختلافه وتباينه على فهم ما وقع من وجهة مغايرة، فليست هناك أفضلية للنظري على ما هو عملي، أو العكس، لكونهما ينتميان إلى نفس التربة، والشبكة العلائقية التي جعلت "الكلاسيكيين" لا يرون إلا ما عبروا عنه، وما مارسوه. فكل خطاب هو قبل كل شيء ممارسة تاريخية يتجذر مضمونه وشكله في الشروط التاريخية التي سمحت بتشكيله وصياغته. في هذا المنحى فإن مسألة الخير والشر كقيمتين أخلاقيتين كانتا مبطنتين بمسألة العقل واللاعقل، وهذا يعني أن النقاش حول الأخلاق كان يمر عبر القنوات والمسالك التي رسمتها العقلانية لنفسها، وهي الرفع من مكانة "العقل" والدفاع عن الإنسان الذي يقع "ضمن نطاق العقل". فالتبطين يعني السكوت على أشياء وإبراز أخرى، وبالتالي ملأ الفراغ، الذي بينهما، بالحقيقة اليقينية التي تغلب، بطبيعة الحال، جانب العقل على ما يعارضه. ولكي نفهم هذا التبطين وما يترتب عنه من سكوت وتهميش وإقصاء، لنتعرف على ما الذي يجعل الأحمق والعاطل والفقير… لا يقعون ضمن نطاق العقل؟
يقول فوكو: "يمكن للعقلانية أن تتصور بشكل متناقض حمقا لا يكون فيه العقل مختلا، لكنها ستقر بوجوده عندما تعتبر أن حياة الفرد الأخلاقية فاسدة وإرادته سيئة. فسر الحمق يكمن في طبيعة الإرادة وليس في كمال العقل" [28]. يظهر أن معنى عبارة "الوقوع ضمن مجال العقل" هو الاتصاف بالإرادة الخيرة التي تريد وتعمل وتجتهد على أن يكون أصل ومبتغى فعلها هو الخير، أي "الإصابة في الحكم" [29]، ما دام هذا الأخير معطى في ذاته، وخارج وجودنا؛ إننا نصبو إلى الوصول إليه بتوظيف "منهج" يحمينا، نحن الكائنات المتناهية، من عدم استعمال الملكة التي توجد عند جميع "البشر بالتساوي" [30] (=العقل السليم)، استعمالا منتجا؛ الشيء الذي يفرض على من يريد أن يصل إلى الحقيقة ويغوص في دروبها الملتوية –لأن البداهة والبساطة هي أساسا تبسيط لما هو معقد- [31] أن يكون قد حسم في أمر إرادته وحدد وجهتها منذ البداية. لهذا يجب علينا، حسب ديكارت، أن نلجأ إلى الشك، كممارسة فلسفية، مرة واحدة في حياتنا على الأقل [32].
يتبين لنا من ما سبق أن العقلانية الديكارتية ترجع السلوكات الأخلاقية إلى مسألة الإرادة، لأن الأحمق والعاطل أرادا بإرادتهما الذاتية أن يكونا كذلك. فهناك مسلمة تنطلق منها فلسفة ديكارت وهي القول بأننا "نقبل بسهولة إصابتنا بالحمق، لكوننا نريد ذلك" [33]. وهذا ما يجعل الحمق، على خلاف وضعه في عصر النهضة، ينشأ من "هذه السلطة الفردية التي لدى الإنسان والتي تتمثل في إرادته، وهذا ما يؤدى إلى تجدر الحمق في عالم الأخلاق" [34]. هذا ما دفع بفوكو إلى القول إن ديكارت "طوق" الحمق وأبعده من عملية الشك التي تحركه منذ انطلاقه، لكون الكوجيطو الذي ليس شيئا آخر سوى الإرادة العازمة على أن تبقى متيقظة يمكن الإنسان الذي يشك من أن لا يعرف الحمق، ما دام قد قرر بإرادته أن يكون عاقلا، وقادرا على إبعاد الأوهام التي تهدد العقل. لقد تم إقصاء اللاإرادة العقل، لأنه "قبل الكوجيطو كان هناك ترابط وتلازم مبكر بين الإرادة والاختيار والعقل واللاعقل. فالعقل لا يجد الإثيقا عند منتهى حقيقته، وفي شكل القوانين الأخلاقية، بل كاختيار ضد اللاعقل، باعتبارها أصل كل فكر مشترك، وأن مساحتها اللامتناهية والممتدة على طول الفكر، تشير إلى مسار حرية هي أساسا مبدأ العقل" [35]. فأصل ومصدر العقل في العصر الكلاسيكي هو "حقل الإيثيقا" [36] (الأخلاقيات).
فالأمر، إذن، من الوجهة الأخلاقية يتعلق بإرادة الاختيار، لكونها عنصر أساسي في بنية العقل، والإنسان نفسه. وهذا ما نجده جليا في حديث ديكارت عن دلالة ووظيفة العقل باعتباره وعيا. فإذا كان العقل هو أعدل قسمة بين الناس وبالتالي لا أحد يريد منه الزيادة، فلكون الفرد يعي ذاته كفرد، وينظر إلى ذاته كمصدر لأفعاله وسلوكاته مما يجعل العقل هو الوعي عندما يتطابق الفرد مع ذاته مجسدا ذلك في الخطاب الذي يتفوه به. فلكي يتمكن الفرد من أن يعي ذاته كذات عاقلة فمن اللازم أن يكون الكلام الذي ينطق به كخطاب يطابق ذاته [37]، مما يعني أن مصدر الخطاب هو الذات وقد تمكنت من أن تجعل مضمون الخطاب وشكله واضحين ومتميزين. ما يترتب عن ما سبق هو أنه إذا كان العقل يعني الوضوح والتمييز لكونه يجسد الوعي، فإن التساؤل عن العقل لا يعني تأمله كتجسيد لنظام كوني ميتافيزيقي، بهدف الوصول إلى حكم صائب. وما دام هذا الأخير يتأسس على الإرادة، فإن الخطأ سيكون منسوبا إلى الإنسان الذي يكون قد استعمل حريته استعمالا سيئا.
يتبين مما سبق أن قراءة فوكو للتأمل الديكارتي الأول هي قراءة أخلاقية [38] توخى منها إبراز تجذر العقلانية في حقل الأخلاق من جهة، والحفر في أسس المسار الذي اتخذته النظرة الفلسفية للإنسان فيما بعد عندما تأسست العلوم الإنسانية. إن ما اكتشفه فوكو هو أن الأخلاق ليست مسألة خير وشر، ولا قيما متعالية يعمل الإنسان على أن يستبطنها أو أن يسمو بسلوكاته لكي يجعلها تطابق هذه القيم، بل إن الأخلاق مسألة أنطولوجية تحدد الإنسان في وجوده بفعل التقسيم والتصنيف، وبالتالي الهيمنة والتغلب. إننا أما درس نيتشه حول جينيالوجيا الأخلاق. وهذا ما يؤكده فوكو عندما أعلن أن العلامة المميزة لأعماله، ابتداءا من كتابه الحراسة والعقاب، هي علامة جينيالوجية الأخلاق.
________________________________________
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem
» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني
» لست أدري! لست أدري!
27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني
» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني
» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني
» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني