بحـث
المواضيع الأخيرة
التواصل والأنظمة الرمزية
صفحة 1 من اصل 1
التواصل والأنظمة الرمزية
التواصل والأنظمة الرمزية
التواصل والأنظمة الرمزية ابراهيم العميري(استاذ مبرز-تونس) مقدمة تتعدد وجوه البحث في التجربة الإنسانية وتتنوع الى حد التباين والتناقض،ذلك ان الوجود الانساني يحمل في طياته من الغموض والالتباس ما يجعل من هذا التعدد في المقاربات امرا مشروعا بل ضروريااحيانا، لعل...نا بذلك نمسك ببعض تلا وين هذا الكائن ونظفر تبعا لذلك بممكنات تمكن من رفع الحجب وكشف المعاني والدلالات الملتحفة بطيات التاريخ المختلفة والممتدة في العمق الحضاري للبشرية. ان السؤال عن الانسان من يكون؟ وكيف السبيل الى معرفته وفهمه وتأوله؟هو من الصعوبة ما يغري بالتحدي والمغامرة الفكرية، مغامرة لا تستقيم قولا منظوما ونسقا مبنيا إلا متى استقام الخطاب مؤسسا وناقدا ومشرعا.فأي خطاب يجرؤ على هذا ؟ وأي فكر يقدر الاضطلاع بهذه المسؤولية في ظل واقع تهيمن عليه سلطة الآني والزائل والجاهز؟ لا مندوحة لنا هنا غير ركوب الصعاب ومعانقة القمم ،ودونهما تنعدم كل محاولة فكرية جادة ويستحيل تعقل الإنسان تجارب وتاريخا ورؤى سرابا وتيها يبلغ حد العدم والسد يم.إن الأمر ينفتح على إمكانيتين : إما تحمل المسؤولية والعمل على بناء انساق متعددة هي بمثابة نوافذ تنكشف من خلالها كل حقيقة الإنسان او بعضها، وإما الارتماء في دروب اللامعنى وما يحمله من إقرار بالعجز واستسلام لمصير غامض لا يمكن ان يكون مرآة لإنسان حمل قدره بين يديه وقبل تحدي العدم . ولا يمكن لفكر كان العقل والسؤال والنقد والتأويل والتأسيس ديدنه إلا أن يكون ضمن الدائرة الأولى، وهذا الفكر لا يعدو أن يكون غير الفلسفة بما هي انفتاح على الوجود والموجود ، على الكينونة والكائن بلغة هيدقير أي على الانسان في انفتاحه على العالم والوجود في تعرجاتهما المفتوحة(ميرلوبونتي وهوسرل}. فاي وجهة اتخذها الفكر الفلسفي للتفكير في الانسان اليوم؟ وأية نظم قرأ من خلالها وجوه حضوره وصور فعله؟ يبدو أن القول الفلسفي حول الإنسان اليوم قد شهد تغيرا جذريا على جانب كبير من الأهمية. وقد طال هذا التطور الذي بلغ حد القطيعة أحيانا المنهج والمنزلة والآثار،إذ يمكن القول إن الفلسفة المعاصرة قد قطعت مع التقليدين القديم والكلاسيكي في تأولهما للانسان دورا وأثرا.لقد فتحت المجال لعلاقات جديدة بين الفلسفي والإنساني في علاقة بمفاهيم راهنة باشكالياتها وقضاياها وكثافة حضورها. ولعل مفهوم التواصل أفضل دليل على هذا المنعطف للفلسفة اليوم. إن الفلسفة المعاصرة وخاصة لدى فلاسفة الاختلاف أمثال دريدا،فوكو،ليوتار، دولوز،ولدى هابرماس وفلاسفة النقد الاجتماعي لمدرسة فرانكفورت ،ادرنو وهوركايمر وماركوز، وغيرهم كثير،قد تأسست ضمن مسار جديد نوعا ما.انه مسار يكشف عن إبعاد جد هامة ترتبط بالتواصل الإنساني ،شروطه والياته،وبالوسائط التي يتوخاها الإنسان لقول ذاته في تشابكها مع الآخر والعالم أملا في نحت مشترك إنساني قد يأخذ سمة الكلي أو الكوني الحاضن للمختلف والمتباين والمغاير والتاريخي. فمواصلة لنيتشه-ولكن بطرق جديدة-عمد الفلاسفة المعاصرين إلى التأسيس لشروط جديدة للقول الفلسفي حول التواصل في علاقته بالإنساني.لقد لخص فوكو هذا التوجه الجديد في الفكر الفلسفي في العبارة الشهيرة- التي صارت علامة تميز فلاسفة الاختلاف-"التفكير على نحو آخر". وكشف هؤلاء الفلاسفة بذلك عن دروب جديدة على الفيلسوف ان يغامر فيها لعله يستطيع من خلالها المسك بالإنساني في وحدته وتعدده ،وفي غيابه وكثافة حضوره. يمكن التأكيد،اليوم، أن السؤال الفلسفي قد غادر المتعالي والمطلق والكلي المجرد واستوطن الزمني والصيرورة والنسبي بحثا عن الشروط الممكنة المؤسسة لكلي وكوني إنسانيين. فالمقولات الكبرى والمجردة أصبحت عاجزة عن بلورة حقيقة الإنساني،بل إن قيمة السؤال الفلسفي عن التواصل في علاقته بالإنساني تنكشف في مدى تعينها وتحددها ضمن شروط تاريخية ضرورة، إذا أرادت أن تقول شيئا ذا معنى حول التواصل.إن التواصل بما هو خاصية العيش المشترك للإنسان قد صار لحظيا آنيا لا غير(هابرماس). إضافة إلى ذلك شهدت أسس التواصل الإنساني وشروطه ،تبعا للثورات الاتصالية والمعلوماتية ، قطعا مع التصورات المثالية والميتافيزيقية التي سجنت التواصل في مفاهيم لا تاريخية واختزالية(التواصل في اللغة لا غير).إن التفكير في التواصل الإنساني اليوم هو تفكير في مسار إنتاجه ،وهو أيضا تفكير في عناصره وفي العوامل المتحكمة فيه(بشرية وتقنية)،وهو تفكيرفي الاستراتيجيات الفاعلة في لعبة الرموز بما هي أس وعمق وشرط كل تواصل إنساني. وبما أن الرمز والإنسان لا ينفصلان فان فهم حقيقة التواصل لا يمكن أن تجد مشروعيتها إلا إذا توقفت عند خصائص الأنظمة الرمزية:مبادئها ، آليات اشتغالها وغاياتها. وتأسيسا على ذلك يقتضي فهم حقيقة الوجود الإنساني اليوم إدراك حقيقة "التواصل والأنظمة الرمزية" ضمن جدلية الفردي المتعين والكوني المنشود الوقوف عند التساؤلات التاليةتوضيحا وتشخيصا وتوثيقا: -أولا ما هي الأسس المشرعة للتساؤل الفلسفي حول التواصل في بعده الإنساني؟ كيف اهتمت الفلسفة بالتواصل مبنى ومعنى؟ -ثانيا:أي خصوصية يكتسبها الرمز والعلامة في تحديد فهم متكامل لبنية الأنظمة التواصلية التي يبدعها الإنسان؟ وهل يصح القول إن التواصل الإنساني لا يتحقق إلا بالرموز ومن خلالها؟ -ثالثا:فيم تتمثل أهم الأنظمة الرمزية؟وما مشروعية النظر للغة والدين والصورة كأنظمة رمزية تواصلية؟ هل يعود ذلك إلى كثافة حضورها التاريخي والحضاري؟أم إن الأمر يتعلق فقط باختيار لا ينفي إمكانات أخرى للتفكير في التواصل الانساني في علاقته برموز أخرى كالفن والعلم والأسطورة والايدولوجيا والقواعد الاخلاقية مثلا؟ -رابعا:كيف يمكن للرموز أن تتحول إلى سلطة قاهرة تكرس الهيمنة والتشيؤ والاغتراب ؟وما شروط التحرر من المظاهر السلبية المصاحبة للأنظمة الرمزية خاصة في إشكالها المعاصرة(الصورة وسائل الاتصال المعاصرة)؟ - I -التأسيس الفلسفي للتواصل في بعده الإنساني يبدو أن رهان الفلسفة اليوم يقوم على الإقرار "بالحق في الاختلاف" كشرط لكل تفكير ممكن كما يؤسس له دولوز ودريدا كل بطريقته. ومن اجل هذه الغاية يدافع الفيلسوف على ضرورة الآخر كأفق لكل نظروفعل.إن الآخر جزء لا يتجزأ من الأنا بل هو الشرط الممكن لتعينها وتطورها(هيجل، سارتر،ريكور).هكذا يمكن القول ان راهنية الفلسفة محكومة بمدى نجاحها في وضع مبادئ توافق اشكال الوعي(هوسرل،كانط) أين"تكون المشاركة في عالم متامثل في ذاته" ا الحقل الذي يضمن بناء الذات لذاتها.إن الفلسفة نفسها تعرف كنظام خطاب مخصوص ينشد تواصلا ما.يكفي هنا العودة الى تاريخ الفلسفة لنقف على الاهمية التي اكتساها التواصل في المتن الفلسفي.ولنا في مؤلف ارسطو "الشعر" وتاثيراته في الفلسفة الوسيطة العربية(ابن حزم،الفارابي ،الكندي، ابن رشد وغيرهم كثير) وفي عصر النهضة الاوروبي وخاصة من خلال مفهوم "التطهير" خير دليل.يكتب جون هاردي في هذا الصدد:" لا يوجد في الادب اليوناني مقطع لمفكر اشتر من الكلمات العشر من كتاب "الشعر"(1449b,27-28) المتعلقة بمفهوم التطهير:لم ينقطع النقاش،منذ عصر النهضة،حول"تطهير الانفعالات" ". من جهته اخرى أولى كانط التواصل أهمية قصوى وبين في مؤلفه الهام"نقد ملكة الحكم" ان الحكم الجمالي هو الذي يمكن لوحده، وعلى عكس شكلي التواصل المعرفي والاخلاقي اللذان يكونان غير مباشرين،من تحقيق تواصل بين الذوات يقوم على قيمة جوهرية ستكون موضوع بلورة أوضح وأعمق في نظرية الفعل التواصلي لدى هابرماس.واذا كان كانط يؤسس للتواصل الانساني بناء على تمثل مهم للكلي الذي يتحقق معرفيا اواخلاقيا اوجماليا فانه يؤكد ان التواصل الذي يتحقق في الحكم الذوقي هو تواصل يكشف عن طبيعة مميزة للكلي في فلسفة الجمال. ان التواصل الذي يقيمه الحكم الذوقي هو أكثر أنواع التواصل الكاشفة لحقيقة الانسان "لانه تواصل يتم من دون مفاهيم وهو التواصل الإنساني" .يؤكد فيلوننكو انه تواصل مباشر وهو تبعا لذلك ارقي انواع التواصل أو هو التواصل الذي يحقق وحدة بين انواع التواصل غير المباشرة:المعرفية والعملية.ومكن هذا فيلوننكو من الحديث عن ثلاث انواع من التواصل في فلسفة كانط وهي على التوالي: -التواصل الاول هو تواصل موضوعي يتم بواسطة الشيء، وهو تواصل غير مباشر نجده مؤسسا في"نقد العقل المحض". -الشكل الثاني من التواصل هو المتحقق بواسطة حريتنا، أي القانون الاخلاقي،لكن نجد هنا ايضا ان هذا النوع من التواصل يتم بطريقة غير مباشرة،بواسطة"كونية القانون" الاخلاقي. - اما النوع الثالث من التواصل فهو ذلك الذي نقف عليه في الحكم الذوقي:انه التواصل الذي يمكن الانسان من الالتقاء بالآخر مباشرة ومن دون مفهوم . ان ما اكد عليه كانط في فلسفته حول القيمة الفلسفية للتواصل الانساني في مختلف اشكاله هو الذي استرعى انتباه الفلسفة المعاصرة،وخاصة الانثروبولوجيا الثقافية(كاسيرر) التي اهتمت بمنزلة الوسائط الرمزية في الوجود الانساني وبدورها في تحديد شروط "العيش المشترك" . ان التوافق والتفاهم والتبادل والتحاوروالتثاقف لا يمكن ان تجد شروط تحققها ما لم تؤسس مختلف هذه الوسائط لقطب الرحى والشرط الضروري واللازم لكل تفكير في الانسان ونعني بذلك أسس التواصل ،شروطه ، آليات نجاحه ووسائل تحققه.فماذا نعني بالتواصل تحديدا؟ يبرز اتيان سوريو في معجمه"المصطلحات الجمالية" ان التواصل في مفهومه العام يدل على"الانفتاح" وهو يشير الى"الممر الذي بواسطته يمكن للافراد اوللاشياء ان تنتقل".وهو يعبر عن عملية "التوقع والتنظيم العملي لكل علاقة ممكنة"(كالابواب والاروقة في فن المعمار).ويبين سوريو أن مفهوم التواصل يتعلق من جهة أخرى بوسائل الاتصال(النظرية العامة للاتصالات)... كما يحيل التواصل على معان أخرى كثيرة ، فهو يدل،مثلا،في الفن على سهولة التبليغ والتوصيل ،"فهو يتعلق بمدى وحقيقة التواصل من جهة الوجدان،ويريد الفنان في هذا الإطار ايصال معلومة خاصة الى المتلقي".وهو"قد يحقق نجاحا هاما وقد يفشل". وهذا من شانه ان يطرح اشكالية العلاقة بين الفنان وجمهوره التي تحيلنا بدورها الى "مشكل التواصل". نجد في هذا المجال مفهوما قريبا من مفهوم التواصل وهو يشير الى نوع معين من العلاقة الناجحة بين الفنان وجمهوره وهي"وحدة الشعور"او"التشارك في الاراء والافكار"(communion).ان وحدة الشعور هذه تدل،كما يبين سوريو،على النجاح الاقصى لعملية التواصل،أي" تحقيق الوحدة الكاملة بين الافكار والاحاسيس وهي تدل على نوع من الوحدة الفكرية".لذلك يرى ا.سوريوان التواصل الذي يرنو الى هذه الوحدة الشعورية لا يبلغ بالضرورة مرحلة الاكتمال لكنه يتقدم نحوها.ان التواصل بهذا الشكل يرتكز أساسا على عناصر محسوسة تقيم علاقة مباشرة وحيوية بين الفنان وجمهوره.فقد يفشل موسيقي أو ممثل في تحقيق رغبته في التأثير بطريقة ما على الجمهور لكن وغم ذلك يؤكد ا.سوريو ان فعل التواصل يتحقق:يوجد مثلا تواصل بين الشاعر وقرائه في اللحظة التي تؤثر فيها حيويا قراءة قصيدة له في الاتجاه الذي يرغب فيه الشاعر ،وهذا من دون حاجة لان تكون هذه الاحساسات قد وقعت بالضرورة لشخصية الشاعر. في هذه الحالة يمكن الحديث عن المشاركة(participation).ومن جهة اخرى يلاحظ ا.سوريو" ان الكثافة التواصلية للاثر الفني ليست بالضرورة في علاقة جدلية مع قيمته الجمالية". ان النظر الى فلسفة كانط من جهة التواصل لا يؤدي ضرورة الى إبعاد مختلف القراءات الأخرى من حيث الوجاهة والأهمية ،بل إن الغاية منه كما يبرز ذلك ،مثلا، هانس روباريوس هوالانتباه الى آفاق اكثر راهنية في تأول الحقيقة الانسانية.اذ يبين انه اذا أردنا حقا اليوم ان نقف ضد منطق"التصنيع الثقافي" كما ابرزه ادرنو فان العودة الى مفهوم التواصل للنظر من خلاله للتجربة الانسانية بمختلف إبعادها هو أمر ضروري وذلك من اجل التأسيس لبينذاتية مفتوحة تقوم على التعرف والتقبل والتواصل وكل هذا من اجل الوقوف عند الوظيفة الاجتماعية لاشكال التواصل المختلفة.يقول في مؤلفه"من اجل استتيقا التلقي" ،معتمدا على نموذج الفن:"ان التجربة الجمالية تبقى منقوصة من وظيفتها الاجتماعية ...اذا لم تفتح على تجربة الاخر ،التي تحقق،منذ القدم، في التجربة الفنية في مستوى التعرف الجمالي التلقائي." ان القيمة الفلسفية للتواصل والوسائط المعتمدة في ذلك قد مثلت حقلا للتساؤل والتأسيس التظري في الفلسفة المعاصرة.يكفي العودة لاعمال هابرماس وخاصة مؤلفه "نظرية الفعل التواصلي"للوقوف على ذلك.لقد بنى هابرماس مشروعه الفلسفي على "نظرية الفعل التواصلي".يكشف مارك جمناز"ان تصورات هابرماس تلعب دورا هاما في هذا الوعي بعالم التواصل خصوصا لدى الفلاسفة المعاصرين". فماذا يعني هذا فلسفيا؟ ما يمكن استخلاصه من كل ما تقدم هو اولا ان التفكير الفلسفي حين يهتم بالتواصل خصوصا والانظمة الرمزية عامة انما هو يهتم بشروط تحققه كفكر يتمحور حول الانسان وحول صور حضوره في العالم. -ان لتفلسف الذي لا يراهن على إبداع شروط جديدة لقول الإنساني لا يمكنه أن يجد مشروعية له في واقع الانسان اليوم ذلك أن سجن التفلسف في الموضوعات الكلاسيكية على اهميتها هو بمثابة الاقرار بالعجز امام واقع انساني ميزته التبدل والتطور والتعدد والتداخل بين ابعاد متنوعة ولا مناص للفيلسوف من تحمل مسؤوليته الجسيمة في الاضطلاع بالانساني.فليس له إلا أن يواجه الثورة الاعلامية والاتصالية الذي لا مثيل لها ولاخيار له إلا العمل على فهم ونقد ما تشهده الانسانية اليوم من ظواهر جديدة غيرت جذريا شروط لقاء الانسان بالانسان وثقافة باخرى وحضارة بالحضارات الاخرى.ان العولمة وعلوم الاعلامية وحضارة الصورة بما تعنيه من تجاوز للأشكال التقليدية المكونة لعالم الثقافة وهيمنة عالم الرموز على كل مجالات المعيش الانساني لا يمكن إلا أن ترج الفيلسوف في صورته التقليدية(ذلك الحكيم المنعزل عن هموم الانسان اليومية والسابح في فضاء المثل ) ولا يمكن الا أن تؤرق الفيلسوف الذي لا يكون كذلك الا بانخراطه في "احوال المعيش" للانسان اليوم(ابن خلدون) لا تكريسا او تبريرا(هيجل) وانما شكا ونقدا وتشخيصا وتحطيما(دريدا)،وكل ذلك من اجل تحقيق غايات الانسانية القصوى(كانط) كما تتجلى في الحق و المعنى والعدل والحرية . ثالثا ان التساؤل الفلسفي حين يجعل من"دراسة العلامات" حقل نشاطه فانه بذلك لا يتخلى عن دوره التقليدي بل هو يكسبه راهنية أعمق ،اذ يمكن النظر الى تاريخ الفلسفة من زاوية علاقته بالعلامة والرمز ومن جهة تأسيسه للتواصل .فهذاامبيرتو ايكو يقدم تاريخا للفلسفة بناء على نظرية العلامة او السيميولوجيا.يكتب امبيرتو ايكو:"فالسيميولوجيا في الواقع تعود الى وقت بعيد،ربما الى الف عام او الفين.لا يتعلق الامر طبعا مع الروقيين بسيميولوجيا وسائل الاتصال ، رغم ان السفسطائيين لم يكونوا مغفلين الى هذا الحد بخصوص هذه المسالة.ان القواعد الاساسية لدراسة العلامات كانت موجودة سلفا." ويعمد امبيرتو ايكو الى تقديم تحقيبا لتاريخ الفاسفة بناء على طبيعة التصور الخاص بالرمز والعلامة والتواصل.ويكشف ان الاهتمام بالعلامة لم ينقطع منذ نشاة الفلسفة الى حدود الفلسفة المعاصرة ويذكرنا بدراسة هوسرل بعنوان"سيمياء واعمال رسل وفتغنشتين وكاسيرر.ويذهب الى حد اعتبار "السيمياء"جزء من الفلسفة.يكتب في هذا المجال:"عندما أقول :هناك سيمياء عامة تمثل فرعا من فروع الفلسفة ،فانني اعني ان الفلسفة منذ ان اعتبر ارسطو اللغة كاساس لمتافيزيقا الكائن، وعندما يقول ان الكينونة هي مانقوله بطرقة مختلفة،فانه يؤسس مفهوم الكينونة على اللغة." ان التفكير الفلسفي حين ينخرط في البحث عن الانساني ضمن افق الزوج المفهومي وحدة/ كثرة وحين يجعل من التواصل والانظمة الرمزية مجاله لابراز مشروعيته كخطاب لا ينفصل عن العقل في انفتاحه الدائم على الصيرورة ونشدانه اللامحدود للثبات لاينفصل عن لحظة الميلاد كما تعينت مع سقراط وتجسدت مع افلاطون(فمحاورة السفسطائي لم تكن غير صورة للفيلسوف الذي وان كان يطلب الواحد والجوهر فانه لم ينقطع عن مواجهة العرضي والمتغيروالمتعدد في تنوع اشكاله)بل هو يتدبرنفس الزوج ولكن في اطارراهنية الاشكاليات التي تحكم اليوم الوجود الانساني بما هي اشكاليات لا يمكنها ان تتجنب مشكل التواصل ومشكل الرموز في كثافتها اليوم.يكفي التذكير بما يقوله افلوطين في تاسوعاته :"ان الواحد سابق على كل الكائنات الاخرى،ما هو اذن؟ انه قوة الكل,اذا لم يكن،لا شيء يكون،لا الكائنات، لا العقل، لا الحياة الاولى ولا إي حياة اخرى.انه فوق الحياة وهو سببها.إن نشاط الحياة التي تمثل كل الكائن ليست الاولى، هي نابعة من الواحد وكأنها نابعة من عين ماء.تصوروا عين ما لا أصل لها البتة." -II-في العلامة والرمز: يمكن القول إن إبراز شروط السؤال الفلسفي ومشروعيته لا ينفصل اليوم عن التساؤل حول مختلف العلوم التي نشأت في ارتباط باشكالية اللغة منشأ وبنية و تداولا ."لقد كان اعتماد العلوم الانسانية منذ حوالي منتصف القرن العشرين على الكشوفات الالسنية، وبخاصة اعتماد النموذج اللغوي في الجملة مقياسا لكشف بنية تلك العلوم ووصفها ثورة اتخذت سمة الموضوعية..." لذاك ليس غريبا ان يتم الحديث عن المنعرج اللغوي لبعض التيارات الفلسفية المعاصرة، وليس غريبا ان يتأسس النظر للإنساني اليوم بناء على الكشوفات التي تقدمها السيميائية او علم العلامة وان تؤول اشكالية الكلي ضمن أفق العلامة والرمز لا داخل اللغة فحسب بل داخل كل الأنظمة الرمزية المكونة للثقافة الانسانية(اسطورة،دين ، لغة،علم،فن،صورة،سينما،وسائل الاتصال الراهنة...).فماذا نعني بكل من العلامة والرمز؟ وهل توجد إمكانات للتقاطع والتلازم بين المعنيين؟ وهل نقدر على كشف حقيقة التواصل الانساني في وحدته وتنوعه من خلال العلامات والرموز؟ 1في التعريف: ا-العلامة:يقتضي الوقوف عند معاني وجلالات العلامة التمييز بين التأريخ للعلامة وبين تحول الدراسات المتعلقة بها الى علم.اما البعد الأول فهو قديم قدم المنطق واللغة،في حين أن تخصيص علم لها وهو علم العلامة اوالسيميائية او السيميولوجيا فهوقد ظهر مع فردينان دي سوسير(1857-1913)ومع تشارلزساندرز بيرس(1838-1914). يعرف دي سوسير العلامة بانها المتكون من الدال والمدلول.ويبين ان العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة ضرورية مثل علاقة وجهي الورقة اوالعملة.فالعلامة ثنائية الأبعاد.أما العلامة اللغوية فيحددها باعتبارها العلاقة الرابطة بين الصورة الصوتية والتمثل الذهني،وبهذا فان العلامة اللغوية مجردة وليس لها علاقة مباشرة بالاشياء.ذلك ان المدلول باعتباره صورة ذهنية مكونة للعلامة وهو ليس عنصرا من اشياء الواقع.ويرى البعض ان العرب انتبهوا الى هذا الجانب الذهني او التصوري للغة.يقول يحيى بن حمزة:"الحقيقة في وضع الالفاظ هو للدلالة على المعاني الذهنية دون الموجودات الخارجية.والبرهان على ما قلناه هو انا اذا رأينا شبحا من بعيد وظنناه حجرا،سميناه بهذا الاسم،فإذا دنونا منه وظننا كونه شجرا،فانا نسميه كذلك،فإذا ازداد التحقيق بكونه طائرا،سميناه بذلك،فإذا حصل التحقيق بكونه رجلا سميناه به.فلا تزال الألقاب تختلف عليه باعتبار ما يفهم منه من الصورالذهنية.فدل ذلك على أن إطلاق الألفاظ إنما يكون باعتبار ما يحصل في الذهن.ولهذا فانه يختلف باختلافه."(كتاب الطراز،الجزء الاول،ص36). يمكن العودة الى المناطقة العرب للوقوف عند اهمية ما انجزوه في هذا المجال .لقد درسوا العلامة "بوجه اعم مما حدده دي سوسير للعلامة ،وذلك دون تخصيص لطبيعة المدلول،كما انهم يدخلون الشخص المدرك في اعتبارهم..فعندهم إن الدلالة هي:"كون الشيء بحالة،يلزم من العلم به العلم بشيء آخر."(التحتاني ،شرح الشمسية،ج1،ص174.). تتأسس الدلالة لديهم على "علاقة مزدوجة:من جهة بين الدال والمدلول،ومن جهة أخرى بين هذين معا وبين المدرك." من جهة أخرى ان فهم حقيقة العلامة يتطلب إبراز احد أهم خصائصها كما تبلورفي العلامية و اللسانيات الحديثة وتتمثل في أن العلامة"تنطوي على القصد إذ يقتضي دستورها الدلالي توفر النية في إبلاغ ما تفيده،وفي هذا تتميز عن القرينة لان القرينة تشمل كل شيء يدرك مباشرة فيفيد دلالة تتعلق بغيره كدلالة السحاب على المطر...إما العلامة فإنما تدل بوضع هو اصطلاح متفق عليه تصريحا أو مسلم به ضمنيا،ولا يكون أمر المتلقي للعلامة إلا قاطعا فإما هو عالم بالاصطلاح فمستفيد اذن بفحواه وإما هو جاهل فلا ينفعه اجتهاد فيها ولا تأويل بشأنها." إن تحديد مراتب الدلالة وعناصرها أمر أساسي ينبغي ايلاؤه كل عناية.لذلك ارتأينا أن نعود الى نظريات الفلاسفة المعاصرين الذين اصبحت معهم العلامة موضوعا فلسفيا لا يقل اهميةعن أي موضوع فلسفي آخر ،بل إن فهم الخطاب الفلسفي لن يتحقق عندهم الا اذا تحددت معالم التصورات التي تؤسس للعلامة وللعلم الذي يشتغل عليها أي العلامية.فأي تعريفات استقرت عليها العلامة لدى الفلاسفة المعاصرين؟واي افق تفتحه للقول الفلسفي حول الانساني في فرديته وفي كونيته؟ ان السؤال عن العلامة لا ينفصل في الواقع عن مفهوم الرمز،اذ ان العلامة والرمز متلازمان تلازم الوجه والقفاء لذلك فان تدبر أمر العلامة ينفتح ضرورة على الرمز والتفكير في الرمز لا يستقيم قولا متعقلا الا إذا تشابك مع العلامة.وتبعا لذلك سيتبلورحد الرمز كلما توضحت دلالات العلامة. واذا كان الرمز يتميز بتعدد دلالاته فهو مشتق من الكلمة اليونانيةsymbolonالمشتقة من الفعل symballein وهو يفيد"وصل،جمع،قرن".فالرمز يدل على "الربط والوحدة" وهو امر يتحقق في مختلف الثقافات.اما من "حيث الدلالة فان الرمز اغتنى عبر التاريخ بمعان عديدة،منها المعنى التماثلي،فالميزان على سبيل المثال هو رمز للعدالة،وهنالك المعنى السيميائي وذلك في استعمالنا للرمز في مجال المنطق والرياضيات،كما ان هنالك مستوى اخر للرمز هو المستوى البلاغي المجازي الذي يستدعي التاويل" . ولكن مهما كان الامر فان الرمز يتحدد في كونه "ما يسمح بتجسيد اوتجريد وقائع " وفي هذا الاطار يمكن العودة الى تصورات بعض الفلاسفة الذين اثروا حقل البحث في العلامة والرمز ووقفوا عند الابعاد الفلسفية للتفكير فيهما.ويعد ارنست كاسيرر احد اهم من جعل من فلسفته بحثا ينشد في كليته الى التساؤل عن البعد الرمزي للانسان.وهو الامر الذي دفعه الى بيان اهمية النظر الى الشروط المتحكمة في تكون العلامة والرمز.وكشف ان الانسان يتميز عن بقية "الانواع الحيوانية"التي تشترك كلها في امتلاك "جهاز مستقبل"اواستقبال و"جهاز مؤثر" اوتاثير،في كونه يمتلك"حلقة ثالثة هي التي يمكن ان نسميها"الجهاز الرمزي". وقد اكد كاسيرر على اهمية دراسة البعد الرمزي الانسان دراسة تاريخية تقف عند شروط تكون الرمز والعلامة وعند تطور هما من الاسطورة الى الدين والفن والعلم.وبين في هذا الشان ان مفهوم الرمز مر بثلاث مستويات ،وهي مرحلة المحاكاة البسيطة التي يكون فيها الرمز مجرد اعادة انتاج للاشياء،ثم مرحلة المماثلة حيث يقوم الرمز بتمثيل خواص الاشياء،واخيرا مرحلة الرمزية المجردة . لقد أصبح التمثل الرمزي أساس التفكيرالانساني لدى كاسيرر ولذلك فان التمثل المفهومي ليس الا بعدا من ابعاد الخلق الرمزي،وهو لذلك المحدد للوعي الانساني على الحقيقة.كما يتم فهم اليات نشاط كل من العلم والفن والاسطورة واللغة والدين والتاريخ بناء على البعد الرمزي وفي اطاره.ان الانسان يخلق العالم بخلقه للرموز.ان الرموز ليست محاكاة اونقلا للواقع بل هي المكونة والمشكلة لهذا الواقع،فالواقع هو ما تعنيه الرموز ،ان ما تقوله الرموز هوالواقع ولا معنى للواقع خارجها. إن كاسيرر حين يدرس الرمز والعلامة فانه يعمل من خلال ذلك على تأكيد الفكرة التالية:وهي أن الانسان قد خلق الرموز في تفاعل مع مختلف التصورات التاريخية للواقع التي تعبر عن تطور اشكال الوعي الانساني عبر التاريخ.لهذا يؤكد كاسيررعلى وجود ثلاث نظم رمزية تعبر عن ثلاث وظائف مختلفة: -الوظيفة التعبيرية في هذا المستوى ليس هناك فرقا بين الرموز والاشياء التي ترمز اليها في الوعي البشري ،والعالم الذي تخلقه هذه الرموز هو عالم الاسطورة والدين. - الوظيفة الحدسية التي تقوم بتمثيل عالم الحياة اليومية وإشكال الادراك المباشر المحدد لحياة الانسان المكرورة ويقوم الرمز هنا بتمثيل خواص الاشياء الثابتة حدسيا. - الوظيفة المفهومية التي تخلق العالم الموضوعي للعلوم ،وتكون فيه الرموز تعبيرا عن نسق من العلاقات لا غير.هذا وقد كشف كاسيرر عن هذه النماذج الثلاثة للواقع التي تقابلها ثلاث نظم رمزية في مؤلفه الكبير"فلسفة الاشكال الرمزية".اما في مؤلفة "بحث في الانسان" فقد اضاف الى تلك النظم الثلاثة الفن الذي يعرض لنا معرفة بالاشكال المحضة والتاريخ الذي يوفر لنا معرفة بالاحداث الماضية. تجدر الملاحظة هنا ان المرحلة الثالثة هي المرحلة الرمزية المجردة التي تتضح فيها قدرة الانسان الكاملة على خلق الرموز المحضة ويطلق عليها مرحلة الدلالة..يقول ارنست كاسيرر عن هذه المرحلة التي تكون حقلا مستقلا بذاته:"وما دام الانسان قد خرج من العالم المادي فانه يعيش في عالم رمزي،وما اللغة والاسطورة والفن والدين الا اجزاء من هذا العالم،فهذه هي الخطوط المتنوعة التي تحاك منها الشبكة الرمزية،اعني النسيج المعقد للتجارب الانسانية." إن ما أكد عليه كاسيرر هنا يمثل في الحقيقة حقل بحث لكثير من الفلاسفة المعاصرين نذكر منهم بالخصوص:ريكور،هوسرل ،فوكووفلاسفة التحليل مثل فتجنشتين،وهو حقل يحتاج الى مزيد من التعمق والدراسات اثراء للمكتبة العربية ،وهو ما سنهتم به في القسم الثاني من هذه الدراسة
منقول
التواصل والأنظمة الرمزية ابراهيم العميري(استاذ مبرز-تونس) مقدمة تتعدد وجوه البحث في التجربة الإنسانية وتتنوع الى حد التباين والتناقض،ذلك ان الوجود الانساني يحمل في طياته من الغموض والالتباس ما يجعل من هذا التعدد في المقاربات امرا مشروعا بل ضروريااحيانا، لعل...نا بذلك نمسك ببعض تلا وين هذا الكائن ونظفر تبعا لذلك بممكنات تمكن من رفع الحجب وكشف المعاني والدلالات الملتحفة بطيات التاريخ المختلفة والممتدة في العمق الحضاري للبشرية. ان السؤال عن الانسان من يكون؟ وكيف السبيل الى معرفته وفهمه وتأوله؟هو من الصعوبة ما يغري بالتحدي والمغامرة الفكرية، مغامرة لا تستقيم قولا منظوما ونسقا مبنيا إلا متى استقام الخطاب مؤسسا وناقدا ومشرعا.فأي خطاب يجرؤ على هذا ؟ وأي فكر يقدر الاضطلاع بهذه المسؤولية في ظل واقع تهيمن عليه سلطة الآني والزائل والجاهز؟ لا مندوحة لنا هنا غير ركوب الصعاب ومعانقة القمم ،ودونهما تنعدم كل محاولة فكرية جادة ويستحيل تعقل الإنسان تجارب وتاريخا ورؤى سرابا وتيها يبلغ حد العدم والسد يم.إن الأمر ينفتح على إمكانيتين : إما تحمل المسؤولية والعمل على بناء انساق متعددة هي بمثابة نوافذ تنكشف من خلالها كل حقيقة الإنسان او بعضها، وإما الارتماء في دروب اللامعنى وما يحمله من إقرار بالعجز واستسلام لمصير غامض لا يمكن ان يكون مرآة لإنسان حمل قدره بين يديه وقبل تحدي العدم . ولا يمكن لفكر كان العقل والسؤال والنقد والتأويل والتأسيس ديدنه إلا أن يكون ضمن الدائرة الأولى، وهذا الفكر لا يعدو أن يكون غير الفلسفة بما هي انفتاح على الوجود والموجود ، على الكينونة والكائن بلغة هيدقير أي على الانسان في انفتاحه على العالم والوجود في تعرجاتهما المفتوحة(ميرلوبونتي وهوسرل}. فاي وجهة اتخذها الفكر الفلسفي للتفكير في الانسان اليوم؟ وأية نظم قرأ من خلالها وجوه حضوره وصور فعله؟ يبدو أن القول الفلسفي حول الإنسان اليوم قد شهد تغيرا جذريا على جانب كبير من الأهمية. وقد طال هذا التطور الذي بلغ حد القطيعة أحيانا المنهج والمنزلة والآثار،إذ يمكن القول إن الفلسفة المعاصرة قد قطعت مع التقليدين القديم والكلاسيكي في تأولهما للانسان دورا وأثرا.لقد فتحت المجال لعلاقات جديدة بين الفلسفي والإنساني في علاقة بمفاهيم راهنة باشكالياتها وقضاياها وكثافة حضورها. ولعل مفهوم التواصل أفضل دليل على هذا المنعطف للفلسفة اليوم. إن الفلسفة المعاصرة وخاصة لدى فلاسفة الاختلاف أمثال دريدا،فوكو،ليوتار، دولوز،ولدى هابرماس وفلاسفة النقد الاجتماعي لمدرسة فرانكفورت ،ادرنو وهوركايمر وماركوز، وغيرهم كثير،قد تأسست ضمن مسار جديد نوعا ما.انه مسار يكشف عن إبعاد جد هامة ترتبط بالتواصل الإنساني ،شروطه والياته،وبالوسائط التي يتوخاها الإنسان لقول ذاته في تشابكها مع الآخر والعالم أملا في نحت مشترك إنساني قد يأخذ سمة الكلي أو الكوني الحاضن للمختلف والمتباين والمغاير والتاريخي. فمواصلة لنيتشه-ولكن بطرق جديدة-عمد الفلاسفة المعاصرين إلى التأسيس لشروط جديدة للقول الفلسفي حول التواصل في علاقته بالإنساني.لقد لخص فوكو هذا التوجه الجديد في الفكر الفلسفي في العبارة الشهيرة- التي صارت علامة تميز فلاسفة الاختلاف-"التفكير على نحو آخر". وكشف هؤلاء الفلاسفة بذلك عن دروب جديدة على الفيلسوف ان يغامر فيها لعله يستطيع من خلالها المسك بالإنساني في وحدته وتعدده ،وفي غيابه وكثافة حضوره. يمكن التأكيد،اليوم، أن السؤال الفلسفي قد غادر المتعالي والمطلق والكلي المجرد واستوطن الزمني والصيرورة والنسبي بحثا عن الشروط الممكنة المؤسسة لكلي وكوني إنسانيين. فالمقولات الكبرى والمجردة أصبحت عاجزة عن بلورة حقيقة الإنساني،بل إن قيمة السؤال الفلسفي عن التواصل في علاقته بالإنساني تنكشف في مدى تعينها وتحددها ضمن شروط تاريخية ضرورة، إذا أرادت أن تقول شيئا ذا معنى حول التواصل.إن التواصل بما هو خاصية العيش المشترك للإنسان قد صار لحظيا آنيا لا غير(هابرماس). إضافة إلى ذلك شهدت أسس التواصل الإنساني وشروطه ،تبعا للثورات الاتصالية والمعلوماتية ، قطعا مع التصورات المثالية والميتافيزيقية التي سجنت التواصل في مفاهيم لا تاريخية واختزالية(التواصل في اللغة لا غير).إن التفكير في التواصل الإنساني اليوم هو تفكير في مسار إنتاجه ،وهو أيضا تفكير في عناصره وفي العوامل المتحكمة فيه(بشرية وتقنية)،وهو تفكيرفي الاستراتيجيات الفاعلة في لعبة الرموز بما هي أس وعمق وشرط كل تواصل إنساني. وبما أن الرمز والإنسان لا ينفصلان فان فهم حقيقة التواصل لا يمكن أن تجد مشروعيتها إلا إذا توقفت عند خصائص الأنظمة الرمزية:مبادئها ، آليات اشتغالها وغاياتها. وتأسيسا على ذلك يقتضي فهم حقيقة الوجود الإنساني اليوم إدراك حقيقة "التواصل والأنظمة الرمزية" ضمن جدلية الفردي المتعين والكوني المنشود الوقوف عند التساؤلات التاليةتوضيحا وتشخيصا وتوثيقا: -أولا ما هي الأسس المشرعة للتساؤل الفلسفي حول التواصل في بعده الإنساني؟ كيف اهتمت الفلسفة بالتواصل مبنى ومعنى؟ -ثانيا:أي خصوصية يكتسبها الرمز والعلامة في تحديد فهم متكامل لبنية الأنظمة التواصلية التي يبدعها الإنسان؟ وهل يصح القول إن التواصل الإنساني لا يتحقق إلا بالرموز ومن خلالها؟ -ثالثا:فيم تتمثل أهم الأنظمة الرمزية؟وما مشروعية النظر للغة والدين والصورة كأنظمة رمزية تواصلية؟ هل يعود ذلك إلى كثافة حضورها التاريخي والحضاري؟أم إن الأمر يتعلق فقط باختيار لا ينفي إمكانات أخرى للتفكير في التواصل الانساني في علاقته برموز أخرى كالفن والعلم والأسطورة والايدولوجيا والقواعد الاخلاقية مثلا؟ -رابعا:كيف يمكن للرموز أن تتحول إلى سلطة قاهرة تكرس الهيمنة والتشيؤ والاغتراب ؟وما شروط التحرر من المظاهر السلبية المصاحبة للأنظمة الرمزية خاصة في إشكالها المعاصرة(الصورة وسائل الاتصال المعاصرة)؟ - I -التأسيس الفلسفي للتواصل في بعده الإنساني يبدو أن رهان الفلسفة اليوم يقوم على الإقرار "بالحق في الاختلاف" كشرط لكل تفكير ممكن كما يؤسس له دولوز ودريدا كل بطريقته. ومن اجل هذه الغاية يدافع الفيلسوف على ضرورة الآخر كأفق لكل نظروفعل.إن الآخر جزء لا يتجزأ من الأنا بل هو الشرط الممكن لتعينها وتطورها(هيجل، سارتر،ريكور).هكذا يمكن القول ان راهنية الفلسفة محكومة بمدى نجاحها في وضع مبادئ توافق اشكال الوعي(هوسرل،كانط) أين"تكون المشاركة في عالم متامثل في ذاته" ا الحقل الذي يضمن بناء الذات لذاتها.إن الفلسفة نفسها تعرف كنظام خطاب مخصوص ينشد تواصلا ما.يكفي هنا العودة الى تاريخ الفلسفة لنقف على الاهمية التي اكتساها التواصل في المتن الفلسفي.ولنا في مؤلف ارسطو "الشعر" وتاثيراته في الفلسفة الوسيطة العربية(ابن حزم،الفارابي ،الكندي، ابن رشد وغيرهم كثير) وفي عصر النهضة الاوروبي وخاصة من خلال مفهوم "التطهير" خير دليل.يكتب جون هاردي في هذا الصدد:" لا يوجد في الادب اليوناني مقطع لمفكر اشتر من الكلمات العشر من كتاب "الشعر"(1449b,27-28) المتعلقة بمفهوم التطهير:لم ينقطع النقاش،منذ عصر النهضة،حول"تطهير الانفعالات" ". من جهته اخرى أولى كانط التواصل أهمية قصوى وبين في مؤلفه الهام"نقد ملكة الحكم" ان الحكم الجمالي هو الذي يمكن لوحده، وعلى عكس شكلي التواصل المعرفي والاخلاقي اللذان يكونان غير مباشرين،من تحقيق تواصل بين الذوات يقوم على قيمة جوهرية ستكون موضوع بلورة أوضح وأعمق في نظرية الفعل التواصلي لدى هابرماس.واذا كان كانط يؤسس للتواصل الانساني بناء على تمثل مهم للكلي الذي يتحقق معرفيا اواخلاقيا اوجماليا فانه يؤكد ان التواصل الذي يتحقق في الحكم الذوقي هو تواصل يكشف عن طبيعة مميزة للكلي في فلسفة الجمال. ان التواصل الذي يقيمه الحكم الذوقي هو أكثر أنواع التواصل الكاشفة لحقيقة الانسان "لانه تواصل يتم من دون مفاهيم وهو التواصل الإنساني" .يؤكد فيلوننكو انه تواصل مباشر وهو تبعا لذلك ارقي انواع التواصل أو هو التواصل الذي يحقق وحدة بين انواع التواصل غير المباشرة:المعرفية والعملية.ومكن هذا فيلوننكو من الحديث عن ثلاث انواع من التواصل في فلسفة كانط وهي على التوالي: -التواصل الاول هو تواصل موضوعي يتم بواسطة الشيء، وهو تواصل غير مباشر نجده مؤسسا في"نقد العقل المحض". -الشكل الثاني من التواصل هو المتحقق بواسطة حريتنا، أي القانون الاخلاقي،لكن نجد هنا ايضا ان هذا النوع من التواصل يتم بطريقة غير مباشرة،بواسطة"كونية القانون" الاخلاقي. - اما النوع الثالث من التواصل فهو ذلك الذي نقف عليه في الحكم الذوقي:انه التواصل الذي يمكن الانسان من الالتقاء بالآخر مباشرة ومن دون مفهوم . ان ما اكد عليه كانط في فلسفته حول القيمة الفلسفية للتواصل الانساني في مختلف اشكاله هو الذي استرعى انتباه الفلسفة المعاصرة،وخاصة الانثروبولوجيا الثقافية(كاسيرر) التي اهتمت بمنزلة الوسائط الرمزية في الوجود الانساني وبدورها في تحديد شروط "العيش المشترك" . ان التوافق والتفاهم والتبادل والتحاوروالتثاقف لا يمكن ان تجد شروط تحققها ما لم تؤسس مختلف هذه الوسائط لقطب الرحى والشرط الضروري واللازم لكل تفكير في الانسان ونعني بذلك أسس التواصل ،شروطه ، آليات نجاحه ووسائل تحققه.فماذا نعني بالتواصل تحديدا؟ يبرز اتيان سوريو في معجمه"المصطلحات الجمالية" ان التواصل في مفهومه العام يدل على"الانفتاح" وهو يشير الى"الممر الذي بواسطته يمكن للافراد اوللاشياء ان تنتقل".وهو يعبر عن عملية "التوقع والتنظيم العملي لكل علاقة ممكنة"(كالابواب والاروقة في فن المعمار).ويبين سوريو أن مفهوم التواصل يتعلق من جهة أخرى بوسائل الاتصال(النظرية العامة للاتصالات)... كما يحيل التواصل على معان أخرى كثيرة ، فهو يدل،مثلا،في الفن على سهولة التبليغ والتوصيل ،"فهو يتعلق بمدى وحقيقة التواصل من جهة الوجدان،ويريد الفنان في هذا الإطار ايصال معلومة خاصة الى المتلقي".وهو"قد يحقق نجاحا هاما وقد يفشل". وهذا من شانه ان يطرح اشكالية العلاقة بين الفنان وجمهوره التي تحيلنا بدورها الى "مشكل التواصل". نجد في هذا المجال مفهوما قريبا من مفهوم التواصل وهو يشير الى نوع معين من العلاقة الناجحة بين الفنان وجمهوره وهي"وحدة الشعور"او"التشارك في الاراء والافكار"(communion).ان وحدة الشعور هذه تدل،كما يبين سوريو،على النجاح الاقصى لعملية التواصل،أي" تحقيق الوحدة الكاملة بين الافكار والاحاسيس وهي تدل على نوع من الوحدة الفكرية".لذلك يرى ا.سوريوان التواصل الذي يرنو الى هذه الوحدة الشعورية لا يبلغ بالضرورة مرحلة الاكتمال لكنه يتقدم نحوها.ان التواصل بهذا الشكل يرتكز أساسا على عناصر محسوسة تقيم علاقة مباشرة وحيوية بين الفنان وجمهوره.فقد يفشل موسيقي أو ممثل في تحقيق رغبته في التأثير بطريقة ما على الجمهور لكن وغم ذلك يؤكد ا.سوريو ان فعل التواصل يتحقق:يوجد مثلا تواصل بين الشاعر وقرائه في اللحظة التي تؤثر فيها حيويا قراءة قصيدة له في الاتجاه الذي يرغب فيه الشاعر ،وهذا من دون حاجة لان تكون هذه الاحساسات قد وقعت بالضرورة لشخصية الشاعر. في هذه الحالة يمكن الحديث عن المشاركة(participation).ومن جهة اخرى يلاحظ ا.سوريو" ان الكثافة التواصلية للاثر الفني ليست بالضرورة في علاقة جدلية مع قيمته الجمالية". ان النظر الى فلسفة كانط من جهة التواصل لا يؤدي ضرورة الى إبعاد مختلف القراءات الأخرى من حيث الوجاهة والأهمية ،بل إن الغاية منه كما يبرز ذلك ،مثلا، هانس روباريوس هوالانتباه الى آفاق اكثر راهنية في تأول الحقيقة الانسانية.اذ يبين انه اذا أردنا حقا اليوم ان نقف ضد منطق"التصنيع الثقافي" كما ابرزه ادرنو فان العودة الى مفهوم التواصل للنظر من خلاله للتجربة الانسانية بمختلف إبعادها هو أمر ضروري وذلك من اجل التأسيس لبينذاتية مفتوحة تقوم على التعرف والتقبل والتواصل وكل هذا من اجل الوقوف عند الوظيفة الاجتماعية لاشكال التواصل المختلفة.يقول في مؤلفه"من اجل استتيقا التلقي" ،معتمدا على نموذج الفن:"ان التجربة الجمالية تبقى منقوصة من وظيفتها الاجتماعية ...اذا لم تفتح على تجربة الاخر ،التي تحقق،منذ القدم، في التجربة الفنية في مستوى التعرف الجمالي التلقائي." ان القيمة الفلسفية للتواصل والوسائط المعتمدة في ذلك قد مثلت حقلا للتساؤل والتأسيس التظري في الفلسفة المعاصرة.يكفي العودة لاعمال هابرماس وخاصة مؤلفه "نظرية الفعل التواصلي"للوقوف على ذلك.لقد بنى هابرماس مشروعه الفلسفي على "نظرية الفعل التواصلي".يكشف مارك جمناز"ان تصورات هابرماس تلعب دورا هاما في هذا الوعي بعالم التواصل خصوصا لدى الفلاسفة المعاصرين". فماذا يعني هذا فلسفيا؟ ما يمكن استخلاصه من كل ما تقدم هو اولا ان التفكير الفلسفي حين يهتم بالتواصل خصوصا والانظمة الرمزية عامة انما هو يهتم بشروط تحققه كفكر يتمحور حول الانسان وحول صور حضوره في العالم. -ان لتفلسف الذي لا يراهن على إبداع شروط جديدة لقول الإنساني لا يمكنه أن يجد مشروعية له في واقع الانسان اليوم ذلك أن سجن التفلسف في الموضوعات الكلاسيكية على اهميتها هو بمثابة الاقرار بالعجز امام واقع انساني ميزته التبدل والتطور والتعدد والتداخل بين ابعاد متنوعة ولا مناص للفيلسوف من تحمل مسؤوليته الجسيمة في الاضطلاع بالانساني.فليس له إلا أن يواجه الثورة الاعلامية والاتصالية الذي لا مثيل لها ولاخيار له إلا العمل على فهم ونقد ما تشهده الانسانية اليوم من ظواهر جديدة غيرت جذريا شروط لقاء الانسان بالانسان وثقافة باخرى وحضارة بالحضارات الاخرى.ان العولمة وعلوم الاعلامية وحضارة الصورة بما تعنيه من تجاوز للأشكال التقليدية المكونة لعالم الثقافة وهيمنة عالم الرموز على كل مجالات المعيش الانساني لا يمكن إلا أن ترج الفيلسوف في صورته التقليدية(ذلك الحكيم المنعزل عن هموم الانسان اليومية والسابح في فضاء المثل ) ولا يمكن الا أن تؤرق الفيلسوف الذي لا يكون كذلك الا بانخراطه في "احوال المعيش" للانسان اليوم(ابن خلدون) لا تكريسا او تبريرا(هيجل) وانما شكا ونقدا وتشخيصا وتحطيما(دريدا)،وكل ذلك من اجل تحقيق غايات الانسانية القصوى(كانط) كما تتجلى في الحق و المعنى والعدل والحرية . ثالثا ان التساؤل الفلسفي حين يجعل من"دراسة العلامات" حقل نشاطه فانه بذلك لا يتخلى عن دوره التقليدي بل هو يكسبه راهنية أعمق ،اذ يمكن النظر الى تاريخ الفلسفة من زاوية علاقته بالعلامة والرمز ومن جهة تأسيسه للتواصل .فهذاامبيرتو ايكو يقدم تاريخا للفلسفة بناء على نظرية العلامة او السيميولوجيا.يكتب امبيرتو ايكو:"فالسيميولوجيا في الواقع تعود الى وقت بعيد،ربما الى الف عام او الفين.لا يتعلق الامر طبعا مع الروقيين بسيميولوجيا وسائل الاتصال ، رغم ان السفسطائيين لم يكونوا مغفلين الى هذا الحد بخصوص هذه المسالة.ان القواعد الاساسية لدراسة العلامات كانت موجودة سلفا." ويعمد امبيرتو ايكو الى تقديم تحقيبا لتاريخ الفاسفة بناء على طبيعة التصور الخاص بالرمز والعلامة والتواصل.ويكشف ان الاهتمام بالعلامة لم ينقطع منذ نشاة الفلسفة الى حدود الفلسفة المعاصرة ويذكرنا بدراسة هوسرل بعنوان"سيمياء واعمال رسل وفتغنشتين وكاسيرر.ويذهب الى حد اعتبار "السيمياء"جزء من الفلسفة.يكتب في هذا المجال:"عندما أقول :هناك سيمياء عامة تمثل فرعا من فروع الفلسفة ،فانني اعني ان الفلسفة منذ ان اعتبر ارسطو اللغة كاساس لمتافيزيقا الكائن، وعندما يقول ان الكينونة هي مانقوله بطرقة مختلفة،فانه يؤسس مفهوم الكينونة على اللغة." ان التفكير الفلسفي حين ينخرط في البحث عن الانساني ضمن افق الزوج المفهومي وحدة/ كثرة وحين يجعل من التواصل والانظمة الرمزية مجاله لابراز مشروعيته كخطاب لا ينفصل عن العقل في انفتاحه الدائم على الصيرورة ونشدانه اللامحدود للثبات لاينفصل عن لحظة الميلاد كما تعينت مع سقراط وتجسدت مع افلاطون(فمحاورة السفسطائي لم تكن غير صورة للفيلسوف الذي وان كان يطلب الواحد والجوهر فانه لم ينقطع عن مواجهة العرضي والمتغيروالمتعدد في تنوع اشكاله)بل هو يتدبرنفس الزوج ولكن في اطارراهنية الاشكاليات التي تحكم اليوم الوجود الانساني بما هي اشكاليات لا يمكنها ان تتجنب مشكل التواصل ومشكل الرموز في كثافتها اليوم.يكفي التذكير بما يقوله افلوطين في تاسوعاته :"ان الواحد سابق على كل الكائنات الاخرى،ما هو اذن؟ انه قوة الكل,اذا لم يكن،لا شيء يكون،لا الكائنات، لا العقل، لا الحياة الاولى ولا إي حياة اخرى.انه فوق الحياة وهو سببها.إن نشاط الحياة التي تمثل كل الكائن ليست الاولى، هي نابعة من الواحد وكأنها نابعة من عين ماء.تصوروا عين ما لا أصل لها البتة." -II-في العلامة والرمز: يمكن القول إن إبراز شروط السؤال الفلسفي ومشروعيته لا ينفصل اليوم عن التساؤل حول مختلف العلوم التي نشأت في ارتباط باشكالية اللغة منشأ وبنية و تداولا ."لقد كان اعتماد العلوم الانسانية منذ حوالي منتصف القرن العشرين على الكشوفات الالسنية، وبخاصة اعتماد النموذج اللغوي في الجملة مقياسا لكشف بنية تلك العلوم ووصفها ثورة اتخذت سمة الموضوعية..." لذاك ليس غريبا ان يتم الحديث عن المنعرج اللغوي لبعض التيارات الفلسفية المعاصرة، وليس غريبا ان يتأسس النظر للإنساني اليوم بناء على الكشوفات التي تقدمها السيميائية او علم العلامة وان تؤول اشكالية الكلي ضمن أفق العلامة والرمز لا داخل اللغة فحسب بل داخل كل الأنظمة الرمزية المكونة للثقافة الانسانية(اسطورة،دين ، لغة،علم،فن،صورة،سينما،وسائل الاتصال الراهنة...).فماذا نعني بكل من العلامة والرمز؟ وهل توجد إمكانات للتقاطع والتلازم بين المعنيين؟ وهل نقدر على كشف حقيقة التواصل الانساني في وحدته وتنوعه من خلال العلامات والرموز؟ 1في التعريف: ا-العلامة:يقتضي الوقوف عند معاني وجلالات العلامة التمييز بين التأريخ للعلامة وبين تحول الدراسات المتعلقة بها الى علم.اما البعد الأول فهو قديم قدم المنطق واللغة،في حين أن تخصيص علم لها وهو علم العلامة اوالسيميائية او السيميولوجيا فهوقد ظهر مع فردينان دي سوسير(1857-1913)ومع تشارلزساندرز بيرس(1838-1914). يعرف دي سوسير العلامة بانها المتكون من الدال والمدلول.ويبين ان العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة ضرورية مثل علاقة وجهي الورقة اوالعملة.فالعلامة ثنائية الأبعاد.أما العلامة اللغوية فيحددها باعتبارها العلاقة الرابطة بين الصورة الصوتية والتمثل الذهني،وبهذا فان العلامة اللغوية مجردة وليس لها علاقة مباشرة بالاشياء.ذلك ان المدلول باعتباره صورة ذهنية مكونة للعلامة وهو ليس عنصرا من اشياء الواقع.ويرى البعض ان العرب انتبهوا الى هذا الجانب الذهني او التصوري للغة.يقول يحيى بن حمزة:"الحقيقة في وضع الالفاظ هو للدلالة على المعاني الذهنية دون الموجودات الخارجية.والبرهان على ما قلناه هو انا اذا رأينا شبحا من بعيد وظنناه حجرا،سميناه بهذا الاسم،فإذا دنونا منه وظننا كونه شجرا،فانا نسميه كذلك،فإذا ازداد التحقيق بكونه طائرا،سميناه بذلك،فإذا حصل التحقيق بكونه رجلا سميناه به.فلا تزال الألقاب تختلف عليه باعتبار ما يفهم منه من الصورالذهنية.فدل ذلك على أن إطلاق الألفاظ إنما يكون باعتبار ما يحصل في الذهن.ولهذا فانه يختلف باختلافه."(كتاب الطراز،الجزء الاول،ص36). يمكن العودة الى المناطقة العرب للوقوف عند اهمية ما انجزوه في هذا المجال .لقد درسوا العلامة "بوجه اعم مما حدده دي سوسير للعلامة ،وذلك دون تخصيص لطبيعة المدلول،كما انهم يدخلون الشخص المدرك في اعتبارهم..فعندهم إن الدلالة هي:"كون الشيء بحالة،يلزم من العلم به العلم بشيء آخر."(التحتاني ،شرح الشمسية،ج1،ص174.). تتأسس الدلالة لديهم على "علاقة مزدوجة:من جهة بين الدال والمدلول،ومن جهة أخرى بين هذين معا وبين المدرك." من جهة أخرى ان فهم حقيقة العلامة يتطلب إبراز احد أهم خصائصها كما تبلورفي العلامية و اللسانيات الحديثة وتتمثل في أن العلامة"تنطوي على القصد إذ يقتضي دستورها الدلالي توفر النية في إبلاغ ما تفيده،وفي هذا تتميز عن القرينة لان القرينة تشمل كل شيء يدرك مباشرة فيفيد دلالة تتعلق بغيره كدلالة السحاب على المطر...إما العلامة فإنما تدل بوضع هو اصطلاح متفق عليه تصريحا أو مسلم به ضمنيا،ولا يكون أمر المتلقي للعلامة إلا قاطعا فإما هو عالم بالاصطلاح فمستفيد اذن بفحواه وإما هو جاهل فلا ينفعه اجتهاد فيها ولا تأويل بشأنها." إن تحديد مراتب الدلالة وعناصرها أمر أساسي ينبغي ايلاؤه كل عناية.لذلك ارتأينا أن نعود الى نظريات الفلاسفة المعاصرين الذين اصبحت معهم العلامة موضوعا فلسفيا لا يقل اهميةعن أي موضوع فلسفي آخر ،بل إن فهم الخطاب الفلسفي لن يتحقق عندهم الا اذا تحددت معالم التصورات التي تؤسس للعلامة وللعلم الذي يشتغل عليها أي العلامية.فأي تعريفات استقرت عليها العلامة لدى الفلاسفة المعاصرين؟واي افق تفتحه للقول الفلسفي حول الانساني في فرديته وفي كونيته؟ ان السؤال عن العلامة لا ينفصل في الواقع عن مفهوم الرمز،اذ ان العلامة والرمز متلازمان تلازم الوجه والقفاء لذلك فان تدبر أمر العلامة ينفتح ضرورة على الرمز والتفكير في الرمز لا يستقيم قولا متعقلا الا إذا تشابك مع العلامة.وتبعا لذلك سيتبلورحد الرمز كلما توضحت دلالات العلامة. واذا كان الرمز يتميز بتعدد دلالاته فهو مشتق من الكلمة اليونانيةsymbolonالمشتقة من الفعل symballein وهو يفيد"وصل،جمع،قرن".فالرمز يدل على "الربط والوحدة" وهو امر يتحقق في مختلف الثقافات.اما من "حيث الدلالة فان الرمز اغتنى عبر التاريخ بمعان عديدة،منها المعنى التماثلي،فالميزان على سبيل المثال هو رمز للعدالة،وهنالك المعنى السيميائي وذلك في استعمالنا للرمز في مجال المنطق والرياضيات،كما ان هنالك مستوى اخر للرمز هو المستوى البلاغي المجازي الذي يستدعي التاويل" . ولكن مهما كان الامر فان الرمز يتحدد في كونه "ما يسمح بتجسيد اوتجريد وقائع " وفي هذا الاطار يمكن العودة الى تصورات بعض الفلاسفة الذين اثروا حقل البحث في العلامة والرمز ووقفوا عند الابعاد الفلسفية للتفكير فيهما.ويعد ارنست كاسيرر احد اهم من جعل من فلسفته بحثا ينشد في كليته الى التساؤل عن البعد الرمزي للانسان.وهو الامر الذي دفعه الى بيان اهمية النظر الى الشروط المتحكمة في تكون العلامة والرمز.وكشف ان الانسان يتميز عن بقية "الانواع الحيوانية"التي تشترك كلها في امتلاك "جهاز مستقبل"اواستقبال و"جهاز مؤثر" اوتاثير،في كونه يمتلك"حلقة ثالثة هي التي يمكن ان نسميها"الجهاز الرمزي". وقد اكد كاسيرر على اهمية دراسة البعد الرمزي الانسان دراسة تاريخية تقف عند شروط تكون الرمز والعلامة وعند تطور هما من الاسطورة الى الدين والفن والعلم.وبين في هذا الشان ان مفهوم الرمز مر بثلاث مستويات ،وهي مرحلة المحاكاة البسيطة التي يكون فيها الرمز مجرد اعادة انتاج للاشياء،ثم مرحلة المماثلة حيث يقوم الرمز بتمثيل خواص الاشياء،واخيرا مرحلة الرمزية المجردة . لقد أصبح التمثل الرمزي أساس التفكيرالانساني لدى كاسيرر ولذلك فان التمثل المفهومي ليس الا بعدا من ابعاد الخلق الرمزي،وهو لذلك المحدد للوعي الانساني على الحقيقة.كما يتم فهم اليات نشاط كل من العلم والفن والاسطورة واللغة والدين والتاريخ بناء على البعد الرمزي وفي اطاره.ان الانسان يخلق العالم بخلقه للرموز.ان الرموز ليست محاكاة اونقلا للواقع بل هي المكونة والمشكلة لهذا الواقع،فالواقع هو ما تعنيه الرموز ،ان ما تقوله الرموز هوالواقع ولا معنى للواقع خارجها. إن كاسيرر حين يدرس الرمز والعلامة فانه يعمل من خلال ذلك على تأكيد الفكرة التالية:وهي أن الانسان قد خلق الرموز في تفاعل مع مختلف التصورات التاريخية للواقع التي تعبر عن تطور اشكال الوعي الانساني عبر التاريخ.لهذا يؤكد كاسيررعلى وجود ثلاث نظم رمزية تعبر عن ثلاث وظائف مختلفة: -الوظيفة التعبيرية في هذا المستوى ليس هناك فرقا بين الرموز والاشياء التي ترمز اليها في الوعي البشري ،والعالم الذي تخلقه هذه الرموز هو عالم الاسطورة والدين. - الوظيفة الحدسية التي تقوم بتمثيل عالم الحياة اليومية وإشكال الادراك المباشر المحدد لحياة الانسان المكرورة ويقوم الرمز هنا بتمثيل خواص الاشياء الثابتة حدسيا. - الوظيفة المفهومية التي تخلق العالم الموضوعي للعلوم ،وتكون فيه الرموز تعبيرا عن نسق من العلاقات لا غير.هذا وقد كشف كاسيرر عن هذه النماذج الثلاثة للواقع التي تقابلها ثلاث نظم رمزية في مؤلفه الكبير"فلسفة الاشكال الرمزية".اما في مؤلفة "بحث في الانسان" فقد اضاف الى تلك النظم الثلاثة الفن الذي يعرض لنا معرفة بالاشكال المحضة والتاريخ الذي يوفر لنا معرفة بالاحداث الماضية. تجدر الملاحظة هنا ان المرحلة الثالثة هي المرحلة الرمزية المجردة التي تتضح فيها قدرة الانسان الكاملة على خلق الرموز المحضة ويطلق عليها مرحلة الدلالة..يقول ارنست كاسيرر عن هذه المرحلة التي تكون حقلا مستقلا بذاته:"وما دام الانسان قد خرج من العالم المادي فانه يعيش في عالم رمزي،وما اللغة والاسطورة والفن والدين الا اجزاء من هذا العالم،فهذه هي الخطوط المتنوعة التي تحاك منها الشبكة الرمزية،اعني النسيج المعقد للتجارب الانسانية." إن ما أكد عليه كاسيرر هنا يمثل في الحقيقة حقل بحث لكثير من الفلاسفة المعاصرين نذكر منهم بالخصوص:ريكور،هوسرل ،فوكووفلاسفة التحليل مثل فتجنشتين،وهو حقل يحتاج الى مزيد من التعمق والدراسات اثراء للمكتبة العربية ،وهو ما سنهتم به في القسم الثاني من هذه الدراسة
منقول
مواضيع مماثلة
» جذاذات لمسالة التواصل والأنظمة الرمزية
» التواصل والانظمة الرمزية
» التواصل والانظمة الرمزية محمد علي كسيرة
» الفعل التواصلي(التواصل و الانظمة الرمزية)
» هل تضمن الوسائط الرمزية بالضرورة التواصل بين البشر؟
» التواصل والانظمة الرمزية
» التواصل والانظمة الرمزية محمد علي كسيرة
» الفعل التواصلي(التواصل و الانظمة الرمزية)
» هل تضمن الوسائط الرمزية بالضرورة التواصل بين البشر؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem
» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني
» لست أدري! لست أدري!
27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني
» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني
» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني
» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني