بحـث
المواضيع الأخيرة
العقد الإجتماعي عند جون جاك روسو
صفحة 1 من اصل 1
العقد الإجتماعي عند جون جاك روسو
العقد الإجتماعي عند جون جاك روسو
المحاور الاساسية
تقديم عام
نبذة تاريخية عن حياة ج.ج.روسو
منزلة ج.ج. روسو في فلسفة الأنوار
- الإرهاصات الأولى لفكرة المجتمع المدني عند ج.ج.روسو
تقديم
إن مساءلة الفكر الحداثي انطلاقا من استحضار مختلف المساهمات الفلسفية التي أثثت سياق ومجال اشتغاله يفرض علينا بالضرورة الوقوف على محطة أساسية من تاريخ الفلسفة السياسية الحديثة، يتعلق الأمر بالجديد الذي أدخله جون جاك روسو في مجال على المجال النظري في البحث السياسي.
يعتبر جتن جاك روسو من أبرز ممثلي عصر الأنوار والاتجاه المساواتي إلى جانب مجموعة من الباحثين والفلاسفة أمثال فولتير، مونتيسكيو، ديدرو ودالامبير...إذ يجسد جان جاك روسو من خلال أعماله الرائدة الفيلسوف المهموم المشغول بمشاكل عصره والمنخرط انخراطا فعالا في النقاشات السياسية المتجددة الرهانات والانتظارات التي تسعى الحكومات الحديثة إلى تحقيقها ؛ حيث وجه النقد اللاذع الى مختلف الظروف التي كانت تعيشها فرنسا وأوروبا قبل الثورة الفرنسية، الأمر الذي أكسب كتاباته صفة الراهنية بحيث تحضر الروح الفكرية لجون جاك روسو في التحليل السياسي للفلسفة المعاصرة مع جون راولز وإيمانويل كانط هذا الأخير الذي اعترف في مناسبات عديدة بفضل جون جاك روسو على تفكيره السياسي بحيث يقول:" مضى زمن كنت أعتبر البحث عن الحقيقة وحده كاف لأن يكون شرف الإنسانية؛ وكنت أحتقر الإنسان العادي الذي لا يعرف شيئا؛ وقد دفعني روسو على الطريق المستقيم؛ لقد تلاشى هذا الحكم الأعمى وتعلمت احترام الطبيعة الإنسانية، ولقد اعتبرت نفسي أقل فائدة بكثير من العامل البسيط، إذ لم أعتبر أن فلسفتي من الممكن أن تساعد البشر على إثبات حقوقه الإنسانية" .
وإذا علمنا كذلك بأن انطلاقة التنوير هي فرنسية استطعنا مسك خيوط مقدار التأثير الذي مارسه روسو إلى جانب العديد من المفكرين من خلال العمل على نشر الأفكار التي تساير قيم الحرية والتقدم والمساواة والإخاء محدثين بذلك شرارة تجسدت واقعيا وعمليا في حدث الثورة الفرنسية التي عبرت في جوهرها عن دعوات الإنسانية المناهضة لسلطة القهر والاستبداد.
موضوع هذه الورقة هو الحداثة السياسية عند جون جاك روسو، وهذا الجانب يهتم بالطريقة التي بلور بها روسو أطروحته حول العقد الإجتماعي الذي يشكل الصيغة المثلى لبناء المجتمع الحديث، الأطروحة التي ساقها روسو في كل كتاباته. سنعمل من خلال هذه الورقة المتواضعة كشف الخيوط الناظمة لأطروحة جان جاك روسو، وموقفه من الحداثة السياسية من خلال محاولة الإجابة على العديد من الأسئلة من قبيل: ما هي ملامح الحداثة السياسية عند جان جاك روسو؟ وما هو الجديد الذي جاءت به نظرية جان جاك روسو حول العقد الاجتماعي بالمقارنة مع ما كان سائدا في عصره؟ وما هو التأثير الذي أحدثته نظربته السياسية في المجتمع الغربي على الكتابات السياسية؟
وعلى أمل الإنفتاح على مقاربات أخرى لهذا الموضوع نتقدم بالشكر الجزيل للدكتور مصطفى حنفي على سعيه لإنارة دروبنا نحو البحث العلمي الجاد وعلى مجهوده المتواصل من أجل ترسيخ قيم البحث العلمي في صفوف الطلبة.
I- نبذة تاريخية عن حياة جان جاك روسو(1712-1778).
هناك رأي يقول بأن فلسفة أي فيلسوف ما هي إلا انعكاس لحياته وبيئته ونوع ثقافته، وإذا كان من غير الحكم التسليم بهذا الرأي دون مناقشة، إلأ أنه لدينا على الأقل في جان جاك روسو وفلسفته دليلا واضحا يؤكد هذا الرأي إلى حد كبير، حيث أن دراسة الظروف والملابسات التي اكتنفت حياة هذا الفيلسوف وطبيعة البيئة التي نشأ فيها وأنواع الفلسفات والعلوم التي شكلت ثقافته، توضح بلا شك الكثير من المهمة في فلسفته وتكشف النقاب عن حقيقة موقفه من الفكر السياسي الحديث.
ولد جان جاك روسو أبرز ممثلي الاتجاه المساواتي وفلاسفة الأنوار من أسرة يهودية برجوازية ذات أصول فرنسية في مدينة جنيف، انخرط في مشاكل الحياة منذ طفولته المبكرة، حيث توجه تحت إكراه أبيه إلى تعلم الصناعة منذ الثللثة عشرة من عمره لدى رب عمل قاس وشديد، فغادر روسو المدينة هربا منه وهو في السادسة عشرة من عمره، فأخذ يمنهن شتى الحرف في سويسرا وإيطاليا، وبعد ثمان سنوات تعرف في (سافوي) على سيدة ثرية يسرت له شيئا من الاستقرار المادي، فاستطاع تكوين نفسه، حيث تعلم الموسيقى والألسنة وقرأ كتب الفلاسفة وبعد خمس سنين قصد باريس ثم غادرها إلى البندقية، وعاد إلى باريس وهو في الثالثة والثلاثين؛ وأخذ يتردد على العديد من المفكرين خاصة ديدرو .
وخلال رحلته الفكرية الخالدة أعطى جان جاك روسو للبشرية عديدا من المؤلفات، كان أولها مقالته(إميل Emile) وهي المقالة التي أهلته للفوز بالجائزة الأولى لأكاديمية دينجون وكانت المسابقة حول عنوان:" هل أدى تقدم العلوم والفنون إلى فساد الأخلاق أو إلى إفسادها ؟"؛ ونشر بعد ذلك كتاب تحت عنوان مقال في أصل التفاوت بين البشر discours sur l’origine de l’ inégalités parmi les hommesوكتب مجموعة من المقالات الأخرى التي كانت تعبر عن أفكار فرد من الشعب عرف طفولة بئيسة وشباب ضائع حتى أن أفكاره ظهرت وكأنها ثورة ضد قيم مجتمع متبرج لا يهتم إلا بملذاته، وربما كان هذا هو السبب في أنه أصبح مفكر ثورة
II- منزلة جون جاك روسو في فلسفة الأنوار.
إن فلسفة جان جاك روسو ومواقفه السياسية لا تنفصل عن السياق التاريخي للقرن الثامن عشر؛ فقد شكل إلى جانب مجموعة من المفكرين تيارا فلسفيا يعنى بإحلال المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية أمام جبروت الحكم المطلق وأما الوصاية التي تفرضها الكنيسة على الإنسان ؛ إذ أن الخيط الرابط الذي يجمع الأدبيات الأنوارية هو التنظير للفكر البرجوازي ولنظامه الذي بدأ يتبلور شيئا فشيئا، إذ أن معظم فلاسفة الأنوار قد وضعوا صوب اهتماماتهم نقد وتقويض دعائم النظام الفيودالي الذي سيطر على الحياة العامة في جميع المستويات الاقتصادية والسياسية .
وتبرز هذه الملاحظة في طبيعة الأبحاث التي أنجزها مفكرو الأنوار، وكذا المقالات التي نشروها في هذا الإطار، والتي تؤكد بأن البراديغم الذي تحكم في الإنتاجات الفكرية والأدبية لعصر الأنوار؛ هو نقد النظام الفيودالي وما يرتبط به من تنظيمات سياسية ودينية واقتصادية.
إذ أن جان جاك روسو عندما يعلن في كتاباته بأن الحالة الطبيعية هي مرحلة ذهبية في حياة الإنسان بما تمثله من رغبة في الحياة، والحرية وبساطة العيش، إنما يعكس موقفه الرافض والمتشاءم إزاء الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية التي تميز المجتمع الفرنسي خلال القرن 18.
ساهمت الأوضاع المتدهورة إذن والموجهة بتأثير جبروت الحكم المطلق وسيطرة الفكر الكنسي الدوغمائي في حدوث ردود فعل عدة دفعت فلاسفة الأنوار على اختلاف مشاربهم، إلى النقد الجذري للأوضاع القائمة التي تتميز بالركود والرتابة؛ الأمر الذي سيجد التعبير الأساس عنه في اخر المطاف مع اندلاع الثورة الفرنسية سنة1789. .
تكمن أهمية النظرية السياسية عند روسو كونها نظرية منفتحة نابضة بأوضاع المجتمع وأزماته على الرغم من أن العديد من الباحثين يعتبرون نظريته السياسية تعتبر نظرية "يوتوبية" إلا أنها على المستوى الفلسفي تعتبر نظرية حبلى بالمشاريع والمواقف السياسية مثل الديموقراطية، والاقتراع العام...حيث شكل كتاب العقد الاجتماعي بإجماع الباحثين المثل السياسي الأعلى في تسويغ بنود الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن غداة قيام الثورة الفرنسية .
ومن نالفل القول أن فلسفة الأنوار تختلف باختلاف الفلاسفة والمفكرين، إلا أنها مع ذلك تتكامل على المستوى التطبيقي العملي، ولعل حدث الثورة الفرنسية أبرز مثال معبر على ذلك.
III- الإرهاصات الأولى لفكرة المجتمع المدني عند جون جاك روسو.
يمثل مقال جون جاك روسو "أصل التفاوت بين البشر" المفتاح الأساسي لفهم نظريته الاجتماعية والسياسية؛ ذلك أنه لا يمكن أن نناقش أفكار العقد الاجتماعي إلا إذا استوعبنا الأفكار الواردة في المقال السابق الذر، ذلك أن الأفكار الواردة فيه هي وحدها الكفيلة بكشف الخيوط الناظمة للنظرية الروسوية في السياسة والاجتماع.
ينطلق جون جاك روسو في فلسفته من أطروحة الحالة الطبيعية السابقة لظهور القوانين والدولة، وهو يؤكد منذ البداية على أن مرحلة الطبيعة هي مرحلة افتراضية فقط؛ على اعتبار أنها لا يمكن أن تصبح واقعية أو خيالية لأن الشواهد والوثائق التاريخية، لم تكشف عن وجو مرحلة تاريخية بهذه التسمية " حالة الطبيعة"؛ لكن على الرغم من ذلك فإن الانطلاق من هذه المرحلة يبقى ضروريا لإبراز كيفية الانتقال من حالة إلى أخرى.
يقول جون جاك روسو" إن البشر في حالة ليسوا لا صالحين ولا أشرارا، إذ لا تجمع بينهم أية علاقة أخلاقية أو واجبات مشتركة"، وهنا يتعارض مع هوبس الذي يعتقد بأن الإنسان الطبيعي شرير بطبعه لأنه لا يمتلك أي فكرة عن الخير والشر مفطور على تحقيق رغباته وتلبية شهواته .
لكن في المقابل يرى جون جاك روسو أن الإنسان بطبيعته بسيط يحب ذاته ويدافع عن مصالحه، وفي نفس الوقت يتعاطف مع الآخرين، فالإنسان شعوريا ووجدانيا، يسعى للاجتماع بغيره من الناس، لأن الناس في حالة الطبيعة خيرون لا يوجد فيهم المكر والخداع وروح العدوان والغدر الذي تحدث عنه هوبس، حيث كان الناس في حياة الطبيعة محكومين بالطبيعة البشرية التي هي ضد الشرور وضد تسلط أحد على أحد، أما الشرور والمفاسد فهي لا تنتمي إلى الطبيعة البشرية بل هي من فعل المدنية والتقدم، وبفضل الملكية الخاصة .
كان الإنسان في مرحلة الطبيعة يتميز بالحرية التي تسمح له بتحقيق كل أهدافه بدون قيد أو شرط يكبل إرادته، حيث يؤكد روسو في كتابه أصل التفاوت بين البشر على " أن أفراد المجتمع قد عاشوا أحرارا وصالحين طالما قنعوا بكوخهم البسيط، واكتفوا بلباس الجلود ثيابا وبالريش زينة ؛ أي طالما لم ينشغلوا إلا بالأعمال التي في مقدور فرد واحد القيام بها، لكن ما أن راودت الإنسان حاجة إلى أن يؤازره أخر حتى اختفت المساواة وظهرت الملكية وغدا العمل ضروريا".
يعصف الاجتماع البشري إذن في نظر روسو بالحياة الخيرة للإنسان ويدخلها في دواليب التدهور والانحطاط ، وفي هذه المرحلة يبدأ التفاوت والاستغلال على اعتبار أن المجتمع والاجتماع يتأسس على المصلحة الخاصة وليس على المصلحة العامة، وبالتالي فإن تضارب المصالح من شأنه أن يِؤدي إلى الصراعات ويسبب في التناقضات.
أدى ظهور الملكية إذن إلى نزوع الجنس البشري نحو التدهور، يقول روسو: " إن أول من سيج أرضا وقال هذا ملك لي، ووجد أناسا يصدقونه كان المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني" لكن ليس المجتمع المدني بالمعنى الذي نتداوله حاليا لكن التجمع الإنساني.
يذهب روسو إلى اعتبارا الملكية عامل سلبي في تاريخ الإنسانية إذ أن ملكية الأرض تولد اللامساواة ويؤدي إلى صراع المصالح والاستغلال والعبودية .
والحقيقة أن هذا المقال " أصل التفاوت بين البشر" قد ألهم مجموعة من الباحثين والمفكرين الماركسين للبحث في أصل التفاوت والتمايز الطبقي ذلك أن روسو يدعو ضمني إلى نوع من الملكية الجماعية للأرض وعدم تقسيمها على شكل ملكيات ،ذلك أن التقسيم هو السبب الأساسي في حدوث التفاوت بين البشر .
مما يؤدي إلى حدوث نوع من التلاقي بين روسو والماركسية على مستوى المبادئ العامة ، وذلك في سياق النظر إلى الملكية لوسائل الإنتاج من منظور سياسي تاريخي له تأثير كبير على نوعية العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد.
ولعل أبرز تعبير عن الأفكار السياسية لجون جاك روسو هو كتابه " في العقد الاجتماعي du contrat social " الذي يعنى فيه بالبحث عن مبادئ الحق السياسي ويوضحها على ضوء المعلومات المتوفرة والتي تصب أساسا في التنظير لمجتمع متماسك سياسيا عن طريق القيام بنوع من التعاقد، إذ لم يكن جان جاك روسو يهدف إلى تفكيك الأشكال والتنظيمات السياسية التي أفرزها التاريخ لكن ما يؤطر توجهه العام هو البحث في ما يجب أن يوجد فعلا؛ من هنا اتسم فكره السياسي بالبناء المتواصل حيث يقول" إنني أستهل كلامي في موضوعي دون البرهان على أهميته. وإذا ما سألني أحدهم أأنا أمير أم مشرع حتى أكتب في السياسة؟ لأجبت بأنني لا هذا ولا ذاك ومن أجل ذلكأكتب في السياسة. ولو كنت أميرا أو مشرعا لما أضعت وقتي في قول ما يجب فعله. كنت أفعله أو كنت أسكت"
ولقد تمت الإشارة إلى أن روسو قد وجه انتقادات لاذعة للعلاقات الاجتماعية القائمة في مقالته في اللامساواة,لكن يمكن القول إن موقفه السياسي بقي في النهاية واحدا,فهو يقول في مطلع كتابه في اللامساواة:"لقد ولد الإنسان حرا,لكنه كبل بالأصفاد في كل مكان "وينهي هذا الكتاب بإقامة معارضة بين العقد الاجتماعي وقوانين اللامساواة القائمة فعلا.
إن الحق أساسا مصدره هو الحرية,وحيث أن النظام الاجتماعي ليس هبة الطبيعة للإنسان-كما يرى روسو-لذلك فالحرية المنبثقة من الطبيعة البشرية لابد وان تصبح من سمات الحالة الاجتماعية,لذلك لا يمكن لأي حكم أن يقوم على حق الأقوى,إذ أن القوة طاقة جسدية لا تؤدي إلى الحق,لذلك فالأساس الذي يقوم عليه الحق هو الاتفاق والميثاق فعن هذا الاتفاق ينشا المجتمع.لذلك فان العقد الاجتماعي-بالنسبة لروسو-هو الشرط الأساسي لكل سلطة تريد أن تكون شرعية,وهذا يدل على انتقال التطور التاريخي من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني" إن ما يخسره الإنسان من جراء العقد الاجتماعي,هو الحرية التي كان يتمتع بها في الطبيعة والحق اللامحدود...وما يربحه بالمقابل هو الحرية المدنية, فيكتسب بذلك الحرية الأخلاقية ,ذلك إن الخضوع للشهوة عبودية,والانصياع للقانون الذي الزمنا أنفسنا به حرية" فكيف يتم الانتقال من مرحلة الطبيعة إلى مرحلة المدنية؟
يتلخص جوهر العقد الاجتماعي على النحو التالي" يضع طل واحد منا شخصه وكامل طاقاته تحت الإمرة العليا للإرادة العامة، ويعامل كل عضو على أنه جزء لا يتجزأ من الكل"؛ إذ يجد الفرد نفسه ملزما على أن يتنازل عن حريته الطبيعية، وأن يتفق مع باقي أفراد المجتمع، حيث يستبدل حريته الطبيعية بالحرية المدنية ؛ ذلك أن غاية العقد الاجتماعي هو السهر على الحفاظ على حياة المتعاقدين والدفاع عن حقوقهم أمام بطش الغير,يقول روسو:"إن كل قانون لم يصادق عليه الشعب شخصيا هو بحكم اللاغي وما هو بقانون"فالقانون هو تعبير عن الإرادة العامة للأفراد.ومن ثمة فكل قانون لا يأخد هذه الحقيقة ,فهو قانون استعبادي واستبدادي.فالإرادة العامة –حسب روسو-مستقيمة ولا تنزع إلا إلى المنفعة العامة والصالح العام11.وبالتالي فالإرادة العامة هي تلك الهيئة التي يتنازل الفرد بموجبها على جزء من حقوقه المكتسبة في حالة الطبيعة ليحفظ الجزء الأكبر منها في مرحلة المجتمع المدني,لدلك فهي نتاج للاتفاق بين أفراد المجتمع.
إن جون.جاك.روسو وبنزعته الفردية يرفض نظام الأحزاب,ذلك ان صراع المصالح الخاصة لا يشكل في رأيه القوة التي تحدد الإرادة العامة,فالأحزاب كهيئة تمثيلية لا تساهم في بلورة الإرادة العامة,وانما على العكس,تعمل دون تجليتها12 والملاحظ إن هذه المحاكمة التي يبديها روسو تقوم على تصور طوباوي للحياة السياسية.أما السلطة السيادية-في نظر روسو-فهي واحدة لا تتجزا وهي ملك للشعب الذي لا سيادة لأحد سواه,والحرية والمساواة هما المبدآن الموجهان للإرادة العامة.وفي هذا الإطار ينتقد روسو نظرية مونتسكيو في تقسيم السلطات,فالإرادة العامة هي التي تتخذ القرارات ذات الأثر العام,أي القوانين.ويتجلى عمل السلطة التنفيذية في كونها المتصرفة بالقوة العامة ,وهي التي تتكفل بتنفيذ القوانين,إذ أن كل عقد يحد من سلطة الشعب المطلقة يقوض أساس الميثاق الاجتماعي.فروسو يضع ثقته الكاملة في الأفراد الذين لا تحركهم سوى المصلحة المشتركة,وواضح هنا أن روسو يتحدث عن دولة مثالية لا أساس لها في الواقع العيني.لقد بنا روسو منهجه العقلاني الصرف حول النظام السياسي بشكل مثالي,وهذا يتعارض-كما اشرنا-مع النظام السياسي القائم .ولقد لقيت اراء روسو السياسية انتقادات من طرف مجموعة من المفكرين تتمحور حول هدا الجانب بالذات-الجانب المثالي-بالإضافة إلى جوانب أخرى متعددة كمدى مشروعية هذه النظرية في تحقيق دولة الحق والقانون,أي هل يمكن نظرية للحق من خلال مبدأ الإرادة العامة التي لا تحمل في طياتها أية ضمانات قانونية.
إن المجتمع الذي يهدف روسو إلى بلورته هو مجتمع عديم الشكل,فهو لا يعرف أي تنظيم اجتماعي ولا يعدو كونه مجموعة من الأفراد أو تجمعا إنسانيا فارغ المحتوى,وبدون إطار سياسي يضبط العلاقات بين الأفراد.
وتبرز قيمة وراهنيه أعمال جون جاك روسو في كونها فتحت أفقا جديدا للتفكير في الشؤون السياسية للمجتمعات المعاصرة التي تسعى إلى الاستفادة من البنود الإيجابية التي يحققها العقد الاجتماعي على مستوى الاجتماع و الأخلاق والسياسة، ولعل هذا الاعتبار هو ما جعل الفكر الكانطي في جوانب كثيرة منه حبيس بالروح الروسوية إذ يحدد في كتابه أسس ميتافيزيقا الأخلاق مجموعة من القواعد الأخلاقية المؤسسة للفعل السياسي والقانوني يمكن أن نجملها في ثلاثة صيغ:
- " اعمل دائما بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونا كليا للطبيعة"
- " اعمل دائما بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص الآخرين كغاية لا كمجرد وسيلة"
- " اعمل دائما بحيث تكون إرادتك باعتبارك كائنا ناطقا هي الإرادة المشرعة الكلية"
هذه القواعد إذن هي بمثابة قانون لتحقيق الاستقلالية على مستويات متعددة تضفي نوعا من الشرعية على الأخلاق الإنسانية لكن سواء كانت هذه الأخلاق مستقلة عن ظروف التطبيق أو وفق ما يعبر عنه كانط ذات بعد كلي صالح للجميع، فإنه مما لا شك فيه أن تقرير هذا القانون على مقتضى قاعدة الكلية يبدو وثيقا بهذا المبدأ، وكأنه تطبيق للفكرة التي دافع عنها روسو في الاستدلال على مبدأ العدالة في العقد الاجتماعي ؛ وذلك بالمعنى الذي تكون فيه الحرية هي نفسها" طاعة القانون الذي يعينه الإنسان لنفسه" .
نفس الموقف يؤكده جون راولز في حديثه عن نظرية العدالة، بحيث ينطلق هذا الأخير من أن هدف العدالة هو ما ينبغي أن تحققه ائتلاف مؤسسات المجتمع الإنساني؛ فالناس لا يمكن إلا أن يجتمعوا لأن في اجتماعهم تحقيق النفع الفردي والعمومي، وراولز يفترض في هذا الصدد حالة مثالية وفطرية قصوى ينعتها بالوضعية الأصلية حيث يتوجه فاعلون مفترضون حياديون ونزيهون من أجل تأسيس مجتمع يسعى الى الجمع بين أفراد يقبلون شرط العيش الجماعي، وهذا القبول هو الحالة التي سيكون عليهاالمجتمع.
لائحة المراجع
-إبراهيم أبراش؛ تاريخ الفكر السياسي من حكم ملوك الألهة إلى نهاية عصر النهضة؛ شركة بابل للطباعة والنشر الطبعة الثانية 1998.
- محمد عبد الله عنان؛ المذاهب الاجتماعية الحديثة، عناصرها السياسية والاقتصادية والدستورية، مطبعة لجنة التأليف للترجمة والنشر القاهرة1959 الطبعة الرابعة
-مصطفى حنفي؛ النزعة الإنسانية وإرث الأنوار .
-كرين برينتون؛ تشكيل العقل الحديث، ترجمة شوقي جلال مراجعة صدقي حطاب، عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون الكويت1984
- يوسف كرم؛ تاريخ الفلسفة الحديثة، دار العلم بيروت،لبنان.
-les textes fondamentaux de la pensée politiques ; plusieurs écrivains ;le point hors-série ; n 19 septembre-octobre2008.
-Daniel roche » la grande révolutions du XIII eme siècle est routière et postale » ; in les textes fondamentaux de la pensée de lumières ;le point hors-série ;n mars-avril 2010.
-
المحاور الاساسية
تقديم عام
نبذة تاريخية عن حياة ج.ج.روسو
منزلة ج.ج. روسو في فلسفة الأنوار
- الإرهاصات الأولى لفكرة المجتمع المدني عند ج.ج.روسو
تقديم
إن مساءلة الفكر الحداثي انطلاقا من استحضار مختلف المساهمات الفلسفية التي أثثت سياق ومجال اشتغاله يفرض علينا بالضرورة الوقوف على محطة أساسية من تاريخ الفلسفة السياسية الحديثة، يتعلق الأمر بالجديد الذي أدخله جون جاك روسو في مجال على المجال النظري في البحث السياسي.
يعتبر جتن جاك روسو من أبرز ممثلي عصر الأنوار والاتجاه المساواتي إلى جانب مجموعة من الباحثين والفلاسفة أمثال فولتير، مونتيسكيو، ديدرو ودالامبير...إذ يجسد جان جاك روسو من خلال أعماله الرائدة الفيلسوف المهموم المشغول بمشاكل عصره والمنخرط انخراطا فعالا في النقاشات السياسية المتجددة الرهانات والانتظارات التي تسعى الحكومات الحديثة إلى تحقيقها ؛ حيث وجه النقد اللاذع الى مختلف الظروف التي كانت تعيشها فرنسا وأوروبا قبل الثورة الفرنسية، الأمر الذي أكسب كتاباته صفة الراهنية بحيث تحضر الروح الفكرية لجون جاك روسو في التحليل السياسي للفلسفة المعاصرة مع جون راولز وإيمانويل كانط هذا الأخير الذي اعترف في مناسبات عديدة بفضل جون جاك روسو على تفكيره السياسي بحيث يقول:" مضى زمن كنت أعتبر البحث عن الحقيقة وحده كاف لأن يكون شرف الإنسانية؛ وكنت أحتقر الإنسان العادي الذي لا يعرف شيئا؛ وقد دفعني روسو على الطريق المستقيم؛ لقد تلاشى هذا الحكم الأعمى وتعلمت احترام الطبيعة الإنسانية، ولقد اعتبرت نفسي أقل فائدة بكثير من العامل البسيط، إذ لم أعتبر أن فلسفتي من الممكن أن تساعد البشر على إثبات حقوقه الإنسانية" .
وإذا علمنا كذلك بأن انطلاقة التنوير هي فرنسية استطعنا مسك خيوط مقدار التأثير الذي مارسه روسو إلى جانب العديد من المفكرين من خلال العمل على نشر الأفكار التي تساير قيم الحرية والتقدم والمساواة والإخاء محدثين بذلك شرارة تجسدت واقعيا وعمليا في حدث الثورة الفرنسية التي عبرت في جوهرها عن دعوات الإنسانية المناهضة لسلطة القهر والاستبداد.
موضوع هذه الورقة هو الحداثة السياسية عند جون جاك روسو، وهذا الجانب يهتم بالطريقة التي بلور بها روسو أطروحته حول العقد الإجتماعي الذي يشكل الصيغة المثلى لبناء المجتمع الحديث، الأطروحة التي ساقها روسو في كل كتاباته. سنعمل من خلال هذه الورقة المتواضعة كشف الخيوط الناظمة لأطروحة جان جاك روسو، وموقفه من الحداثة السياسية من خلال محاولة الإجابة على العديد من الأسئلة من قبيل: ما هي ملامح الحداثة السياسية عند جان جاك روسو؟ وما هو الجديد الذي جاءت به نظرية جان جاك روسو حول العقد الاجتماعي بالمقارنة مع ما كان سائدا في عصره؟ وما هو التأثير الذي أحدثته نظربته السياسية في المجتمع الغربي على الكتابات السياسية؟
وعلى أمل الإنفتاح على مقاربات أخرى لهذا الموضوع نتقدم بالشكر الجزيل للدكتور مصطفى حنفي على سعيه لإنارة دروبنا نحو البحث العلمي الجاد وعلى مجهوده المتواصل من أجل ترسيخ قيم البحث العلمي في صفوف الطلبة.
I- نبذة تاريخية عن حياة جان جاك روسو(1712-1778).
هناك رأي يقول بأن فلسفة أي فيلسوف ما هي إلا انعكاس لحياته وبيئته ونوع ثقافته، وإذا كان من غير الحكم التسليم بهذا الرأي دون مناقشة، إلأ أنه لدينا على الأقل في جان جاك روسو وفلسفته دليلا واضحا يؤكد هذا الرأي إلى حد كبير، حيث أن دراسة الظروف والملابسات التي اكتنفت حياة هذا الفيلسوف وطبيعة البيئة التي نشأ فيها وأنواع الفلسفات والعلوم التي شكلت ثقافته، توضح بلا شك الكثير من المهمة في فلسفته وتكشف النقاب عن حقيقة موقفه من الفكر السياسي الحديث.
ولد جان جاك روسو أبرز ممثلي الاتجاه المساواتي وفلاسفة الأنوار من أسرة يهودية برجوازية ذات أصول فرنسية في مدينة جنيف، انخرط في مشاكل الحياة منذ طفولته المبكرة، حيث توجه تحت إكراه أبيه إلى تعلم الصناعة منذ الثللثة عشرة من عمره لدى رب عمل قاس وشديد، فغادر روسو المدينة هربا منه وهو في السادسة عشرة من عمره، فأخذ يمنهن شتى الحرف في سويسرا وإيطاليا، وبعد ثمان سنوات تعرف في (سافوي) على سيدة ثرية يسرت له شيئا من الاستقرار المادي، فاستطاع تكوين نفسه، حيث تعلم الموسيقى والألسنة وقرأ كتب الفلاسفة وبعد خمس سنين قصد باريس ثم غادرها إلى البندقية، وعاد إلى باريس وهو في الثالثة والثلاثين؛ وأخذ يتردد على العديد من المفكرين خاصة ديدرو .
وخلال رحلته الفكرية الخالدة أعطى جان جاك روسو للبشرية عديدا من المؤلفات، كان أولها مقالته(إميل Emile) وهي المقالة التي أهلته للفوز بالجائزة الأولى لأكاديمية دينجون وكانت المسابقة حول عنوان:" هل أدى تقدم العلوم والفنون إلى فساد الأخلاق أو إلى إفسادها ؟"؛ ونشر بعد ذلك كتاب تحت عنوان مقال في أصل التفاوت بين البشر discours sur l’origine de l’ inégalités parmi les hommesوكتب مجموعة من المقالات الأخرى التي كانت تعبر عن أفكار فرد من الشعب عرف طفولة بئيسة وشباب ضائع حتى أن أفكاره ظهرت وكأنها ثورة ضد قيم مجتمع متبرج لا يهتم إلا بملذاته، وربما كان هذا هو السبب في أنه أصبح مفكر ثورة
II- منزلة جون جاك روسو في فلسفة الأنوار.
إن فلسفة جان جاك روسو ومواقفه السياسية لا تنفصل عن السياق التاريخي للقرن الثامن عشر؛ فقد شكل إلى جانب مجموعة من المفكرين تيارا فلسفيا يعنى بإحلال المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية أمام جبروت الحكم المطلق وأما الوصاية التي تفرضها الكنيسة على الإنسان ؛ إذ أن الخيط الرابط الذي يجمع الأدبيات الأنوارية هو التنظير للفكر البرجوازي ولنظامه الذي بدأ يتبلور شيئا فشيئا، إذ أن معظم فلاسفة الأنوار قد وضعوا صوب اهتماماتهم نقد وتقويض دعائم النظام الفيودالي الذي سيطر على الحياة العامة في جميع المستويات الاقتصادية والسياسية .
وتبرز هذه الملاحظة في طبيعة الأبحاث التي أنجزها مفكرو الأنوار، وكذا المقالات التي نشروها في هذا الإطار، والتي تؤكد بأن البراديغم الذي تحكم في الإنتاجات الفكرية والأدبية لعصر الأنوار؛ هو نقد النظام الفيودالي وما يرتبط به من تنظيمات سياسية ودينية واقتصادية.
إذ أن جان جاك روسو عندما يعلن في كتاباته بأن الحالة الطبيعية هي مرحلة ذهبية في حياة الإنسان بما تمثله من رغبة في الحياة، والحرية وبساطة العيش، إنما يعكس موقفه الرافض والمتشاءم إزاء الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية التي تميز المجتمع الفرنسي خلال القرن 18.
ساهمت الأوضاع المتدهورة إذن والموجهة بتأثير جبروت الحكم المطلق وسيطرة الفكر الكنسي الدوغمائي في حدوث ردود فعل عدة دفعت فلاسفة الأنوار على اختلاف مشاربهم، إلى النقد الجذري للأوضاع القائمة التي تتميز بالركود والرتابة؛ الأمر الذي سيجد التعبير الأساس عنه في اخر المطاف مع اندلاع الثورة الفرنسية سنة1789. .
تكمن أهمية النظرية السياسية عند روسو كونها نظرية منفتحة نابضة بأوضاع المجتمع وأزماته على الرغم من أن العديد من الباحثين يعتبرون نظريته السياسية تعتبر نظرية "يوتوبية" إلا أنها على المستوى الفلسفي تعتبر نظرية حبلى بالمشاريع والمواقف السياسية مثل الديموقراطية، والاقتراع العام...حيث شكل كتاب العقد الاجتماعي بإجماع الباحثين المثل السياسي الأعلى في تسويغ بنود الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن غداة قيام الثورة الفرنسية .
ومن نالفل القول أن فلسفة الأنوار تختلف باختلاف الفلاسفة والمفكرين، إلا أنها مع ذلك تتكامل على المستوى التطبيقي العملي، ولعل حدث الثورة الفرنسية أبرز مثال معبر على ذلك.
III- الإرهاصات الأولى لفكرة المجتمع المدني عند جون جاك روسو.
يمثل مقال جون جاك روسو "أصل التفاوت بين البشر" المفتاح الأساسي لفهم نظريته الاجتماعية والسياسية؛ ذلك أنه لا يمكن أن نناقش أفكار العقد الاجتماعي إلا إذا استوعبنا الأفكار الواردة في المقال السابق الذر، ذلك أن الأفكار الواردة فيه هي وحدها الكفيلة بكشف الخيوط الناظمة للنظرية الروسوية في السياسة والاجتماع.
ينطلق جون جاك روسو في فلسفته من أطروحة الحالة الطبيعية السابقة لظهور القوانين والدولة، وهو يؤكد منذ البداية على أن مرحلة الطبيعة هي مرحلة افتراضية فقط؛ على اعتبار أنها لا يمكن أن تصبح واقعية أو خيالية لأن الشواهد والوثائق التاريخية، لم تكشف عن وجو مرحلة تاريخية بهذه التسمية " حالة الطبيعة"؛ لكن على الرغم من ذلك فإن الانطلاق من هذه المرحلة يبقى ضروريا لإبراز كيفية الانتقال من حالة إلى أخرى.
يقول جون جاك روسو" إن البشر في حالة ليسوا لا صالحين ولا أشرارا، إذ لا تجمع بينهم أية علاقة أخلاقية أو واجبات مشتركة"، وهنا يتعارض مع هوبس الذي يعتقد بأن الإنسان الطبيعي شرير بطبعه لأنه لا يمتلك أي فكرة عن الخير والشر مفطور على تحقيق رغباته وتلبية شهواته .
لكن في المقابل يرى جون جاك روسو أن الإنسان بطبيعته بسيط يحب ذاته ويدافع عن مصالحه، وفي نفس الوقت يتعاطف مع الآخرين، فالإنسان شعوريا ووجدانيا، يسعى للاجتماع بغيره من الناس، لأن الناس في حالة الطبيعة خيرون لا يوجد فيهم المكر والخداع وروح العدوان والغدر الذي تحدث عنه هوبس، حيث كان الناس في حياة الطبيعة محكومين بالطبيعة البشرية التي هي ضد الشرور وضد تسلط أحد على أحد، أما الشرور والمفاسد فهي لا تنتمي إلى الطبيعة البشرية بل هي من فعل المدنية والتقدم، وبفضل الملكية الخاصة .
كان الإنسان في مرحلة الطبيعة يتميز بالحرية التي تسمح له بتحقيق كل أهدافه بدون قيد أو شرط يكبل إرادته، حيث يؤكد روسو في كتابه أصل التفاوت بين البشر على " أن أفراد المجتمع قد عاشوا أحرارا وصالحين طالما قنعوا بكوخهم البسيط، واكتفوا بلباس الجلود ثيابا وبالريش زينة ؛ أي طالما لم ينشغلوا إلا بالأعمال التي في مقدور فرد واحد القيام بها، لكن ما أن راودت الإنسان حاجة إلى أن يؤازره أخر حتى اختفت المساواة وظهرت الملكية وغدا العمل ضروريا".
يعصف الاجتماع البشري إذن في نظر روسو بالحياة الخيرة للإنسان ويدخلها في دواليب التدهور والانحطاط ، وفي هذه المرحلة يبدأ التفاوت والاستغلال على اعتبار أن المجتمع والاجتماع يتأسس على المصلحة الخاصة وليس على المصلحة العامة، وبالتالي فإن تضارب المصالح من شأنه أن يِؤدي إلى الصراعات ويسبب في التناقضات.
أدى ظهور الملكية إذن إلى نزوع الجنس البشري نحو التدهور، يقول روسو: " إن أول من سيج أرضا وقال هذا ملك لي، ووجد أناسا يصدقونه كان المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني" لكن ليس المجتمع المدني بالمعنى الذي نتداوله حاليا لكن التجمع الإنساني.
يذهب روسو إلى اعتبارا الملكية عامل سلبي في تاريخ الإنسانية إذ أن ملكية الأرض تولد اللامساواة ويؤدي إلى صراع المصالح والاستغلال والعبودية .
والحقيقة أن هذا المقال " أصل التفاوت بين البشر" قد ألهم مجموعة من الباحثين والمفكرين الماركسين للبحث في أصل التفاوت والتمايز الطبقي ذلك أن روسو يدعو ضمني إلى نوع من الملكية الجماعية للأرض وعدم تقسيمها على شكل ملكيات ،ذلك أن التقسيم هو السبب الأساسي في حدوث التفاوت بين البشر .
مما يؤدي إلى حدوث نوع من التلاقي بين روسو والماركسية على مستوى المبادئ العامة ، وذلك في سياق النظر إلى الملكية لوسائل الإنتاج من منظور سياسي تاريخي له تأثير كبير على نوعية العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد.
ولعل أبرز تعبير عن الأفكار السياسية لجون جاك روسو هو كتابه " في العقد الاجتماعي du contrat social " الذي يعنى فيه بالبحث عن مبادئ الحق السياسي ويوضحها على ضوء المعلومات المتوفرة والتي تصب أساسا في التنظير لمجتمع متماسك سياسيا عن طريق القيام بنوع من التعاقد، إذ لم يكن جان جاك روسو يهدف إلى تفكيك الأشكال والتنظيمات السياسية التي أفرزها التاريخ لكن ما يؤطر توجهه العام هو البحث في ما يجب أن يوجد فعلا؛ من هنا اتسم فكره السياسي بالبناء المتواصل حيث يقول" إنني أستهل كلامي في موضوعي دون البرهان على أهميته. وإذا ما سألني أحدهم أأنا أمير أم مشرع حتى أكتب في السياسة؟ لأجبت بأنني لا هذا ولا ذاك ومن أجل ذلكأكتب في السياسة. ولو كنت أميرا أو مشرعا لما أضعت وقتي في قول ما يجب فعله. كنت أفعله أو كنت أسكت"
ولقد تمت الإشارة إلى أن روسو قد وجه انتقادات لاذعة للعلاقات الاجتماعية القائمة في مقالته في اللامساواة,لكن يمكن القول إن موقفه السياسي بقي في النهاية واحدا,فهو يقول في مطلع كتابه في اللامساواة:"لقد ولد الإنسان حرا,لكنه كبل بالأصفاد في كل مكان "وينهي هذا الكتاب بإقامة معارضة بين العقد الاجتماعي وقوانين اللامساواة القائمة فعلا.
إن الحق أساسا مصدره هو الحرية,وحيث أن النظام الاجتماعي ليس هبة الطبيعة للإنسان-كما يرى روسو-لذلك فالحرية المنبثقة من الطبيعة البشرية لابد وان تصبح من سمات الحالة الاجتماعية,لذلك لا يمكن لأي حكم أن يقوم على حق الأقوى,إذ أن القوة طاقة جسدية لا تؤدي إلى الحق,لذلك فالأساس الذي يقوم عليه الحق هو الاتفاق والميثاق فعن هذا الاتفاق ينشا المجتمع.لذلك فان العقد الاجتماعي-بالنسبة لروسو-هو الشرط الأساسي لكل سلطة تريد أن تكون شرعية,وهذا يدل على انتقال التطور التاريخي من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني" إن ما يخسره الإنسان من جراء العقد الاجتماعي,هو الحرية التي كان يتمتع بها في الطبيعة والحق اللامحدود...وما يربحه بالمقابل هو الحرية المدنية, فيكتسب بذلك الحرية الأخلاقية ,ذلك إن الخضوع للشهوة عبودية,والانصياع للقانون الذي الزمنا أنفسنا به حرية" فكيف يتم الانتقال من مرحلة الطبيعة إلى مرحلة المدنية؟
يتلخص جوهر العقد الاجتماعي على النحو التالي" يضع طل واحد منا شخصه وكامل طاقاته تحت الإمرة العليا للإرادة العامة، ويعامل كل عضو على أنه جزء لا يتجزأ من الكل"؛ إذ يجد الفرد نفسه ملزما على أن يتنازل عن حريته الطبيعية، وأن يتفق مع باقي أفراد المجتمع، حيث يستبدل حريته الطبيعية بالحرية المدنية ؛ ذلك أن غاية العقد الاجتماعي هو السهر على الحفاظ على حياة المتعاقدين والدفاع عن حقوقهم أمام بطش الغير,يقول روسو:"إن كل قانون لم يصادق عليه الشعب شخصيا هو بحكم اللاغي وما هو بقانون"فالقانون هو تعبير عن الإرادة العامة للأفراد.ومن ثمة فكل قانون لا يأخد هذه الحقيقة ,فهو قانون استعبادي واستبدادي.فالإرادة العامة –حسب روسو-مستقيمة ولا تنزع إلا إلى المنفعة العامة والصالح العام11.وبالتالي فالإرادة العامة هي تلك الهيئة التي يتنازل الفرد بموجبها على جزء من حقوقه المكتسبة في حالة الطبيعة ليحفظ الجزء الأكبر منها في مرحلة المجتمع المدني,لدلك فهي نتاج للاتفاق بين أفراد المجتمع.
إن جون.جاك.روسو وبنزعته الفردية يرفض نظام الأحزاب,ذلك ان صراع المصالح الخاصة لا يشكل في رأيه القوة التي تحدد الإرادة العامة,فالأحزاب كهيئة تمثيلية لا تساهم في بلورة الإرادة العامة,وانما على العكس,تعمل دون تجليتها12 والملاحظ إن هذه المحاكمة التي يبديها روسو تقوم على تصور طوباوي للحياة السياسية.أما السلطة السيادية-في نظر روسو-فهي واحدة لا تتجزا وهي ملك للشعب الذي لا سيادة لأحد سواه,والحرية والمساواة هما المبدآن الموجهان للإرادة العامة.وفي هذا الإطار ينتقد روسو نظرية مونتسكيو في تقسيم السلطات,فالإرادة العامة هي التي تتخذ القرارات ذات الأثر العام,أي القوانين.ويتجلى عمل السلطة التنفيذية في كونها المتصرفة بالقوة العامة ,وهي التي تتكفل بتنفيذ القوانين,إذ أن كل عقد يحد من سلطة الشعب المطلقة يقوض أساس الميثاق الاجتماعي.فروسو يضع ثقته الكاملة في الأفراد الذين لا تحركهم سوى المصلحة المشتركة,وواضح هنا أن روسو يتحدث عن دولة مثالية لا أساس لها في الواقع العيني.لقد بنا روسو منهجه العقلاني الصرف حول النظام السياسي بشكل مثالي,وهذا يتعارض-كما اشرنا-مع النظام السياسي القائم .ولقد لقيت اراء روسو السياسية انتقادات من طرف مجموعة من المفكرين تتمحور حول هدا الجانب بالذات-الجانب المثالي-بالإضافة إلى جوانب أخرى متعددة كمدى مشروعية هذه النظرية في تحقيق دولة الحق والقانون,أي هل يمكن نظرية للحق من خلال مبدأ الإرادة العامة التي لا تحمل في طياتها أية ضمانات قانونية.
إن المجتمع الذي يهدف روسو إلى بلورته هو مجتمع عديم الشكل,فهو لا يعرف أي تنظيم اجتماعي ولا يعدو كونه مجموعة من الأفراد أو تجمعا إنسانيا فارغ المحتوى,وبدون إطار سياسي يضبط العلاقات بين الأفراد.
وتبرز قيمة وراهنيه أعمال جون جاك روسو في كونها فتحت أفقا جديدا للتفكير في الشؤون السياسية للمجتمعات المعاصرة التي تسعى إلى الاستفادة من البنود الإيجابية التي يحققها العقد الاجتماعي على مستوى الاجتماع و الأخلاق والسياسة، ولعل هذا الاعتبار هو ما جعل الفكر الكانطي في جوانب كثيرة منه حبيس بالروح الروسوية إذ يحدد في كتابه أسس ميتافيزيقا الأخلاق مجموعة من القواعد الأخلاقية المؤسسة للفعل السياسي والقانوني يمكن أن نجملها في ثلاثة صيغ:
- " اعمل دائما بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونا كليا للطبيعة"
- " اعمل دائما بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص الآخرين كغاية لا كمجرد وسيلة"
- " اعمل دائما بحيث تكون إرادتك باعتبارك كائنا ناطقا هي الإرادة المشرعة الكلية"
هذه القواعد إذن هي بمثابة قانون لتحقيق الاستقلالية على مستويات متعددة تضفي نوعا من الشرعية على الأخلاق الإنسانية لكن سواء كانت هذه الأخلاق مستقلة عن ظروف التطبيق أو وفق ما يعبر عنه كانط ذات بعد كلي صالح للجميع، فإنه مما لا شك فيه أن تقرير هذا القانون على مقتضى قاعدة الكلية يبدو وثيقا بهذا المبدأ، وكأنه تطبيق للفكرة التي دافع عنها روسو في الاستدلال على مبدأ العدالة في العقد الاجتماعي ؛ وذلك بالمعنى الذي تكون فيه الحرية هي نفسها" طاعة القانون الذي يعينه الإنسان لنفسه" .
نفس الموقف يؤكده جون راولز في حديثه عن نظرية العدالة، بحيث ينطلق هذا الأخير من أن هدف العدالة هو ما ينبغي أن تحققه ائتلاف مؤسسات المجتمع الإنساني؛ فالناس لا يمكن إلا أن يجتمعوا لأن في اجتماعهم تحقيق النفع الفردي والعمومي، وراولز يفترض في هذا الصدد حالة مثالية وفطرية قصوى ينعتها بالوضعية الأصلية حيث يتوجه فاعلون مفترضون حياديون ونزيهون من أجل تأسيس مجتمع يسعى الى الجمع بين أفراد يقبلون شرط العيش الجماعي، وهذا القبول هو الحالة التي سيكون عليهاالمجتمع.
لائحة المراجع
-إبراهيم أبراش؛ تاريخ الفكر السياسي من حكم ملوك الألهة إلى نهاية عصر النهضة؛ شركة بابل للطباعة والنشر الطبعة الثانية 1998.
- محمد عبد الله عنان؛ المذاهب الاجتماعية الحديثة، عناصرها السياسية والاقتصادية والدستورية، مطبعة لجنة التأليف للترجمة والنشر القاهرة1959 الطبعة الرابعة
-مصطفى حنفي؛ النزعة الإنسانية وإرث الأنوار .
-كرين برينتون؛ تشكيل العقل الحديث، ترجمة شوقي جلال مراجعة صدقي حطاب، عالم المعرفة المجلس الوطني للثقافة والفنون الكويت1984
- يوسف كرم؛ تاريخ الفلسفة الحديثة، دار العلم بيروت،لبنان.
-les textes fondamentaux de la pensée politiques ; plusieurs écrivains ;le point hors-série ; n 19 septembre-octobre2008.
-Daniel roche » la grande révolutions du XIII eme siècle est routière et postale » ; in les textes fondamentaux de la pensée de lumières ;le point hors-série ;n mars-avril 2010.
-
مواضيع مماثلة
» العقد الاجتماعي: الأسس النظرية وأبرز المنظّرين
» تحليل نص روسو حول السيادة والمواطنة
» خطاب في اصول التفاوت - وفي أسسه بين البشر -جان كاك روسو
» تحليل نص روسو حول السيادة والمواطنة
» خطاب في اصول التفاوت - وفي أسسه بين البشر -جان كاك روسو
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem
» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني
» لست أدري! لست أدري!
27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني
» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني
» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني
» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني