بحـث
المواضيع الأخيرة
الدولة : السيادة و المواطنة
صفحة 1 من اصل 1
الدولة : السيادة و المواطنة
الدولة : السيادة و المواطنة
لطفي زكري
(الحق- الديمقراطية- السلطة- العنف- المقاومة-المواطن العالمي).
مدخل عام:
يقترن الحديث عن الدّولة بمفارقة تجمع بين مقاربات فلسفية حديثة تجرّم الدّولة وتدعو لإزالتها أو تستشرف إمكانية اضمحلالها، وممارسة سياسية تدعم وجود الدّولة وتوسّع مجال نفوذها وتحذّر من مخاطر المساس بهيبتها، وهي مفارقة تدفع إلى السؤال عمّا إذا كان قيام الدّولة يمثل تأكيدا لسيادة الشّعب أم سلبا لها؟ وإذا كانت هذه السيادة في علاقة بحقيقة المواطنة، فهل تتحدد على جهة الطاعة التي يقتضيها القانون أم على جهة الخضوع والإكراه الذي تقتضيه القوة؟ وهل يتعلّق الأمر بدولة الشّعب أم بشعب الدّولة؟ أي كيف يمكن لسيادة الدولة أن لا تتناقض مع سيادة الشعب؟ وهل يقتضي الأمر ممارسة ديمقراطية تتيح للشعب حكم نفسه بنفسه لتجسيد قيم المواطنة أم مقاومة لكل أشكال السّلطة الاستبدادية التي تمارسها الدّولة؟
1/ السلطة و الدولة:
بعد التصنيف الذي قدمه مونتسكيو للسلطة في كتابه روح القوانين حيث ميز بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية، كنا نظن انّنا أصبحنا على بينة من حقيقة السلطة وتجلياتها، لكن لم نكد نخلص من تمثل هذا التمييز حتى يطالعنا ميشال فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة بأنّنا"ما زلنا نجهل ماهية السلطة" مؤكدا بذلك أن تعريف السلطة بالسيطرة أو النفوذ أو الحكم أو الطبقة الحاكمة...يزيد الأمر غموضا لأن هذه العبارات بحاجة إلى التعريف فضلا عن أن تكون أداة لتعريف غيرها. وعلى هذا الأساس يقول فوكو:"ليست نظرية الدولة ولا التحليل التقليدي لأجهزة الدولة بقادرين على استنفاد مجال ممارسة السلطة". فمعرفة السلطة تقتضي الاقتداء بالنّموذج الفيزيائي على غرار ما فعله كارل ماركس في تعريف الاستغلال عندما بيّن من يَستغل وأين يمضي الربح و الأيدي التي يمر بها وأين يستثمر من جديد أو ما فعله فرويد عندما بين آليات الحياة النفسية وما تقوم عليه من صراع بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع. بحيث يتعين على من يروم معرفة السلطة أن يبين من يمارسها وأين يمارسها وفي أي اتجاه يمارسها"فالسلطة تمارس حيثما يكون ثمة سلطة. فلا أحد يمتلكها". ويميز فوكو في ممارسة السلطة بين وجه ماكرفيزيائي يتجلى في مختلف أشكال السلطة السياسية التي تستأثر بها الدولة وآخر ميكروفيزيائي يشمل مختلف أوجه ممارسة السلطة داخل الحياة المدنية تحت مسميات مختلفة كالتربية(سلطة المعلم والأب) والعلاج(سلطة الطبيب والممرض) والإدارة(سلطة رئيس جريدة)...لكن إذا كان مجال السلطة يتجاوز حدود الدولة. فهل يعني ذلك أن حقيقة الدولة باتت واضحة بمجرد تمييزها عن السلطة؟ لا يبدو الأمر كذلك، فوجود الدّولة في حياة الإنسان يشكل مفارقة عبر عنها بيردو في قوله:"ما من أحد رأى الدّولة أبدا ومع ذلك أفي استطاعة أحد أن ينكر أن الدّولة واقع؟" فالدّولة ليست واقعة مادية يمكننا أن نشاهدها بل هي فكرة تختزل واقعا مكثفا من العناصر (أرض، شعب، علم، نشيد، قوانين، حكومة، مؤسسات،...) دون أن يستوفي أحدها أو بعضها أو حتى كلها مجتمعة حقيقة الدّولة."إن الدّولة ليست الأرض ولا السكان ولا مجموع القواعد الإلزامية، لكن من الأكيد أنّ كل هذه المعطيات ليست خارجة عن مجال الدّولة"بتعبير بيردو، فيحذو بذلك حذو هيغل في اعتباره الدّولة "حقيقة الفكرة الأخلاقية" تجد فيها تناقضات المجتمع المدني و مشكلاته حلا لها. غير أن هذه الأخلاقية المفرطة بدت مناقضة لطبيعة الدّولة ووظيفتها التاريخية كما بين ذلك أنقلس حين لاحظ أن الدّولة تاريخيا كانت دوما دولة أقوى الطبقات(دولة الأسياد، دولة النبلاء، دولة البورجوازية) أو آلة لصيانة مصالح طبقة على أخرى ولعل أميز ما يميز هذه الآلة هي سمة العنف وذلك من خلال تعاضد الأجهزة الإيديولوجية(الصحافة، المنابر الخطابية،...)والأجهزة القمعية(الجيش، الشرطة، الدّيوانة،...) في ممارسته ضد الأفراد و الجماعات على حد تعبير ألتوسير. وإذا كانت "جميع الدول قائمة على القوة" بعبارة تروتسكي فإن ما يميز الواحدة عن الأخرى هو مقدار استخدامها لها. لذلك نقول عن الديكتاتورية أنّها نظام عنف ليس لكونها تستخدم القوة بل لكونها تفرط في استخدامها، ونقول عن الديمقراطية نظام لاعنف ليس لكونها لا تستخدم القوة بل لكونها تستخدمها بشكل متعقل.
2/ الدّيمقراطية والسّيادة:
لا يثير تحديد مفهوم السيادة أو بيان مقوماتها إشكالا في نظام استبدادي يكون فيه صاحب السيادة إلها فانيا له من النفوذ والقوة ما يجعله مهيبا في النفوس وقادرا على صهر إرادات الأفراد في إرادة واحدة كما هو الحال لسيادة التنين أو الشخص الأوحد الذي يصنع من الأفراد رعايا خاضعين حسب هوبس، أما إذا تعلّق الأمر بنظام ديمقراطي فإنّ رسم حدود السيادة يغدو أمرا إشكاليا يزداد تعقيد بتعدد المقاربات الفلسفية السياسية لمفهوم الديمقراطية. فإذا تجاوزنا الدلالة اللغوية -التي تعطي لمفهوم الديمقراطية معنى حكم الشعب(Demos-Cratos)- إلى تأويلاتها الفلسفية أدركنا كم يبدو هذا المفهوم غائما ومغريا في آن. فقد اعتبر روسو الديمقراطية فكرة طوباوية لم توجد ولن توجد أبدا لأنّه من الخلف في نظره أن يتفرغ شعب بأكمله للنّظر في الشؤون العمومية، فالديمقراطية قد تناسب شعبا من الآلهة لا من البشر.
قد يبدو روسو محقا في هذه المقاربة لأنّ "الديمقراطيات التي عرفتها المدن القديمة كانت ديمقراطيات زائفة" كما يقول برغسون فهي تعطي لكل مواطن الحق في تشريع القوانين ولا تمنح النساء و الغرباء والعبيد صفة المواطنة ومن ثم تكون السيادة للمواطنين دون غيرهم من أفراد الشعب أو سكان المدينة، وهذا يعني أن سيادة الدولة ليست سيادة الشعب. لكن هذا الزيف لا يبرر تصنيف الديمقراطية في قائمة الأفكار الطوباوية كما أراد لها روسو، ولا ينفي إمكانية الحديث عن ديمقراطية فعلية بين البشر طالما أن غاية النظام الديمقراطي هي تحرير البشر من سيطرة الشهوة العمياء والإبقاء عليهم في حدود العقل لأن الإنسان الحر هو الذي يختار بمحض إرادته أن يعيش بهداية العقل وحده أمّا الذي تسيطر عليه شهواته فيكون في أحطّ درجات العبودية. وبهذا المعنى نستطيع القول مع برغسون:" أنّ الإنسانية لم تصل إلى الديمقراطية إلاّ في زمن متأخر" أي حينما وقع تعريف المواطن على أنّه مشرع ومواطن في نفس الوقت أو حينما اعتبر الشعب هو صاحب السيادة.
لكن هل الديمقراطية قوة إبداعية قادرة على نحر التنين الكلياني كما يزعم لوفور؟ وهل تكفي أن تكون أساسا لسيادة الشعب؟ وهل تؤسس لسيادة فعلية وحقيقة أم لسيادة كاذبة ووهمية؟
يستبعد آلان تعريف الديمقراطية بالمساواة أو بالاقتراع لأنّه في نظره غياب حرية التفكير في نظام استبدادي هو ضرب من المساواة كم أن انتخاب طاغية بالاقتراع العام لا يجعله أقل طغيانا، فجوهر الديمقراطية يكمن في ممارسة الشعب لسيادته من خلال رقابة تسيير الأمور بناء على المصلحة العامة وخلع الحكام والمختصين إذا اقتضى الأمر حتى وإن أدى ذلك إلى الثورة وإقامة المتاريس. يبدو إذن أن السيادة لا تلغي الصراع بل تتحول إلى موضوع له ومن ثم ينشأ السؤال عمّا إذا كانت مقاومة الاستبداد حقا أم عصيانا مدنيا؟
3/ المواطنة وحقوق الإنسان:
تجعل التشريعات الفلسفية السياسية من المجتمع المدني فضاء يسوده القانون على أساس جدلية الحق والواجب بحيث يكون الفرد في هذا المجتمع مواطنا له من الحقوق بقدر ما عليه من الواجبات التي تؤمنها له أو تفرضها عليه الدولة العقلانية بعد أن نجحت في تحييد الأهواء والميولات اللاعقلانية كما يبيّن ذلك قول لوك:"واجب على الحاكم أن يؤمّن للشعب كلّه ولكلّ فرد على حدة- بواسطة قوانين مفروضة بالتّساوي على الجميع- المحافظة الجيّدة والامتلاك لكلّ الأشياء التي تخصّ الحياة"، ولما كانت الدساتير هي المرجعيات التي تبين نظام الحق وتحدد دور السلطات وتقرر ما للأفراد من حريات وحقوق وواجبات، فإنّ أي فعل يتجاوز حدود النصوص التشريعية يعد خرقا يستوجب العقاب والردع. وبما أنّه "لايمكن فعليا أن يتضمن الدستور أي بند يسمح لسلطة أن تقاوم القائد الأعلى للدولة في صورة خرقه للقوانين التشريعية" بتعبير كانط فإنّه لا توجد مقاومة للشعب ضد الحاكم تكتسب صفة الشرعية بل إن أبسط محاولة من هذا القبيل تعد خيانة عظمى تستحق عقوبة الإعدام. فالمقاومة بهذا المعنى ليست أكثر من اختراق للحصانة ونيل من أمن الدولة وسيادتها ممثلة في شخص الحاكم.
لكن هل تستحق المواطنة كل هذه التضحية؟ وإذا كان صاحب السيادة ينزع دوما لابتزاز السّيادة بتعبير ريكور فهل قدر المواطنين أن يبقوا ضحايا لهذا الابتزاز؟ إنّنا في الواقع نكون أمام صورة للمواطنة المفرغة من كل مضمون وصورة للسيادة الخالية من كل أصالة أو تأصيل سياسي. لأنّ خرق القوانين التشريعية من قبل الحاكم يعد نيلا من السيادة قبل أن يكون تعديا على المواطنة، نيل من سيادة الشعب الذي خول له تلك الصلاحيات السياسية. وعلى هذا الأساس أكّد جون لوك شرعية بل وجوب مقاومة كل من يتجاوز سلطة القانون أو يتصرف دون تفويض شرعي، وتعظم الجريمة في نظره بقدر رفعة الوظيفة. وإذا كان الطغيان يبتدئ حيث تنتهي سلطة القانون فإن شرعية المقاومة تبدأ حيث يبدأ الطغيان ولا تحتاج إلى نص دستوري يعترف لها بتلك الشرعية.
لذلك يبدو أنّه رغم ما شهدته الممارسة السياسية من تطورات منذ عصر الأنوار فإنّ مفهوم الحقوق الإنسانية بقي مفهوما إشكاليا، تعكسه ظواهر الاحتجاج المتزايد من جهة والمراجعات النقدية من جهة أخرى. فقد اعتبر كارل ماركس حقوق الإنسان في دستور 1793 كذبة بورجوازية تهدف إلى طمس الاستغلال الذي تمارسه الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج وتدعمها فيه الدولة "الديمقراطية" بأجهزتها القمعية والإيديولوجية. فالبروليتاريا في نظره هي أول ضحايا هذه الحقوق الغائمة والمخادعة لأنّها ترسم صورة يكون فيها"الإنسان الحقيقي في الواقع ليس الإنسان بما هو مواطن وإنّما الإنسان بما هو بورجوازي" بتعبير ماركس.
كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يجعل منه الخطاب السياسي المعاصر عنوان تحضر ومدنية تدعى جميع الدول للالتزام به حتى تكتسب صفة الدولة الديمقراطية الضامنة لحقوق الإنسان، يجد فيه حنّا آرنت شهادة تاريخية على أن المجتمع المدني استحال إلى فضاء تعدم فيه الحقوق وأن الدولة غدت آلة عنف رهيبة تبتلع كل الحقوق. ولعل ما يبرر هذا التأويل هو الظرف الذي أحاط بظهور هذا الإعلان ونعنى بذلك نظام الدولة الأمة الذي عرفته أوروبا وما ارتكبه من جرائم في حق الإنسانية(النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا). ويكتسب هذا التأويل مصداقية أكثر بالنظر إلى الدور الاستفزازي الذي يلعبه هذا الإعلان في ظل التحالفات الدولية الراهنة فباسم حقوق الإنسان يمكن لأية دولة أن تكون عرضة لفرض العقوبات أو للتدخل الأجنبي والنيل من سيادتها بمجرد تصنيفها في قائمة الدولة المنتهكة لحقوق الإنسان. إن حقوق الإنسان لا تعدو أن تكون واحدة من أكذوبات عدة عمدت إليها الممارسة السياسية المعاصرة لتسويق مشاريع الهيمنة والاستفراد بالقرار وليست المواطنة سوى عبارة دعائية لاستمالة الجمهور بوعود كاذبة طالما كانت السياسة هي فن تحقيق المصالح وما السيادة المزعومة لدولة من الدول سوى قناع يختفي وراءه كم هائل من مراكز الضغط التي يعود إليها الاختيار الأخير في تحديد مستقبل شعب بأكمله أو أمّة بأكملها.
اختبارات للتفكير:
- هل من تعارض في علاقة المواطن بالدولة بين حق الحرية وواجب الطاعة؟
- هل من الضروري أن يكون للإنسان سلطان على الإنسان؟
- هل السيادة حقيقة أم وهم؟
للإفادة http://tafkir.yoo7.com منقول من موقع
لطفي زكري
(الحق- الديمقراطية- السلطة- العنف- المقاومة-المواطن العالمي).
مدخل عام:
يقترن الحديث عن الدّولة بمفارقة تجمع بين مقاربات فلسفية حديثة تجرّم الدّولة وتدعو لإزالتها أو تستشرف إمكانية اضمحلالها، وممارسة سياسية تدعم وجود الدّولة وتوسّع مجال نفوذها وتحذّر من مخاطر المساس بهيبتها، وهي مفارقة تدفع إلى السؤال عمّا إذا كان قيام الدّولة يمثل تأكيدا لسيادة الشّعب أم سلبا لها؟ وإذا كانت هذه السيادة في علاقة بحقيقة المواطنة، فهل تتحدد على جهة الطاعة التي يقتضيها القانون أم على جهة الخضوع والإكراه الذي تقتضيه القوة؟ وهل يتعلّق الأمر بدولة الشّعب أم بشعب الدّولة؟ أي كيف يمكن لسيادة الدولة أن لا تتناقض مع سيادة الشعب؟ وهل يقتضي الأمر ممارسة ديمقراطية تتيح للشعب حكم نفسه بنفسه لتجسيد قيم المواطنة أم مقاومة لكل أشكال السّلطة الاستبدادية التي تمارسها الدّولة؟
1/ السلطة و الدولة:
بعد التصنيف الذي قدمه مونتسكيو للسلطة في كتابه روح القوانين حيث ميز بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية، كنا نظن انّنا أصبحنا على بينة من حقيقة السلطة وتجلياتها، لكن لم نكد نخلص من تمثل هذا التمييز حتى يطالعنا ميشال فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة بأنّنا"ما زلنا نجهل ماهية السلطة" مؤكدا بذلك أن تعريف السلطة بالسيطرة أو النفوذ أو الحكم أو الطبقة الحاكمة...يزيد الأمر غموضا لأن هذه العبارات بحاجة إلى التعريف فضلا عن أن تكون أداة لتعريف غيرها. وعلى هذا الأساس يقول فوكو:"ليست نظرية الدولة ولا التحليل التقليدي لأجهزة الدولة بقادرين على استنفاد مجال ممارسة السلطة". فمعرفة السلطة تقتضي الاقتداء بالنّموذج الفيزيائي على غرار ما فعله كارل ماركس في تعريف الاستغلال عندما بيّن من يَستغل وأين يمضي الربح و الأيدي التي يمر بها وأين يستثمر من جديد أو ما فعله فرويد عندما بين آليات الحياة النفسية وما تقوم عليه من صراع بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع. بحيث يتعين على من يروم معرفة السلطة أن يبين من يمارسها وأين يمارسها وفي أي اتجاه يمارسها"فالسلطة تمارس حيثما يكون ثمة سلطة. فلا أحد يمتلكها". ويميز فوكو في ممارسة السلطة بين وجه ماكرفيزيائي يتجلى في مختلف أشكال السلطة السياسية التي تستأثر بها الدولة وآخر ميكروفيزيائي يشمل مختلف أوجه ممارسة السلطة داخل الحياة المدنية تحت مسميات مختلفة كالتربية(سلطة المعلم والأب) والعلاج(سلطة الطبيب والممرض) والإدارة(سلطة رئيس جريدة)...لكن إذا كان مجال السلطة يتجاوز حدود الدولة. فهل يعني ذلك أن حقيقة الدولة باتت واضحة بمجرد تمييزها عن السلطة؟ لا يبدو الأمر كذلك، فوجود الدّولة في حياة الإنسان يشكل مفارقة عبر عنها بيردو في قوله:"ما من أحد رأى الدّولة أبدا ومع ذلك أفي استطاعة أحد أن ينكر أن الدّولة واقع؟" فالدّولة ليست واقعة مادية يمكننا أن نشاهدها بل هي فكرة تختزل واقعا مكثفا من العناصر (أرض، شعب، علم، نشيد، قوانين، حكومة، مؤسسات،...) دون أن يستوفي أحدها أو بعضها أو حتى كلها مجتمعة حقيقة الدّولة."إن الدّولة ليست الأرض ولا السكان ولا مجموع القواعد الإلزامية، لكن من الأكيد أنّ كل هذه المعطيات ليست خارجة عن مجال الدّولة"بتعبير بيردو، فيحذو بذلك حذو هيغل في اعتباره الدّولة "حقيقة الفكرة الأخلاقية" تجد فيها تناقضات المجتمع المدني و مشكلاته حلا لها. غير أن هذه الأخلاقية المفرطة بدت مناقضة لطبيعة الدّولة ووظيفتها التاريخية كما بين ذلك أنقلس حين لاحظ أن الدّولة تاريخيا كانت دوما دولة أقوى الطبقات(دولة الأسياد، دولة النبلاء، دولة البورجوازية) أو آلة لصيانة مصالح طبقة على أخرى ولعل أميز ما يميز هذه الآلة هي سمة العنف وذلك من خلال تعاضد الأجهزة الإيديولوجية(الصحافة، المنابر الخطابية،...)والأجهزة القمعية(الجيش، الشرطة، الدّيوانة،...) في ممارسته ضد الأفراد و الجماعات على حد تعبير ألتوسير. وإذا كانت "جميع الدول قائمة على القوة" بعبارة تروتسكي فإن ما يميز الواحدة عن الأخرى هو مقدار استخدامها لها. لذلك نقول عن الديكتاتورية أنّها نظام عنف ليس لكونها تستخدم القوة بل لكونها تفرط في استخدامها، ونقول عن الديمقراطية نظام لاعنف ليس لكونها لا تستخدم القوة بل لكونها تستخدمها بشكل متعقل.
2/ الدّيمقراطية والسّيادة:
لا يثير تحديد مفهوم السيادة أو بيان مقوماتها إشكالا في نظام استبدادي يكون فيه صاحب السيادة إلها فانيا له من النفوذ والقوة ما يجعله مهيبا في النفوس وقادرا على صهر إرادات الأفراد في إرادة واحدة كما هو الحال لسيادة التنين أو الشخص الأوحد الذي يصنع من الأفراد رعايا خاضعين حسب هوبس، أما إذا تعلّق الأمر بنظام ديمقراطي فإنّ رسم حدود السيادة يغدو أمرا إشكاليا يزداد تعقيد بتعدد المقاربات الفلسفية السياسية لمفهوم الديمقراطية. فإذا تجاوزنا الدلالة اللغوية -التي تعطي لمفهوم الديمقراطية معنى حكم الشعب(Demos-Cratos)- إلى تأويلاتها الفلسفية أدركنا كم يبدو هذا المفهوم غائما ومغريا في آن. فقد اعتبر روسو الديمقراطية فكرة طوباوية لم توجد ولن توجد أبدا لأنّه من الخلف في نظره أن يتفرغ شعب بأكمله للنّظر في الشؤون العمومية، فالديمقراطية قد تناسب شعبا من الآلهة لا من البشر.
قد يبدو روسو محقا في هذه المقاربة لأنّ "الديمقراطيات التي عرفتها المدن القديمة كانت ديمقراطيات زائفة" كما يقول برغسون فهي تعطي لكل مواطن الحق في تشريع القوانين ولا تمنح النساء و الغرباء والعبيد صفة المواطنة ومن ثم تكون السيادة للمواطنين دون غيرهم من أفراد الشعب أو سكان المدينة، وهذا يعني أن سيادة الدولة ليست سيادة الشعب. لكن هذا الزيف لا يبرر تصنيف الديمقراطية في قائمة الأفكار الطوباوية كما أراد لها روسو، ولا ينفي إمكانية الحديث عن ديمقراطية فعلية بين البشر طالما أن غاية النظام الديمقراطي هي تحرير البشر من سيطرة الشهوة العمياء والإبقاء عليهم في حدود العقل لأن الإنسان الحر هو الذي يختار بمحض إرادته أن يعيش بهداية العقل وحده أمّا الذي تسيطر عليه شهواته فيكون في أحطّ درجات العبودية. وبهذا المعنى نستطيع القول مع برغسون:" أنّ الإنسانية لم تصل إلى الديمقراطية إلاّ في زمن متأخر" أي حينما وقع تعريف المواطن على أنّه مشرع ومواطن في نفس الوقت أو حينما اعتبر الشعب هو صاحب السيادة.
لكن هل الديمقراطية قوة إبداعية قادرة على نحر التنين الكلياني كما يزعم لوفور؟ وهل تكفي أن تكون أساسا لسيادة الشعب؟ وهل تؤسس لسيادة فعلية وحقيقة أم لسيادة كاذبة ووهمية؟
يستبعد آلان تعريف الديمقراطية بالمساواة أو بالاقتراع لأنّه في نظره غياب حرية التفكير في نظام استبدادي هو ضرب من المساواة كم أن انتخاب طاغية بالاقتراع العام لا يجعله أقل طغيانا، فجوهر الديمقراطية يكمن في ممارسة الشعب لسيادته من خلال رقابة تسيير الأمور بناء على المصلحة العامة وخلع الحكام والمختصين إذا اقتضى الأمر حتى وإن أدى ذلك إلى الثورة وإقامة المتاريس. يبدو إذن أن السيادة لا تلغي الصراع بل تتحول إلى موضوع له ومن ثم ينشأ السؤال عمّا إذا كانت مقاومة الاستبداد حقا أم عصيانا مدنيا؟
3/ المواطنة وحقوق الإنسان:
تجعل التشريعات الفلسفية السياسية من المجتمع المدني فضاء يسوده القانون على أساس جدلية الحق والواجب بحيث يكون الفرد في هذا المجتمع مواطنا له من الحقوق بقدر ما عليه من الواجبات التي تؤمنها له أو تفرضها عليه الدولة العقلانية بعد أن نجحت في تحييد الأهواء والميولات اللاعقلانية كما يبيّن ذلك قول لوك:"واجب على الحاكم أن يؤمّن للشعب كلّه ولكلّ فرد على حدة- بواسطة قوانين مفروضة بالتّساوي على الجميع- المحافظة الجيّدة والامتلاك لكلّ الأشياء التي تخصّ الحياة"، ولما كانت الدساتير هي المرجعيات التي تبين نظام الحق وتحدد دور السلطات وتقرر ما للأفراد من حريات وحقوق وواجبات، فإنّ أي فعل يتجاوز حدود النصوص التشريعية يعد خرقا يستوجب العقاب والردع. وبما أنّه "لايمكن فعليا أن يتضمن الدستور أي بند يسمح لسلطة أن تقاوم القائد الأعلى للدولة في صورة خرقه للقوانين التشريعية" بتعبير كانط فإنّه لا توجد مقاومة للشعب ضد الحاكم تكتسب صفة الشرعية بل إن أبسط محاولة من هذا القبيل تعد خيانة عظمى تستحق عقوبة الإعدام. فالمقاومة بهذا المعنى ليست أكثر من اختراق للحصانة ونيل من أمن الدولة وسيادتها ممثلة في شخص الحاكم.
لكن هل تستحق المواطنة كل هذه التضحية؟ وإذا كان صاحب السيادة ينزع دوما لابتزاز السّيادة بتعبير ريكور فهل قدر المواطنين أن يبقوا ضحايا لهذا الابتزاز؟ إنّنا في الواقع نكون أمام صورة للمواطنة المفرغة من كل مضمون وصورة للسيادة الخالية من كل أصالة أو تأصيل سياسي. لأنّ خرق القوانين التشريعية من قبل الحاكم يعد نيلا من السيادة قبل أن يكون تعديا على المواطنة، نيل من سيادة الشعب الذي خول له تلك الصلاحيات السياسية. وعلى هذا الأساس أكّد جون لوك شرعية بل وجوب مقاومة كل من يتجاوز سلطة القانون أو يتصرف دون تفويض شرعي، وتعظم الجريمة في نظره بقدر رفعة الوظيفة. وإذا كان الطغيان يبتدئ حيث تنتهي سلطة القانون فإن شرعية المقاومة تبدأ حيث يبدأ الطغيان ولا تحتاج إلى نص دستوري يعترف لها بتلك الشرعية.
لذلك يبدو أنّه رغم ما شهدته الممارسة السياسية من تطورات منذ عصر الأنوار فإنّ مفهوم الحقوق الإنسانية بقي مفهوما إشكاليا، تعكسه ظواهر الاحتجاج المتزايد من جهة والمراجعات النقدية من جهة أخرى. فقد اعتبر كارل ماركس حقوق الإنسان في دستور 1793 كذبة بورجوازية تهدف إلى طمس الاستغلال الذي تمارسه الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج وتدعمها فيه الدولة "الديمقراطية" بأجهزتها القمعية والإيديولوجية. فالبروليتاريا في نظره هي أول ضحايا هذه الحقوق الغائمة والمخادعة لأنّها ترسم صورة يكون فيها"الإنسان الحقيقي في الواقع ليس الإنسان بما هو مواطن وإنّما الإنسان بما هو بورجوازي" بتعبير ماركس.
كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يجعل منه الخطاب السياسي المعاصر عنوان تحضر ومدنية تدعى جميع الدول للالتزام به حتى تكتسب صفة الدولة الديمقراطية الضامنة لحقوق الإنسان، يجد فيه حنّا آرنت شهادة تاريخية على أن المجتمع المدني استحال إلى فضاء تعدم فيه الحقوق وأن الدولة غدت آلة عنف رهيبة تبتلع كل الحقوق. ولعل ما يبرر هذا التأويل هو الظرف الذي أحاط بظهور هذا الإعلان ونعنى بذلك نظام الدولة الأمة الذي عرفته أوروبا وما ارتكبه من جرائم في حق الإنسانية(النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا). ويكتسب هذا التأويل مصداقية أكثر بالنظر إلى الدور الاستفزازي الذي يلعبه هذا الإعلان في ظل التحالفات الدولية الراهنة فباسم حقوق الإنسان يمكن لأية دولة أن تكون عرضة لفرض العقوبات أو للتدخل الأجنبي والنيل من سيادتها بمجرد تصنيفها في قائمة الدولة المنتهكة لحقوق الإنسان. إن حقوق الإنسان لا تعدو أن تكون واحدة من أكذوبات عدة عمدت إليها الممارسة السياسية المعاصرة لتسويق مشاريع الهيمنة والاستفراد بالقرار وليست المواطنة سوى عبارة دعائية لاستمالة الجمهور بوعود كاذبة طالما كانت السياسة هي فن تحقيق المصالح وما السيادة المزعومة لدولة من الدول سوى قناع يختفي وراءه كم هائل من مراكز الضغط التي يعود إليها الاختيار الأخير في تحديد مستقبل شعب بأكمله أو أمّة بأكملها.
اختبارات للتفكير:
- هل من تعارض في علاقة المواطن بالدولة بين حق الحرية وواجب الطاعة؟
- هل من الضروري أن يكون للإنسان سلطان على الإنسان؟
- هل السيادة حقيقة أم وهم؟
للإفادة http://tafkir.yoo7.com منقول من موقع
مواضيع مماثلة
» تلخيص مسألة «الدولة : السيادة و المواطنة»
» الدولة : السيادة والمواطنة
» المواطنة والعدالة السياسية
» مفهوم السيادة بين النظرية والتطبيق
» السيادة والمواطنة
» الدولة : السيادة والمواطنة
» المواطنة والعدالة السياسية
» مفهوم السيادة بين النظرية والتطبيق
» السيادة والمواطنة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem
» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني
» لست أدري! لست أدري!
27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني
» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني
» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني
» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني