الفلسفة في الباكالوريا
مر

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

الفلسفة في الباكالوريا
مر
الفلسفة في الباكالوريا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

المواضيع الأخيرة
» العمل: النجاعة والعدالة
الفهم والتأويل والحجاج Empty2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem

» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
الفهم والتأويل والحجاج Empty27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني

» لست أدري! لست أدري!
الفهم والتأويل والحجاج Empty27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني

» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
الفهم والتأويل والحجاج Empty5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني

» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
الفهم والتأويل والحجاج Empty5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني

» شواهد :الانظمة الرمزية
الفهم والتأويل والحجاج Empty5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني

» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
الفهم والتأويل والحجاج Empty5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني

» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
الفهم والتأويل والحجاج Empty5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني

» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
الفهم والتأويل والحجاج Empty5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني

التبادل الاعلاني
احداث منتدى مجاني

الفهم والتأويل والحجاج

اذهب الى الأسفل

الفهم والتأويل والحجاج Empty الفهم والتأويل والحجاج

مُساهمة  احمد حرشاني 31st يوليو 2010, 10:02


الفهم والتأويل والحجاج
عز العرب لحكيم بناني
تقديم:
من بين الأمراض الفلسفية التي يعاني منها الفكر المعاصر نجد إهمال مستوى الفهم داخل صيرورة التأويل والتفسير. فكثيرا ما نتذرع بالقراءة لتجنب مؤونة التفكير؛ كما نلجأ إلى التفسير لتجنب أعباء الفهم. والهدف هوأن نفسر دون أن نفهم وأن نقرأ دون أن نفكر وأن نحكم دون أن نتروى. وقد استشرى هذا الإهمال عن قصد، بدعوى أن مستوى الفهم لا يلتزم علميا بالضوابط العلمية المفروضة على التأويل، وبدعوى أن دعاة الفهم ينتمون إلى الإيديولوجية المحافظة الموروثة عن الرومانسية الألمانية.
بالفعل، وجه الرومانسيون نقدا لاذعا إلى فلسفة الأنوار، كما دافعوا باستماتة عن الخيال بدل العقل وعن المشاعر بدل المقولات وعن أحلام العصور الوسطى المسيحية بدل الحداثة اليونانية. بالمقابل، تبين أن هاجس الموضوعية في العلوم الإنسانية يتطلب الرجوع إلى مناهج تماثل في دقتها وقدرتها على التنبؤ مناهج علوم الطبيعة. تطمح هذه المناهج إلى تحصيل قواعد تركيبية ودلالية تفرض بحد ذاتها خطوات التأويل واستخلاص النتائج، دون الرجوع إلى تقويم ذاتي يسقط في آفات التحكم.
من نافلة القول إن الكلام لا يفضي إلى تحصيل الفائدة إلا إذا ما وافقت بنية اللفظ بنية المعنى. كما نعتبر أن الربط بين بنية اللفظ وبنية المعنى يتحقق بفضل السياق التركيبي والمستوى الدلالي، أومن خلال مراعاة ظروف التداول ومقام التخاطب. وعليه، كان هاجس الانتقال من الألفاظ إلى المعاني – من منظور تحليلي يفصل بينهما منذ البدء عن غير وجه حق- يستغيث بجملة من العوامل السياقية والمقامية التي توجه الكلام في اتجاه تأويل ملزم. كما تم افتراض جملة من القواعد التركيبية والدلالية والتداولية التي تقيد إمكانات التأويل المفتوحة وتسمح بالبت في الدلالة الحرفية أوفي دلالة النص. وقد ذهب فقهاء اللغة شأوا بعيدا في استقصاء قواعد الربط بين الملفوظ والمفهوم والمعقول، من خلال فرض وجود آليات منطقية ضمنية تربط بنية الكلام بمقتضى الحال. كما تفننوا في التأصيل الدلالي للمقاصد من خلال فرض وجود قواعد تتحكم في صيرورة الاقتضاء والإضمار والحذف وفي وجوه الاستعارة والتشبيه والمبالغة.
يدخل هذا الفحص اللغوي للتأويل في صنف الدلاليات التأويلية بصورة عامة؛ وهو تأويل يبتغي الوصول إلى القواعد المنطقية التي تقيد معنى الكلام في ذهن المتكلم وتوجه إلى المعنى المطلوب في ذهن المتلقي. ونعني بالتأويل في هذا المقام فهم الجملة الخبرية، كما يحيل عليه اللفظ اليوناني المنسوب إلى أرسطو في عنوان الكتاب الثاني من المتن المنطقي: peri hermeneia: يعني التأويل في هذه الحدود معرفة القواعد المنطقية التي تهدي إلى التعرف على صدق القضايا وكذبها.
لكن فن التأويل- أو الهرمينوطيقا في الاصطلاح الأجنبي- يتساءل عن إمكان القيام باستقراء تام لمجمل السياقات والمقامات المتحكمة في التأويل؛ كما يتساءل إن كانت القواعد المنطقية تمثل جسرا خفيا أو لغة ضمنية يمر المتلقي عبرها لزوما لفهم مراد المتكلم. معنى ذلك، هل يكفي ضبط القواعد لفهم المراد؟
لا غرو في أن هذه القواعد، بالرغم من أنها مجرد فروض ومسلمات إجرائية، قد تنجح إلى حد بعيد في مساعدة المتلقي على تحصيل المعنى المطلوب، لكنها لا تعوض صيرورة التأويل التي يقوم بها المتلقي بصورة شخصية. لا يحدث التأويل خارج أي حيز ممكن. كما أن معرفة القواعد لا تعني أن صيرورة التأويل والتلقي تخضع ضرورة لمثل هذه القواعد. وعليه، لا بد من تمييز المذهب الذي يكتفي في التأويل بوجود قواعد فوقية نطبقها بصرامة ( في مدرسة هابرماس وشومسكي وسورل) عن التوجه الذي لا يعتبر القواعد كافية لتأويل الكلام والنصوص بوجه عام. ما هوالسند الذي يعتمده أصحاب هذا التوجه في ذلك؟
تتميز اللغة في جوهرها، وفي كل اللغات الطبيعية، بظاهرة الغموض والإبهام. ونعني بالإبهام انعدام معايير دلالية واضحة لتحديد التخوم الفاصلة بين مفهومين متجاورين في الشبكة الدلالية، كما هو الحال في ثنائيات طويل/قصير؛ هرول/مشى؛نحيف/غليظ وفي بعض المفردات، مثل 'حوالي'. لما نقول: "جاء حوالي عشرة أشخاص إلى البيت" قد يكون العدد المطلوب أكبر أو أقل من العدد المذكور، دون أن نمتلك قواعد تحدد العدد بالضبط؛ كما أن الرجل الطويل في المغرب قد يكون قصيرا في الدانمارك، دون أن يعني ذلك أن الجملة متناقضة. ولذلك، لا يعتبر الإبهام والغموض والالتباس ظواهر سلبية في اللغات الطبيعية، ما دامت تستحث همة المتلقي على تبين المعنى المطلوب داخل صيرورة تواصل ممتدة الجسور بين أعضاء الجماعة التأويلية.
كذلك لا ينحصر فهم الكلام في الجملة الخبرية التي نتحقق من شروط صدقها في العالم الخارجي. فالجملة الإنشائية والجمل المحكومة بأفعال القلوب وبالموجهات المنطقية داخل العوالم الممكنة تخرج التأويل من دلالة القطع واليقين وتدخله في باب الظن. نكتشف أن التأويل يخضع لقصد المتكلم ومعرفة ما يقصده من معاني، هل تتمتع بدلالة العموم أم بدلالة الخصوص. جملة القول إننا نحتاج إلى معرفة ظاهراتية بطرق تكون المعاني داخل قصد المتكلم وداخل فهمه المسبق لذاته ولعالمه.
علاوة على ذلك، لا يكتفي إنتاج الكلام وتأويله بالخضوع للدورة الكلامية ؛ وهي تفيد في ذهن دوسوسير أن المتكلم ينتقل من تصور مفاهيم ذهنية إلى ترجمتها إلى أصوات، ثم ينتقل السامع من إدراك الأصوات إلى ترجمتها إلى نفس المفاهيم الذهنية الأصلية، بناء على وجود تماثل بين ما يقوم به المتكلم وما يقوم به السامع. آفة هذا التصور تفيد أن الفهم لا ينتج عن تطبيق قياسات مماثلة بين ما يحدث في ذهن المرسل وما يحدث في ذهن المرسل إليه. فالفهم ليس نتيجة تطبيق قواعد، بل يرتبط بالقدرة على الاستيعاب واستثمار المخزون المعرفي والثقافي في تقويم المعنى المطلوب. يمر الفهم عبر قنطرة الذات من أجل إعادة تشكيل معالم الدلالة وفق الأفق الذي يرنو إليه المتلقي. أما إذا ما اعتبرنا الفهم محصلة تطبيق قواعد مخصوصة، لن يختلف الفهم آنذاك عن عملية الترجمة الآلية.
إذا لم يكن إنتاج الكلام ترجمة آلية من لغة ذهنية إلى لغة صوتية، فهويخلق واقعا جديدا في الكتابة الأدبية والأعمال الفلسفية. ليس الكلام مجرد رداء خارجي للمعاني الموجودة بصورة غير محددة في الذهن وقد يصبح أبلغ تأثيرا في النفس من دلالة المفهوم وأكثر وقعا من الناحية العاطفية والجمالية. تتداخل الأبعاد المنطقية والبلاغية والجمالية من أجل الانتقال بالتأويل من واجهته الدلالية المنطقية إلى واجهة جمالية تراعي مختلف الواجهات التي ينفتح عليها حقل الجمال. فهو انتقال من نقد العقل المحض لدى كانط إلى نقد ملكة الحكم.
وهكذا، سنحاول التركيز في هذا المقال على أولوية الفهم داخل صيرورة التأويل، على خلاف ما نجده في بعض الاتجاهات. بحكم رسوخ عقلية القواعد في الأذهان، يكتفي بعض فلاسفة الهرمينوطيقا بالاهتمام بواجهة التأويل وهم يظنون عن غير حق أنهم يقصدون الفهم. والسبب في ذلك هو أن سهولة وضع قواعد موضوعية خاصة بالتأويل تغني عن طرح الإشكاليات الفلسفية المتعلقة بالفهم. كما ظهرت خصوصيات داخل مدارس التأويل عامة: فالتمييز بين الهرمينوطيقا الفلسفية والهرمينوطيقا الأدبية فرضت فتح الفهم على واجهة النصوص بدل فتحه على واجهة التفاهم. كما ظهر التمييز بين الهرمينوطيقا العامة والحقول التأويلية الخاصة، مثل فنون التأويل الديني والأدبي والقانوني والتاريخي علاوة على فن التأويل الفلسفي. وإذا كان من الصعب الإحاطة بكل هذه المجالات الجزئية الخاصة بتطبيق فن التأويل، سنركز على الخصائص المشتركة في المرجعية الفلسفية العامة.
إذا كان الهدف الأول هو تحديد منزلة الفهم عامة داخل الهرمينوطيقا، سننتقل بعد ذلك إلى تحديد منزلة التأويل، أي منزلة الفهم الجمالي والفهم التاريخي، من خلال تحليل بعض النصوص الكبرى في فلسفة التأويل في ضوء المصادر الألمانية والمراجع الأجنبية والعربية وما إلى ذلك. وعليه، سنحاول ضبط الاتجاهات الكبرى، مسترشدين ببعض الخطوط العريضة التي توجه صيرورة التأويل مع هيدغر وياوس وغادامر، على سبيل التمثيل لا الحصر. كما سنفحص بعض المظاهر الأدبية التي اتخذت صورة فلسفية متميزة في المدرسة الرومانسية المبكرة في أعقاب الثورة على كانط، كما تجلى ذلك بالخصوص مع نوفاليس وهولدرلين وغيرهما.
ولذلك، نرجوأن يحالفنا الحظ في عرض الأطروحة الأساس في هذا المقال، وهي أن الفهم عموما، بما فيه الفهم الجمالي والفهم التاريخي، يتجاوز مجرد تطبيق قواعد محددة. وقد تسهم نتائج التمييز بين وجوه الفهم والتأويل في مراجعة القواعد المستثمرة في الفهم الدلالي وفي مراجعة نقدية لطبيعة العلاقة بين المبنى والمعنى.
الفهم: ضبط المصطلح الأجنبي Comprendre, Verstehen
لقد أصبح مصطلح Verstehen ، ويعني الفهم، مصطلحا ألمانيا مألوفا في اللغات الأجنبية لأنه يحيل على خصوصية فن التأويل في الهرمينوطيقا. وقد قام ياوس بتقديم الأصول الاشتقاقية للمصطلحين الألماني والفرنسي . يسمح اشتقاق فعل Verstehen في اللغة اللاتينية واللغة الألمانية بالتعرف على وظيفتين أساسيتين: يتعرف المصدر اللاتيني intelligere (inter-legere) على معنى الفهم بطريقة تحليلية، لأن الاشتقاق يفيد القراءة بين السطور وتمييز الخصائص. مقابل الأصل اللاتيني، يحيل Grimm على المفردة الألمانية القديمة instân : أن تنتصب واقفا داخل شيء وأن تركز رجلك وأن تكون في بيتك؛ وهو يدرك الدلالة بطريقة تركيبية. وقد افترض ياوس أن حدثا لغويا تاريخيا جعل الدلالة تنتقل من المستوى الحسي للقيام ( stân) إلى الدلالة العقلية للفهم، وهي تعني الإحاطة بالشيء والسيطرة عليه، وهو المعنى الذي يتفق مع العبارة اللاتينية comprehendere أومع اللفظ الفرنسي comprendre .
وقد أحدث ياوس فيما بعد تقابلا بين الفعل الدال على الفاعلية في comprendre والفعل اللغوي الدال على الانفعال في entendre، بالرغم من أن المفردتين تحيلان معا على معنى الفهم. وفعل الفهم comprendre الذي يعني في ذات الوقت الإحاطة والإدراك معا، كما هو الحال في الأصل اللاتيني، نجده حاضرا في معجم Le Robert في المقطع التالي:
Roseau pensant...par l espace, l univers me comprend et m’engloutit "comme un point; par la pensée je le comprends »
ويظهر الفهم في صورة فعل إرادي داخل النص التاريخي، مقارنة له مع الصيغة السلبية الموجودة في فعل entendre:
« Que sert, dit Salomon, toutes choses entendre,/ Rechercher la nature et la vouloir comprendre,/ Vouloir parler de tout, et toutes choses. » (Nr. 9)
يبرز تاريخ الأفكار، حسب ياوس، أن عبارتي الفهم comprendre والاستماع entendre في اللغة الفرنسية يستعملان على نحو متناوب داخل الحوار، وإن كان التمييز الدقيق الموجود بين الصيغة الإيجابية عند الحديث الفهم والصيغة السلبية عند الحديث عن الاستماع لا يظهر بوضوح في سائر حالات الاستعمال، ما دام أن صيرورة الفهم داخل الحوار تفترض أن أطراف الحوار يغيرون باستمرار مواقع الفهم والاستماع. يربط ياوس بوضوح بين الفهم والاستماع وصيرورة الحجاج حينما يبرز أن التناوب المستمر في احتلال مواقع الفهم والاستماع صفة تميز وضعية التواصل القائمة على التكافؤ؛ ولذلك تختل علاقة التكافؤ حينما يصر أحد أطراف الحوار على احتلال موقع الفهم الفاعل بينما يفرض على المخاطب احتلال موقع الفهم السلبي أو موقع الاستماع.
علاوة على المعنى السلبي والمعنى الإيجابي الذي يميز الاستماع عن الفهم، يتميز الأول كذلك باستيعاب المعنى بصورة كاملة وتركيبية، بينما يتطلب الفهم اتباع خطوات تدريجية بصورة تحليلية. وتظهر هذه الصورة المتدرجة في الفهم في مقطع موليير:
« Cette lenteur à comprendre …est la marque d’ un bon jugement »
أوفي سياق أندري جيد:
Ce n' est pas du tout qu' elle soit incapable de comprendre; mais elle veut trop vite avoir compris.
نكتشف أن المصدر compréhension يحتمل المعنى التحليلي الذي يفيد القدرة على الاستيعاب وإدراك الأشياء بطريقة متدرجة بواسطة الفكر. نجد هذا المعنى التحليلي في عبارة بوس:
Avec cette prodigieuse compréhension de tout le détail et du plan universel de la guerre, on le voit toujours attentif à ce qui survient.
إلى جانب هذه السمة المنطقية، نجد أن المصدر يحيل على معنى آخر لا يتصل بالتحليل المنطقي لأقسام الكلام، كما يظهر في السياق التالي:
L' indulgence est la compréhension du mal. (Le Robert Nr. 3)
Etre plein de compréhension à l égard des autres. Avoir de la compréhension pour les autres. Manquer de compréhension. (Le Robert)
يعني الفهم في السياق الأخير القدرة على تفهم الغير أو الطرف الآخر من خلال إنجاز فعل لغوي يقوم به الفاهم لصالح المتلقي؛ ويستفيد منه الطرف الآخر لمبررات أخلاقية أو دينية أو عاطفية: (une femme qui) m' aime et me comprend.
إلى جانب الفهم والتفهم نجد معنى التفاهم، وهو يبرز عملية تفاهم متبادل أو يبرز ثمرة العملية؛ وهو المعنى الذي يفيده اللفظ الألماني « einander verstehen » أواللفظ الفرنسي « se comprendre l' un l' autre » أو مفردة « s' entendre » كما يظهر في عبارة جيد:
« A force de silence nous sommes à peu près parvenus à nous entendre » Nr. 83 يحمل التفاهم سمة الاستحسان أو التزكية أو قبول الآخر، كما نجد في العبارة التالية:
« Vous croyez bien que je ne veux point m' entendre avec vos ennemis »
تظهر هذه الفروق الدقيقة في مصطلح الفهم مدى العلاقات الموجودة بين الفهم والتفهم والتفاهم، وهي معطيات لا بد من أخذها بعين الاعتبار أثناء معالجة إشكاليات الفهم داخل مبحث الهرمينوطيقا.
الفهم ومنزلته النظرية:
ما هي طبيعة إشكالية الفهم؟ هل هي مشكلة سيكولوجية؟ هل هي مشكلة منطقية؟ أم هي بالأساس مشكلة فلسفية؟ هذه الأسئلة تخص طبيعة الموضوع. نعتقد أننا قادرون على توضيح آليات الفهم بالرجوع إلى العمليات السيكولوجية التي تتحكم فيه؛ كما نعتقد من جهة ثانية أنه من الواجب تمييز الفهم السليم عن الفهم غير السليم، معتمدين على بعض القواعد المنطقية التي تربط بين القول والمقول وبين الشكل والمضمون. لكننا قد نعتبر من جهة ثالثة أنه من الواجب في البداية ضبط منزلة الفهم : ما هي الأشياء التي تخضع له بصورة يسيرة وما هي الأشياء التي تحتاج إلى مجهود إضافي وما هي الأشياء التي لا ترقى إلى عتبة الفهم؟
التساؤل عن الآليات السيكولوجية يدخل الفهم في دائرة العلوم المعرفية التي تفترض وجود صيرورة ذهنية تقرر كيف يتحقق الفهم. لكنه من الصعب التأكد إن كانت صيرورة الفهم تخضع بالفعل لمثل هذه العمليات أوإن كان بالإمكان محاكاة عملية الفهم كما يتحقق في الذهن.
التساؤل عن الفهم السليم وغير السليم يقرب الفهم من مقولة العقل في فلسفة الأنوار، ويوحي بوجود مبادئ قبلية معيارية ومجردة عن الذوات الفردية. لكن وجود مثل هذه الضوابط الموضوعية يتعارض مع أبسط ملامح الفهم، وهو أنه عملية ذاتية تختلف قوة وضعفا من فرد إلى فرد، بينما نفترض أن المبادئ العقلية أعدل الأشياء قسمة بين الناس.
التساؤل الثالث ذوطبيعة وجودية لأنه يخص طبيعة الكائنات التي ترقى إلى عتبة الفهم.
من الواضح أنه من الأفضل في البداية توضيح منزلة الفهم قبل ضبط العمليات التي تؤدي إليه.ولذلك، نطرح السؤال من جديد: هل الظواهر التي نفهمها بصورة مباشرة هي موضوع علم الفهم؟ أم أن سؤال الفهم لا يطرح إلا عند اكتشاف حدود الفهم؟ عندما نصطدم بحدود الفهم، هل يعني ذلك أن إشكاليات الفهم قد انتهت أم أنها لم تبدأ بعد؟. هناك من يدعي أنه يفهم ظاهرة ما عندما يجد لها تفسيرا معقولا، أي تفسيرا يقبله العقل السليم أوتعليلا يتفق مع الظواهر الطبيعية المألوفة أومع قوانين الطبيعة المعروفة أومع الأمور التي تجري مجرى العادة. يصبح معنى الفهم مرتبطا في هذا السياق بالتفسير العلمي أوبالتعليل العقلي أوبالرجوع إلى الحس السليم. لكن الفهم يضيق في هذا الإطار موضوع الفهم إلى حد الإجحاف ويسلم عن غير حق بأن التفسير هوالطريق المؤدية إلى الفهم. وهكذا، نحاول من منظور العلوم الاجتماعية تفسير الظواهر الإنسانية والحياة النفسية الشخصية والجماعية، كما نحاول فهم الظروف التاريخية والحياة الاجتماعية. إن معنى الفهم الذي أملته فلسفة الأنوار ينتقل خلسة من الفهم إلى التفسير ويصدر حكم قيمة على كل الظواهر التي لا ترقى إلى عتبة الفهم، معتبرا أن كل ما لا يرقى إلى عتبة الفهم يدخل في دائرة اللامعقول.
الفهم وجماليات العبقرية:
بالمقابل، قد نفض العلاقة بين الفهم والتفسير، من أجل التركيز على الفهم في حد ذاته. نعتبر الفهم طريقة جديدة في معرفة الآخر. يقترن الفهم في هذا المنحى بالمشاركة الوجدانية في حياة الآخر، عند محاولة دخول عوالمه الباطنية، دون اللجوء بسذاجة إلى منظومة تفسيرية فوقية. يظهر هذا الفهم بوضوح حينما نحس بمشاعر الآخرين ونتفهم طريقة سلوكهم. فالفهم يتحقق بدخول عالم الآخر والإحساس بأحاسيسه. يدخل هذا التصور الخاص بالفهم في إطار ما يصطلح عليه في الرومانسية بجماليات العبقرية Esthétique du génie. يتحقق هذا الفهم بصورة خاصة في الأعمال الأدبية بأن المبدع ينتج أعماله الإبداعية بصورة لا شعورية في الغالب. ولذلك فإن مهمة القارئ الناقد هي أن يفهم المبدع أفضل مما فهم المبدع نفسه. وقد تكرر هذا المصطلح بقوة داخل الكتابات الفلسفية والنقدية. ومع ذلك، فإنه من الصعوبة القول بنجاح المشاركة الوجدانية دون تحويل الفهم إلى إسقاط سيكولوجي عديم الفائدة أثناء تأويل النصوص. يتحول الفهم آنذاك إلى عملية سيكولوجية وإلى أسلوب من أساليب القراءة العاشقة التي تخل بمستلزمات الموضوعية العلمية في التأويل. وقد قام بول ريكور بنقد النزعة السيكولوجية التي يعتبر أن شلايرماخر وديلتاي قد سقطا فيها من خلال التمييز الواضح بين سيكولوجية الفهم ومنطق التأويل، معتبرا أن الأولى ذات طبيعة ذاتية معرفية، بينما يعتبر الثاني ذا طبيعة أنطولوجية. قد يفشل الفهم في صورة المشاركة الوجدانية كما يرى كارل أوتوآبل من خلال محاولات المطابقة الهرمينوطيقية، ولا سيما إذا ما تعلق الأمر بثقافات تنتمي لعصور غابرة. ولهذا السبب بالضبط، لا يكفي لنجاح الفهم- هذا إذا ما نجحنا بالفعل في فهم كاتب أفضل مما فهم الكاتب نفسه – أن نحيا خبراته الباطنية، بل إذا ما قمنا بالمعنى الهيغيلي بتجاوز الكاتب فكريا وتجاوز فهمه لعالمه ولذاته" أن تفهم الكاتب داخل جماليات العبقرية، معناه أن يصبح الفهم بمثابة إعادة إنتاج واعية للصيرورة التي تحققت بصورة غير واعية لدى المؤلف. فالإنتاج اللاواعي يتحول إلى مادة إنتاج جديدة أثناء الفهم. ويعتبر غادامر أن هذا التصور للفهم هوالذي يطبقه شلايرماخر على نظريته العامة في الهرمينوطيقا. تحقق نظرية الإنتاج العبقري إنجازا نظريا هاما في ذهن غادامر عندما تلغي الفرق الموجود بين المؤول والمؤلف. وهي تبرر التسوية المفترضة بين المؤلف والمؤول عندما تعتبر أن الفكرة اللاواعية لدى المؤلف هي التي يجب أن تفهم. لكن ياوس يؤكد من جانبه أن تصور جماليات العبقرية مجرد ادعاء محض، ما دام أن القراء العاديين غالبا ما ينتجون قراءات نمطية ومتماثلة فيما بينها، دون أن يبذلوا جهدا في الخروج عن المعايير الموروثة .وحتى لو اعتبرنا أن الفهم إعادة إنتاج واعية لصيرورة إنتاج لا واعية، فإن الأمر يتعلق هنا بتأويل النصوص ولا يتعلق بالفهم في صورته الأولية، كفهم المخاطب وفهم معنى العبارات البسيطة وفهم الحركات الجسدية المعتادة، وما إلى ذلك. إن الصعوبات التي تعترض التأويل مرتبطة بفهم مراد المتكلم من الخطاب. لكن بينما يرى ديلتاي أن هذه الصعوبات هي التي تبرر وجود مبحث التأويل، يعتبر آبل بالمقابل أنها تبرز حدود جماليات العبقرية. والفرق لدى ديلتاي بين إشكاليات الفهم وإشكاليات التأويل يرتبط بالفرق الموجود بين الفهم البسيط والفهم العميق.
لا نستطيع إيجاد تعريف للفهم في حد ذاته، ما دام أن أسلوب وجود الإنسان مرتبط في وجوده بوجود الفهم. فالإنسان كائن فاهم في جوهره. لكن ربط وجود الإنسان بوجود الفهم من الزاوية الوجودية يفرض تعريف الفهم بالسلب:
إن الفهم ليس انتقالا من المعلول إلى العلة ومن المفعول إلى الفاعل أومن الخارج إلى الباطن. فهو ليس انتقالا متدرجا في الزمان من ملاحظة ظواهر خارجية إلى فهم ظواهر باطنية، مثل أن نفهم العبارة اللغوية أولا ثم ننتقل بعد ذلك إلى فهم مراد المتكلم، أو مثل أن نلاحظ ابتسامة المتكلم قبل ربطها بحالات ذهنية باطنية يفصح عنها بهذه الطريقة. وبوجه عام، يعتمد تصور الفهم في صورة استدلال من الخارج على الداخل على المسلمة التالية، كما أبرز شبرانغر Spranger ذلك: "جرت العادة على تعريف الفهم باعتباره تأويلا ذهنيا لمعطيات مادية، بناء على قياس مماثلة Analogie مع اقتران حالاتنا الذهنية ذاتها مع الصور المادية التي يتخذها التعبير عنها أو مع الصور المادية الناجمة عنها. وعليه، ينبني الفهم على اقتضاء ضمني يخص معرفة الاقتران المطرد بين الحالات النفسية والتعبير المادي عنها." بناء على هذه المسلمة، تنبني الصلة الموجودة بين أشكال التعبير الخارجية والمشاعر الباطنية لدى الآخرين على الصلة الموجودة بين التعبير الخارجي والمشاعر التي أحس بها. لوكان هذا التصور صحيحا، لكان يعني أن الفهم هو إسقاط الخبرات الذاتية الباطنية على أفعال الآخرين. أفهم الطريقة التي يربط بها المخاطب بين اللفظ والمعنى بناء على الطريقة التي أربط من خلالها اللفظ بالمعنى. فالفهم هو التعرف على صيرورة سيكوفيزيائية. تظهر صعوبة ربط صيرورة الفهم بصيرورة الإسقاط عندما ننتقل إلى الفهم التاريخي: كيف يستثمر المؤرخ صيرورة الفهم؟ " في البداية يجد المؤرخ أمامه مجموعة من المعطيات المنتمية إلى العالم المادي الموضوعي. و في المرحلة الثانية، أي عندما يبادر إلى إعادة صياغة صلات الوصل الذهنية بهذه المعطيات، وهي معطيات موجودة مع ذلك في خبايا النفوس، سيغترف آنذاك من مصدر غير موثوق. وغالبا ما نميل إلى اعتبار أن هذا المصدر هو مجموع الخبرات النفسية الموجودة في ذهن الشخص الناظر. لكن هذا التصور غير صحيح بالمعنى الدقيق للكلمة. إذ إن الخبرة المعيشة الواقعية في ذهن الناظر ذاته تظل منفصلة للأبد عن المضامين الذهنية الأجنبية، ولاسيما إذا كان يتعلق الأمر بفهم أشخاص ينتمون إلى الماضي."
إذا لم يكن الفهم قائما على علاقة قياس أو تناظر أو إسقاط، فهو يفيد في جوهره غياب انتقال متدرج من الظاهر إلى الباطن. يميز ديلتاي في هذا الخصوص بين الفهم البسيط das elementare Verstehen والفهم العميق das hoehere Verstehen: " لا نعتمد على فعل تفكير أثناء الانتقال من الخارج إلى الباطن، بل نتعرف على الباطن مباشرة من خلال الخارج، دون أن تحتاج هذه المعرفة إلى استدلال."
الفهم البسيط:
على غرار ديلتاي، يقرر بولنوف وجود وحدة قائمة بين التعبير الجسدي والخبرة الباطنية، دون أن يكون أحدهما متأخرا عن الآخر في الزمان، مثل أن يظهر التعبير الجسدي عن الهلع بعد الإحساس به. على خلاف ذلك، يتحقق فهم التعبير الجسدي بصورة مباشرة، دون وجود أفعال عقلية متوسطة. تتوافق الخاصية المباشرة في الفهم مع وجود اقتران مباشر بين التعبير الجسدي والخبرة الباطنية.
إن الأشكال البسيطة في الفهم من بين الظواهر المألوفة في الحياة اليومية. " يجد الفهم مصدره في متطلبات الحياة اليومية. يصبح من المفروض على الناس أن يدخلوا في علاقة تواصل فيما بينهم؛ وهم بحاجة إلى أن يفهم الواحد منهم الآخر. وهكذا تنشأ لأول وهلة وجوه الفهم الأساسية." وخير نموذج يقربنا من الفهم في صورته المباشرة هو نموذج التعبير الجسدي المحاكي، عندما يصور حالات ذهنية أو انفعالات أو مقاصد، وما إلى ذلك مما هو مألوف في الحياة اليومية.
يتصف مثل هذا التعبير الجسدي بالسمات التالية:
- إنه تعبير مباشر؛
- ليس موجها بصورة مقصودة إلى مخاطب. وعليه، لا يقوم بوظيفة تبليغية؛ نفهم التعبير الجسدي مثلما نفهم بعض الأفعال التقنية: نفهم ما معنى أن يضع زيد الطعام داخل الإناء، كما نفهم ما معنى أن يجلس بقرب المدفأة في ليلة باردة؛
- الفهم البسيط لا يهتم بفهم فرد بعينه، بل يعنى بالحياة الإنسانية داخل البيئة المشتركة؛
- يتمتع الفهم البسيط بخاصة التجرد عن الحالات الخاصة من أجل الاكتفاء بعموم الظاهرة في الحالة العامة. فالفهم بهذا المعنى محايد neutre لا يفهم ضحك زيد بالرجوع إلى زيد بحد ذاته، بل بالرجوع إلى ظاهرة الضحك في صورتها العامة. فالضحك في صورته العامة لا يتعلق بشخص بعينه؛
- ينبني إمكان الفهم على وجود سياق اجتماعي مشترك؛
- لا ينطلق الفهم من الفرد، بل من وجود بنيات موضوعية مجردة. نشرع في فهم العقل الموضوعي وفي فهم العالم والحياة المحيطة بالإنسان قبل التفرغ لفهم الإنسان بما هو إنسان. فالأصل في الفهم ينطلق من وجود حياة اجتماعية مشتركة. " لا نحتاج اليوم إلى تبرير الفهم بالاستناد إلى وجود مساواة أصلية بين الناس، بل يحصل الفهم منذ الابتداء في الأصل؛ والسبب في ذلك هوأننا نعيش جميعا سوية داخل إطار العلاقات المشتركة."
- النتيجة هي أن الفهم البسيط لا يهتم بالذات الفردية، بل يهتم بالعالم الموجود في صورة مبنية للمجهول. ولذلك لا يتحقق التمييز بين الظاهر والباطن أوبين الداخل والخارج إلا بعد تجاوز هذا المستوى المجرد أو المحايد من أجل المرور إلى الفهم العميق.
- الفهم العميق:
إن الفهم البسيط ، كما حاول ديلتاي أن يوضحه، يصبح مقبولا إذا ما نظرنا إليه من زاوية أنتروبولوجية خالصة. ولذلك فهو يعالج ظواهر عامة تخص فهم الحياة الإنسانية المشتركة ولا تخص تأول ظاهرة محددة. وكان بالإمكان في نظر ديلتاي أن نكتفي بالفهم في صورته الأنثروبولوجية البسيطة. يوجد سببان رئيسان يفرضان الانتقال إلى الفهم العميق، وهما:
- الاختلال أو الاضطراب الذي يتعرض له الفهم البسيط. فهو انتقال تمليه ظروف الحياة اليومية ويرجع إلى مجرد الفضول المعرفي. فعندما يضحك شخص ما دون أن أفهم السر الكامن وراء ذلك، وعندما يتبين لي أنه يعبر عن إحساس مبالغ فيه بالإهانة، بالرغم من أن الملاحظة التي وجهت إليه كانت بريئة، آنذاك لا أفهم مثل هذا السلوك بصورة مباشرة؛ وهذا ما يفرض علي " الرجوع إلى السيرة الكاملة للشخص بفضل الغوص في ظروفه الحياتية الخاصة والعلاقات المفروضة عليه، حتى أرتقي بما ليس مفهوما إلى عتبة الفهم." فالاصطدام بسلوك غريب بينما كنا ننتظر سلوكا عاديا مألوفا هومبرر وجود مقولة الفهم العميق. وعليه، يقع التأويل في خط وسط بين الظواهر المعروفة داخل المجتمع والظواهر التي ينكرها.
- فهم الخصوصية الفردية في السلوك l individualité. فالخصوصيات الفردية مهملة في الفهم البسيط، لكنها حاضرة في الفهم العميق. وما يستدعي الفهم هو لغز الأصالة والتفرد والخصوصيات في صورها الإيجابية أوالسلبية. وموضوع الفهم هو الحالة المنفردة على الدوام.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يجب أن نكتفي في كل الحالات التي نعتبرها مألوفة بالفهم البسيط، بينما ينصب الفهم العميق على الحالات الشاذة. هب أن شخصا ما مصاب بمرض من الأمراض العقلية ! هل سنخضعه للفهم العميق ما دام حالة شاذة داخل المجتمع، أم سنفهمه بصورة بسيطة ما دام المجتمع مصابا بالكامل بنفس العاهة؟ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الفهم البسيط ليس إنجازا فكريا يمليه الفضول العلمي، بل كفاية معرفية إلى جانب الكفايات الانفعالية والحسية والحركية لن يستأثر العصاب الجماعي بالفضول العلمي والفهم العميق ما دام حالة عامة داخل المجتمع. وحتى عندما نصطدم بالحالة المخصوصة في الفهم العميق، نعتبر هذا المستوى من التأويل مجازفة ومغامرة للأسباب التي ذكرها آبل، وهي:
- انطلاق المؤول من منظور محدد وغياب الصفاء الفكري الكامل؛
- التناقضات التي نواجهها في أشكال التعبير التي نريد فهمها؛
- التضارب الموجود داخل النصوص وفي علاقة النصوص بأصحابها؛
- التداخل الملاحظ بين المعنى واللامعنى وبين الأفعال المقصودة وردود الفعل الغريزية وبين الحوادث الحاسمة والحوادث العارضة.
لكن هذه الصعوبات التي يصطدم بها التأويل من بين مبررات وجود مبحث التأويل بكامله، لاسيما عندما يركز على الحالات الفردية باعتبارها حالات إيجابية مفيدة وليس باعتبارها حالات شاذة بدون قيمة معرفية. وقد عمل شلايرماخر (1768-1834) بدوره على تحديد موضوع الفهم في الحالات الفردية." وهكذا، عندما جعل شلايرماخر مشكلة الفهم هي مشكلة الخصوصية الفردية Individualité تبين له أن مهمة الهرمينوطيقا مهمة كونية. إذ أن الحدود المتطرفة المتمثلة في حافتي الغربة والألفة معطاة من داخل الاختلاف النسبي الذي تعبر عنه كل فردية. سيضع منهج الفهم نصب عينيه ما هو مشترك بواسطة المقارنة، كما سيبرز ما هو خصوصي بواسطة الفراسة؛ أي أن منهج الفهم يتخذ طابع المقارنة وطابع الفراسة، سواء بسواء." لن يدعي أحد أن الاكتشافات التي أنجزتها الحفريات ستفيد أشعار هوميروس في الحصول على منزلة فنية. وما نسعى إلى فهمه هنا لا يتعلق بوجود معطيات خارجية موضوعية، بل يتعلق بفهم الطريقة الفردية في التفكير. وما يميز الخصوصية الفردية هو أنها خيال حر وتعبير خالص عن الحياة الفردية. توجد الخصوصيات الفردية في مجال الشعر والأدب فقط، كما أنها تطرح بصورة عامة في كل الظواهر التي نعتبرها غريبة عنا نسبيا، أي بصورة غير مطلقة. " الفهم هو جدلية ما ينتمي إلى الذات وما هو غريب ويتضمن طرح السؤال حول كيفية إمكان تملك الغريب. فلو كانت غربة النص وغربة الشخص غربة مطلقة، لما كنا قادرين على فهمها". الانتقال من الفهم البسيط إلى الفهم العميق هو الانتقال بصورة عامة من فهم المألوف إلى فهم غير المألوف. وحتى نصبح قادرين على فهم الغريب، يجب أن يصبح الغريب مألوفا في حدوده الدنيا؛ أي لا بد من وجود قنطرة تنقلنا من المألوف إلى الغريب، وهي التي تحدد معنى أن نفهم الغريب كما يرى ياوس:
- الأفق الذي يغطيه التراث أوالثقافة؛
- كليات لغوية في حالة غياب التراث؛
- بنيات أنتروبولوجية أساسية؛
- أدوار اجتماعية خاضعة للتنميط داخل العلاقات الاجتماعية البينية؛
- أجناس القول أو نماذج السلوك.
يتعلق الفهم العميق بظواهر فردية أجنبية نحاول ضمها إلى أفق التراث المهيمن علينا أو نحاول ربطها ببنيات أنتروبولوجية أساسية أو إرجاعها إلى الأدوار الاجتماعية التي نؤديها في العلاقات البينية أوإلحاقها بأجناس أدبية أو بنماذج في السلوك. والهدف المنشود في كل حالة من هذه الحالات هو تجاوز غربة النص وإيجاد شبيه أو تجربة مماثلة له في حياتنا اليومية. ولذلك فإن إسقاط اقتران الشكل بالمضمون في المستوى الشخصي الضيق – وهو ما أعرفه في تجربتي اللغوية- على تجربة أجنبية يعني من زاوية الهرمينوطيقا إدماج التجربة الأجنبية في أفق تجربتي اللغوية، دون أن يعني بالضرورة القيام بقياس مماثلة من الزاوية المنطقية. وقد يتسع ما نألفه في حياتنا اليومية ليضم بعض الخصائص الوجودية أو خصائص الفهم المسبق التي تهم الإنسان بما هو إنسان. بالتالي، قد أعتبر ما ينتجه الإنسان في ثقافات أخرى قابلا للفهم والتملك في ضوء فهم معنى الوجود الإنساني في العالم، بصرف النظر عن اللغة أو الثقافة. والحالة العامة المعتادة بين الفهم اللغوي البسيط والفهم الفلسفي للوجود الإنساني في العالم هي أن أربط الثقافات الأجنبية بأفق التراث الذي أنتمي إليه وأن أتعرف فيها على ما أظن أنني أعرفه مسبقا.
موضوع الفهم وموضوع التفسير:
لكن خصوصية الفهم تظل مرتبطة بربط ظاهرة فردية أجنبية بتجربتنا الشخصية، سواء كانت لغوية أو اجتماعية أو تاريخية تراثية أو إنسانية وجودية أو ذات صلة بجنس من أجناس القول الأدبي. بالمقابل، تظهر خصوصية التفسير في اعتبار أن الظاهرة الأجنبية صورة شخصية تؤكد صحة تصور نظري حصل على إجماع المجموعة العلمية. لا يقف التفسير عند خصوصية الحالة، ما دام يعتبرها مثالا لقاعدة عامة. يفسر المحلل النفسي ظاهرة الخوف لدى المريض بالرجوع إلى أدبيات مدرسة فرويد، كما قد يفسر النصوص التي يكتبها أوال لوحات التي يرسمها باللجوء إلى الهذيان أو فصام الشخصية.
إن النتيجة السلبية التي يصل إليها التفسير هي أن العالم يفسر ظاهرة ما تفسيرا علميا دون أن يفهمها. وهنا يتعامل العالم مع الحياة الأجنبية تعامله مع الحصى والشجرة؛ وهي من بين الموجودات الطبيعية التي نفسرها ولا نفهمها. كما أنه من بين الآفات التي يسقط العالم ضحيتها هي أنه يعتبر التفسير ربطا مباشرا بين قاعدة عامة ومثال مخصوص. والحال أن العالم لا يطبق القاعدة العلمية بصورة آلية على الحالات المخصوصة. إلا أنه لا يتوفر على قاعدة جديدة للربط بين القاعدة العلمية والحالات المخصوصة. توجد هوة فاصلة بين النظرية والتطبيق، وهي الهوة التي تقرر المبدأ التالي الذي يقول: لا توجد قواعد تعلمنا كيفية تطبيق عقلاني للقواعد
وبالتالي، نستطيع القول، بصورة عامة بخصوص الفردية، إن أي تطبيق للنظرية أو للقاعدة العامة أو للقانون يتجاوز المعنى الحرفي لمنطوق النص أو النظرية أو القاعدة ويخلق بالتالي واقعا جديدا. يطلق غادامر على طريقة التطبيق هذه مصطلح Konkretisierung ، وهوما قد نطلق عليه، مع بعض التحفظ، مصطلح تحقيق المناط. فعلماء وفقهاء القانون يتحدثون عن jurisprudence أي عن نوع من الدهاء القانوني Rechtsklugheit؛ ويذكرنا عبارة prudence الواردة في المصطلح الأجنبي لأصول الفقه بفضيلة prudentia، وهي الفضيلة المثلى في الفلسفة العملية.
من بين آفات التفسير دون فهم داخل نظرية المعرفة نجد التركيز على ضرورة فصل الذات عن الموضوع. " لكن الفهم على خلاف التفسير يتطلب قدرا من الاستحسان والمباركة."
فهم فعل غير مقبول قد يؤدي هنا إلى الصفح عن فاعله. وكل ما ليس مفهوما في الظاهر قد يصبح مقبولا أو معقولا إذا ما افترضنا أن المخاطب لا ينطق عن الهوى. كما قد نلتمس الأعذار لمن ألحق بنا سوءا عن جهل، لا سيما وأننا نظن أن الفاعل ليس شريرا بطبعه، كما يقول المثل الفرنسي: tout comprendre, c' est tout pardonner. كما قد نحاول تفهم سلوك قام به شخص نعرفه بوجه من الوجوه، وقد نعفو أو نصفح أو نسامحه على فعله، وإن كنا لم نفهم بالضبط لماذا قام به. لا يشكل استغراب السلوك الأجنبي وعدم القدرة على فهمه ضرورة الرجوع إلى مناهج التفسير والتعامل مع الظاهرة الإنسانية على غرار الظاهرة الطبيعية، لاسيما ونحن:
- نفسر الظاهرة الطبيعية المخصوصة بإدخالها تحت ظاهرة أكثر عموما وشمولية؛
- نعتمد في تفسير الظاهرة الطبيعية على خاصية التنبؤ، حيث نتنبأ بالسلوك الذي سيحدث مستقبلا في ضوء الظواهر الملاحظة اليوم؛
- نلجأ في التفسير إلى تتبع العلاقات العلية بين الظواهر الطبيعية، دون الاكتراث بوجود حالات ذهنية باطنية.
على خلاف مناهج التفسير، يهتم الفهم بظاهرة المعنى في حد ذاتها في صورتها المخصوصة، كما يستبعد القدرة على التنبؤ بالأفعال اللاحقة بناء على الأفعال التي سبقتها في الزمان، ويعتبر أخيرا أن فهم المعنى لا يفرض تتبع الظاهرة من خارج أو التعامل مع ظواهر المعنى والظواهر الطبيعية بنفس المنهج.
إن التركيز على الفهم لا يعني إيجاد تعارض مطلق بينه وبين التفسير، بما أننا قد نجعل فهم ظاهرة ما مقدمة لتفسيرها كما أننا قد نجعل تفسير ظاهرة ما مقدمة لفهمها. كما أن الحدود التي نضعها على التفسير هي نفس الحدود التي نضعها أحيانا على الفهم. فما معنى أن يأتي الغراب من جهة الشرق أومن جهة الغرب؟ وما معنى أن تبدأ هذه الجملة الاستفهامية بحرف الواو؟ مثل هذه الظواهر لا تخضع للفهم والتفسير إلا في ظروف استثنائية غير عادية. لكننا نتحدث عادة عن صيرورة الفهم، بدل التفسير، حينما لا نصبح أمام رأي مسبق لا يراجع أو أمام دعوى امتلاك الحقيقة أو إزاء إرادة فرض الذات أوب العنف. لا يمكنني أن أفرض على أحد أن يفهمنني بطريقة ما أو أن أملي فهما محددا، كما أن الفهم ليس موضوع مفاوضات.
الفهم البسيط والفهم الذاتي:
ما معنى أننا نفهم النص الغريب في أفق تجربتي الشخصية؟ معنى ذلك أنني أجعل تجربتي الباطنية الذاتية أرضية مباشرة لفهم الآخرين. كما كان ديلتاي متمسكا بذلك في مقالته حول علم النفس المقارن، حين كان يعتقد أن الفهم الذي يقدمه المؤرخ هام، ما دام يعمل على تعميم حياته الباطنية في فهم الوقائع التاريخية. فالنقطة التي تعتبر سلبية في فكر ديلتاي تتمثل في التركيز على حضور المؤرخ ذاته أثناء الفهم، بالرغم من أن هذه الألفة لا تعدم وجود صور إيجابية، مثل الألفة باللغة والتراث الروحي والخصائص الذهنية. فكثيرا ما نعتقد أن غير المشارك في حياة الأمة لا يملك القدرة على فهمها، ما دام يفتقر إلى الخصائص المشتركة مع الآخرين. " وقد عزز هذا الجانب من فكر ديلتاي الرأي الذي يدعي مثلا بأن الرجل المتدين هو المؤهل لفهم البسطامي بالصورة الكاملة. وبالفعل لا شك في أن هذه الرابطة تمثل نقطة إيجابية، ولكن لا شك في أن رجلا ضعيف الإيمان قادر على تنمية انطباع خفي يسمح له بمعرفة ما معنى أن يكون الإنسان زاهدا." Makkreel,294 معنى ذلك أن الفهم الذاتي الذي يملكه المؤرخ حول ذاته هو الأرضية التي ينطلق منها المؤرخ في فهم الآخرين، وسيصبح فهم الذات أكثر تجذرا من فهم الآخرين. يخلع الفاهم على نفسه تصورا معينا يحدد من خلاله القرابة التي تشده إلى الآخرين. لكن الفهم الذاتي ليس هو الفهم البسيط في ذهن ديلتاي. لا يهتم الفهم البسيط بالحياة الفردية ولا يميز بين الظاهر والباطن في موضوع الفهم. أما الفهم الذاتي فهو يملك صورة عن الرابطة التي تجمعه بالبعض وتميزه عن البعض الآخر؛ لكن وجود هذه القرابة في أفق الفهم الذاتي لا يؤدي لزوما إلى فهم موضوع الفهم: قد يؤدي إلى تثمين إيجابياته أكثر من اللزوم أو إلى التهوين من سلبياته. بالمقابل، قد يؤدي انفصام القرابة بأفق الفهم الذاتي إلى رؤية موضوعية أفضل، وإن أدى إلى بخس إيجابياته وتهويل سلبياته.
واجهات الفهم:
إن واجهات الفهم، كما أبرز ذلك غومبرس29، 24 هي الواجهات التي تفصح عن المعنى. عندما أفهم معنى معينا، يتعلق الأمر بمعنى مفهوم بصورة مباشرة: عندما أدرك المعنى لا أدمج الجزء المخصوص من زاوية منطقية داخل الكل العام من خلال التعميم الوجودي كما لا أقيس شيئا على شيء ولا أقيم علاقة مطردة بين علة ونتيجة. من هذه الزاوية، نفهم أن صيرورة إدراك المعنى أكثر تعقيدا من المحاكاة الحاسوبية. لكن الفلاسفة اختلفوا في تحديد الواجهات التي يظهر فيها المعنى:
- إدراك الجزء باعتباره جزءا داخل كل، مثل إدراك صوت موسيقي باعتباره جزءا من لحن كامل أو إدراك مفردات داخل جملة كاملة أو إدراك نص بكامله داخل السياق المحيط به؛
- إدراك المعنى كتعبير حياتي جزئي عن الحياة برمتها. لا يظهر المعنى إلا داخل صيرورة الحياة برمتها من خلال العقل الموضوعي؛
- إدراك المعنى باعتباره القيمة التي يركز عليها المرء في حياته اليومية؛
- إدراك المعنى باعتباره تعبيرا عن الحياة النفسية الأجنبية؛
- إدراك المعنى باعتباره تعبيرا عن المضامين الروحية (العقلية) لمجتمع بعينه؛
- إدراك المعنى باعتباره علامة تحيل على أشياء ووقائع حال
- إدراك المعنى داخل الظواهر التي توجد لحكمة؛
- إدراك المعنى باعتباره كل ما يسمح بتأويل، بما في ذلك ظواهر اللامعقول التي تقترن بهذا المعنى.
ملاحظة:
كان من المفروض أن يدرج هذا المقال ضمن مواد ملف "الحجاج" الصادر في العدد قبل الأخير رقم 62. غير أن خطأ في توزيع المواد حال دون ذلك. فمعذرة للكاتب والقراء.


احمد حرشاني
احمد حرشاني
Admin

عدد المساهمات : 475
تاريخ التسجيل : 22/07/2010
العمر : 51
الموقع : تونس

https://philobactounis.ahlamontada.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى