بحـث
المواضيع الأخيرة
الحجاج1
صفحة 1 من اصل 1
الحجاج1
الحجاج
" إننا لن نصل إلى هذه النّتيجة ما لم نبذل جهدا كثيرا، ومن الحكمة ألاّ نقوم بهذا الجهد بهدف إعداد أقوال مقصدها البشر بل لنكون قادرين على كلام تستحسنه الآلهة وأعمال تروق لها. " أفلاطون - فايدروس (e273)
" إسألوا أقدم الفلسفات وأحدثها فلن تجدوا واحدة منها تعي أن إرادة الحقيقة نفسها في حاجة إلى التعليل. هذا دليل على أن هناك ثغرة في كل الفلسفات ". نيتشه : جنيالوجيا الأخلاق.
· توطئة نظرية:
سنستعمل عبارة حجاج ترجمة للعبارة الفرنسية (Argumentation) وحرصا على الإجرائية التفسيرية و التمييزية لهذه العبارة سنقابلها بمفهوم " الاستدلال " كما هو مستعمل في العلوم الرياضية وبمفهوم " التحقيق " كما يمكن أن نتعرف إليه وكما هو مستغل في أبحاث علماء الطبيعة. وفضّلنا لأسباب إجرائية أن نقرن مفهوم " الحجاج " بمفهوم " الثّعليل " كما سيتضح ذلك لاحقا. لقد تبينا من خلال استقرائنا لوسائل البرهنة و التعليل في آثار الفلاسفة أن الحجاج يرتبط إرتباطا تاريخيا و مفهوميا بالخطابة وأن دراسة الحجاج تكون مثمرة إذا وازيناها بدراسة الخطابة ولو من الناحية التاريخية.
كل ناظر في تاريخ الفكر يلاحظ أن الخطابة تظهر دائما في فترة تأزم : هكذا ظهرت عند الإغريق عندما إنهارت أساطيرهم وأصبحت ( Mutos ) أي نسيجا من الكذب و الأوهام فكان العصر الذهبي للسفسطة وأصبح الفرد " مقياسا لكل شيء ". ولم تعد الأسطورة مقياسا لأي شيء . وفي عصر النهضة عجز الإرث الأرسطي من تعاليم مدرسية و مثيولوجيا على تأسيس علوم العصر وضروريّتها الرياضية فظهرت خطابة عصر النهضة. وظهرت الديكارتية وظهرت معها ذات حرة ومطلقة زعمت بكل حماسة أنها مصدر الواقع وأن البداهة هي مقياس المعرفة الحق : " ليست هناك أية طريق مفتوحة أمام المعرفة البشريّة سوى الحدس البديهي والاستنباط الضروري " : هكذا أعلن ديكارت عن المنهج الوحيد الذي يوصل إلى الحقائق المختلفة. ثم انتصرت الغاليلية وأضافت إلى سجل الحقائق الرياضية الحقائق التجريبيّة. وتأكدت الثقة في نتائج العلوم الرياضية و العلوم الطبيعية معا، وبذلك استبعدت كل الوسائل الأخرى للبرهنة باعتبارها فاقدة لكل قيمة علمية. إن هذا الموقف له ما يعلّله طالما يسود الاعتقاد أن لجميع المشاكل الإنسانية الفعلية حلولا علمية وذلك بفضل تطبيق حساب الاحتمالات ، وهو تطبيق آخذ في الانتشار. ولكن ماذا لو استعصت مشاكل أساسية من حيث طبيعتها على مناهج العلوم الرياضية و الطبيعيّة، مشاكل أخلاقية واجتماعية أو سياسية، فلسفية أو إتيقية، هل يعقل حينئذ أن ننحي جانبا كل تقنيات البرهنة الخاصّة بالمداولات و النّقاش أي بكلمة واحدة الحجاج ؟ إنه من السهل أن نصف بالسفسطة كل البراهين التي لا تخضع لمتطلبات البرهان الذي يسميه باريتو " البرهان المنطقي - التجريبي "، فإذا اعتبرنا كل الحجج من هذا القبيل حججا واهية، فإن عجز البراهين المنطقية - التجريبية يفتح مجالا واسعا للإيحاء والعنف.
إذا اعتبرنا أن كل ما هو صالح لا يكون إلا موضوعيا وغير قابل للنقاش ، فقد أقمنا هوة سحيقة بين المعرفة النظرية - باعتبارها عقلية دون سواها - والممارسة العملية -باعتبارها لا عقلية في دوافعها- وهكذا لا يمكن للممارسة أن تكون متعقلة لأن الحجاج النقدي يصبح بذلك غير مفهوم البتة. والنتيجة الأخيرة هي أن التفكير الفلسفي نفسه يفقد جدّيته ووجاهته . وبالفعل ففي هذه الحالة كل نقاش وكل مجادلة لا يمكن أن تزعم الانتماء إلى معقولية ما، وكل خلاف بين الأفراد لا يمكن حسمه بالمناهج المنطقية -التجريبيّة، يؤدي إلى ا للاّمعقول أي ميدان المداولة و النقاش والحجاج ، فالحجاج لا ينتمي إذن إلا إلى ميدان اللامعقول طالما يقع اختزال المعقول في المجال " المنطقي-التجريبي ".
ما العمل أمام وضعية كهذه ؟ هناك من ظن أنه قد وجد الحل عندما ميز بين " أحكام الواقع " و " أحكام القيمة " إعتقادا منه انه سيخلّص القيم ومقاييس أفعالنا من الإعتباط واللامعقول ، ولكن هذه المحاولة رغم جديتها فاشلة تماما، وذلك لسببين إثنين:
1 - لا يمكن إنشاء منطق لأحكام القيمة.
2 - لا يمكن تحديد مضامين أحكام القيمة وأحكام الواقع تحديدا مرضيا:
فالتفريق بين هذين الحكمين متعذر لأن مفهومي " القيمة " و " الواقع " يتداخلان بكيفية معقدة مع الواقع الاجتماعي ومساراته المتعثرة. وكل من يعتبر أن التمييز بين الواقع والقيم هو تمييز عقلي فذاك مرده إلى موقف فلسفي يعتمد بالأساس - إذا كان موقفا معقولا - على حجاج سابق . إن مسألة " أحكام الواقع " و " أحكام القيمة " لا يمكن إذن حسمها بردها إلى مقاييس كلية لأنّها موكولة حتما إلى شخصيّة رجل العلم أو الفيلسوف وإلى مسؤوليتهما المباشرة. ومن هنا نستخلص موقفا هاما من الحرية الإنسانية التي لا معنى لها إلا في نطاق حجاج لا يكون قهريا ولا تعسفيا، وذلك أن الحرية لو كانت قبولا ضروريا لنظام طبيعي لانتفت عندها كل إمكانيات الاختيار. ولكن وفي المقابل لو كانت الحرية لا تتأسس على أسباب معقولة فكل اختيار يصبح لا معقولا، ويرد إلى قرار تعسفي يتحرك في فراغ ذهني.
إن الحجاج وحده بحججه المنطقية، ولكن غير القاهرة، هو الكفيل بأن يمكننا من الخروج من هذا المأزق المتمثّل في: إما قبول حقيقة صالحة موضوعيّا وكليا، أو اللجوء إلى الإيحاء والعنف لفرض الآراء والقرارات. لقد فشلت كل المحاولات لتكوين إجماع إنساني في المجال العملي و الممارساتي ، يكون مؤسسا على وقائع أو حقائق موضوعية، لهذا السبب يفرض الحجاج نفسه ، وذلك بإنشاء وتطوير نماذج من البرهنة لم يكترث بها المناطقة ومنظرو المعرفة بتأثير من ديكارت.
لقد أصبح من التقليدي في التصور ما بعد الديكارتي للعقل أن عناصر لا عقلية تظهر في الميدان كلما كان موضوع المعرفة غير بديهي . وهذه العناصر سواء أكانت تتمثّل في عوائق يجب تحليلها وتجاوزها مثل المخيال أو الأهواء أو الإيحاء، أو اعتبرت مصادر فوق -عقلية لليقين مثل " القلب " أو " العناية الإلهية " أو " الحدس " البرقسوني فإنّها تدلنا على أن هذا التصور للعقل البشري يقسم المؤهلات الإنسانية إلى صنفين مختلفين تقسيما مصطنعا مخالفا تماما لنوع الخطوات التي يتبعها بالفعل فكرنا أثناء اشتغاله.
إن البداهة قد اعتبرت الخاصية المميزة للعقل وهذا يُعدّ اختزالا لقدرات العقل. واعتبرت قوة يجب أن يخضع لها كل فكر عاد، كما اعتبرت علامة للحقيقة. وهكذا فإن البداهة تقرن النفسي بالمنطقي فيمكن الانطلاق من أحدهما إلى الآخر، وعندها كل حجة ترد إلى البداهة وكل ما هو بديهي ليس في حاجة إلى الحجة: هكذا طبقت نظرية ديكارت في البداهة، وهكذا حرص باسكال على تطبيقها. لكن هذا التحديد قوبل بالرفض بصفة مبكرة: فليبنيتز طالب بالبرهنة على كل المصادرات الّتي ليست أولية، دون الاهتمام بدرجة قبول النّاس لها.
من المفيد هنا أن نلاحظ أن نظرية الاستدلال المنطقية قد بّلورت حسب منظور ليبنيتز لا حسب منظور باسكال ، فرفض القول بأن كل ما هو بديهي ليس في حاجة إلى البرهان. أما نظرية الحجاج فلا يمكن أن تتكوّن إذا كان كل برهان يرد إلى البداهة. ففي يومنا هذا تداعت أركان تصور معين للوغوس بسبب نهاية التفاسير النسقية والأحاديّة، وتهافتت الإيديولوجيات، وإذا غصنا أكثر في واقع عصرنا لاحظنا تصدّع المعقولية الديكارتية التي تستند إلى ذات حرة ومطلقة يزعم أنها منشئة للواقع ، بل لكل واقع .
إن الأزمة الحالية دفعت بالفكر المعاصر إلى الريبية العصرية المتمثّلة في العدمية من ناحية وإلى تضييق حدود العقل واختزاله اختزالا مطمئنا تمثّل في المنزع الوضعي من ناحية أخرى. فظهرت الخطابة الجديدة وقد تموقعت بين القول بأن كلّ شيء جائز والقول بأن المعقوليّة المنطقيّة هي المعقولية إطلاقا. إن الفكر الحديث قد وجد نفسه مجبرا على التخلي عن الديكارتية، فأفرز فلسفة ترتكز أساسا على الحنين إلى الوجود: لقد وقع الرجوع إلى مسألة الوجود والحال أن ديكارت - إذا أعرض عن الأنطولوجيا - فلأن الوجود في نظره ملتبس ، ويقال بكيفيات مختلفة ومتعدّدة، مما يجعله غير مؤهل لأن يكون أساسا للاستدلال المنطقي ولا مقياسا له.
فبين الأنطولوجيا ذات اللّيونة الجوفاء - رغم لا نهائيتها – و المعقولية الرياضية والقياسيّة رغم محدوديتها - هناك مسلك ثالث هو الحجاج، الذي يفكر دون إلزام ولكن دون أن يجبر على الإعراض عن العقل وترك المجال للاّمعقول أو لما لا يقال. فبالنسبة إلى " الخطابة الجديدة " لم يعد بالإمكان اليوم تفضيل اللغة الشفافة الخالية من الالتباس . وفي هذا الخضم أين تتموقع الفلسفة ؟
إن الفيلسوف هو ذاك الّذى يبرز ما لا يراه من ليس فيلسوفا. إنه يبرز ما لا يبرزه نمط معيّن من أنماط البحث. إن الفيلسوف يستخرج استتباعات المفاهيم المستعملة دون أن يكون من يستعملها على وعي بهذه الاستتباعات . فدور الفيلسوف يتمثّل في استخراج اللاّ مرئي بواسطة ا لوسائل التقليدية للمعرفة أي ما هو ضمني في الاستعمال المفهومي ومفترض من قبل نشاط من هو غير فيلسوف. وهو بهذا يقودنا من المعطى المباشر، إلى ما لا يظهر إلا بواسطة التفكير الفلسفي ، أي إلى الواقع الثاوي تحت الظاهر. إن قيمة النشاط الفلسفي تكمن في أولوية وأفضلية الواقع بالنسبة إلى المظهر الخارجي الذي لا يمثل إلا خطأ أو مظهرا سطحيّا من مظاهر الأشياء.
ولكن هذا الإنتقال من الظاهر إلى الكامن ، و إبراز أفضلية الثاني على الأول لا يتحقق أبدا ، لا بواسطة الاستدلال أو تقنيات المنطق الصوري ولا بوسائل التحقيق كما هي مستعملة في العلوم الخبرية بل بوسائل تقنيات الثّعليل.
إن الفيلسوف هو ذاك الذي يعيد بناء الواقع الأصلي مع إبراز أن إعادة البناء هذه ، ليست إعتباطية بل لها ما يبررها ويعللها. فدوره ليس بيان صحة قول من الأقوال، بل تعليل ما تتأسس عليه إعادة البناء تأسيسا وجيها. إن ما يسمى باللاعقلانية في الفلسفة موقف ناتج عن جهل بمعقولية مسار التعليل . إن المعقولية الفلسفية لا يمكن أن تتأسس إلا على القول بوجود تعليلات صالحة ووجيهة أي تعليلات عقلية. إن هذه الملاحظة تجعلنا نشعر بمدى الخسارة التي لحقت بالتفكير الفلسفي بسبب عدم الاكتراث بمسألة التعليل ، في حين أن الإستدلال والتحقيق قد حظيا بتحاليل معمقة منذ أرسطو. لذا فإن المسألة المطروحة علينا اليوم تبقى معرفة حقيقة التعليل ومكانته في الفلسفة، للتعرف على مفهوم " معقولية التعليل " .
إن الفيلسوف الحق هو ذاك الذي يقدم أطروحته بكيفية تجعله يجيب مسبقا على كل الاعتراضات الممكنة بحيث يجد القارئ جوابا عن كل ما يتبادر لذهنه من نقد أثناء قراءته لأطروحة الكاتب. إذن الفيلسوف هو ذاك الّذي لا يكتفي بالإقرار والجزم بل يعلل مواقفه بالإجابة عن الانتقادات والاعتراضات. إن هذا الضرب من التفكير ليس استدلالا ولا تحقيقا، بل هو تعليل ودحض ، مع العلم أنّ الفيلسوف يقبل إمكانية دحض الدحض من زاوية نظر أخرى ولاعتبارات طارئة. إن الفلسفة من هذا المنظور حوار لا ينقطع .
إن الفيلسوف أبدا ماثل أمام القضاة، أبدا منفتح للاعتراضات ، مهيأ لتعليل مواقفه أو لتعديلها عند الاقتضاء، ولكن حقائقه لا يمكن أن تكون لها الكلمة الأخيرة لأن الفلسفة مجال يخلو من قاض أعلى ومن مصير نهائي .
وانطلاقا من هذا التمثل للّحجاج الفلسفي في خصوصيته يمكن أن نعتبر أن الحقيقة متعددة بما يمكن من تجديد وجهات النظر.
وباختصار فإن فعل الحجاج الفلسفي يكشف عن محاولة جادة لجعل إسناد المعنى عملا مشتركا ينبني على اقتناع مشترك بأن الحقيقة متعددة، وهذا يضمن تعايشا بدون إقصاء أو عنف . ويمكن تدريب المتعلّمين على اكتشاف خصوصية الحجاج الفلسفي من خلال دعوتهم إلى تحليل عينات من الحجاج كما تتجلى في نصوص فلسفية بحيث يتمكنون من اكتساب القدرة على:
- ا لتمييز بين الحجاج ( Argumentation ) والاستدلال (Démonstration ).
- التمييز بين الحجاج الفلسفي والحجاج غير الفلسفي (الحجاج السفسطائي ، الحجاج الإيديولوجي ...).
- التمييز بين أطروحة فلسفية وظن أو وهم .
- ممارسة المتعلمين للحجاج بدورهم عند كتابتهم للمقال الفلسفي .
يمكن في هذا الصدد تدريب المتعلمين على تحرير فقرة حجاجية تتعلق بمشكل فلسفي محدد. ويقتضي اكتساب المتعلمين لهذه المهارة القيام بجملة من التدريبات والمهام المنهجية الفرعية والمتكاملة.
المهمة 1: الانتقال من الكلمة إلى المفهوم.
التعريف:
يتعلق الأمر بالانتباه إلى الكلمات كما ترد في صيغة موضوع إنشائي أو في نص فلسفي ، قصد التفطن إلى أنها لا تكون إلا ملتبسة لأنها مشحونة بمعان متضاربة وقد تعبّر عن طابع فردي أو جمعي ، ولكنه في كل الحالات عرضي وهذا ما يجعل منها عائقا يحول دون تحقيق مطلب الكلي ، وهو مطلب لا يمكن أن يتحقق ما لم يتم تجاوز الكلمة أو المعنى المتداول إلى المفهوم.
الهد ف:
- أن يصبح المتعلم قادرا على بلورة المفهوم طبقا لسياقه ( في الموضوع الإنشائي أو النص الفلسفي ).
- أن يصبح المتعلم قادرا على المساءلة النقدية لتمثلاته العفوية قصد اكتساب القدرة على الأفهمة وعلى التفكير المفهومي .
يمكن توعية المتعلمين بهذه الصعوبة وبهذا الاقتضاء من خلال إحالتهم على ما تمثله بعض المعاني المتداولة من إشكال (... يحسن في هذا المقام إحالتهم على بعض " محاورات " أفلاطون لأنها تمثل عيّنات نموذجية لتحليل المعاني المتداولة تحليلا نقديا بغرض الوصول إلى تعيين مضمون مفهومي محدد).
التطبيق:
- مثال أول: الموضوع المقترح:
هل يمكن للعقل أن يضع حدّا للنّزاعات ؟
لا يتعلق الأمر هنا باستعراض نظريات مختلف الفلاسفة بشأن المعنى المتداول لكلمة " عقل " الواردة في نص الموضوع ، بل يتعلق بتحليل الدلالات المختلفة لهذه الكلمة قصد الوقوف على المفهوم الملائم لسياق الموضوع. فللعقل دلالات مختلفة، إذ قد يفيد:
- النظر
- كما يفيد الرصانة (ضد التعسّف والسلوك الأهوج ).
- كما يفيد النظام (في مقابل الفوضى)
- أو التفكير السليم (في مقابل التفكير العشوائي المتأثّر بالأهواء والعواطف ).
نضيف إلى ذلك أن منزلة العقل في الخطاب الفلسفي هي منزلة مفهوم ذي دلالات محددة في سياق إشكالية مذهب فلسفي معين : كدلالة " العقل " في الفلسفة الكانطية مثلا أو دلالته عند هوبس أو لدى هيغل ... إلخ . ولا يبدو ممكنا هنا تعيين دلالة العقل الملائمة لسياق الموضوع المقترح إلا بالرجوع إلى مفهوم " النزاع " .
وهذا التحديد لا يكون إلا وظيفيا، حيث أن السؤال المطروح يتعلق بوظيفة محتملة للعقل قد تكون " وضع حدّ للنزاعات ". من أوجه النزاع يمكن أن نذكر نزاعات إيديولوجية وفكرية وسياسية واقتصادية في صلب المجتمع الواحد (بين فئاته وطبقاته ...) وفيما بين ا لمجتمعات .
يمكن التوصّل إلى حلّ النزاعات هذه بواسطة العقل باعتباره لوغوس أي ملكة إكتشاف الحقيقة عبر الحوار. فلا يبدو ممكنا وضع حد للنّزاعات إلا عبر التحاور الحقيقي الذي يتناقض مع الخطاب السفسطائي ذاك الذي يتقن استعمال الألفاظ بحيث يوهم بأننا أمام استدلال حقيقي والحال أن مدلول اللفظ يكون قد تغير في الأثناء بفعل خدعة خطابية. فمن حيث الحق ما يؤهل العقل " كلوغوس " إلى وضع حد للنزاعات هو اعتباره الملكة الأساسية الوحيدة الكفيلة باكتشاف حقيقة الوجود وذلك يفضل مبادئه الأولى البديهية واشتغاله اشتغالا منطقيا يمكن معرفته وتحديد شروط مصداقيته . وهو ما يقوم على افتراض:
- أن الحقيقة واحدة.
- وأنه بإمكان العقل اكتشاف هذه الحقيقة.
- وإن هناك حياة جماعية (.المدينة.) تمثّل فضاء لحوار يهدف إلى التعايش وفق الحقيقة.
ولكن إذا سلمنا من حيث الحق بأهلية العقل لحل النزاعات ، فماذا عن الشروط الفعلية لتحقيق هذا المطلب من قبل العقل ؟
إجابة عن ذلك يمكن القول ، أنه بالرّغم من مؤهلات العقل هذه ، لا تحل هذه النزاعات فعليا وذلك راجع:
- إما لإستعمالات غير سليمة للعقل: انظر نقد أفلاطون للسفسطائيين ، أو تحليل ديكارت لمفهوم الخطأ.
- أو إلى عدم إمكانية التغلب على الأهواء، مما يعرقل مسعى العقل إلى إقامة الحوار بدل العنف ، هذا إذا لم تنجح الأهواء في تسخير العقل نفسه لخدمتها (مما يؤول إلى نوع من تألية العقل ).
إن التحليل السّابق يفترض صلوحيّة العقل لحلّ النّزاعات ، ويرجع الفشل في حلها إلى سوء استعمال للعقل أو إلى تغلّب الأهواء والمصالح وتسخير العقل نفسه خدمة لهذه المصالح. وعندها يصبح العقل لا المشرّع ولا صاحب القرار بل أداة طيعة وناجعة لتحقيق الرغبة والمصلحة فالمجموعات المتنازعة تدخل في صراع بعضها مع بعض وتنظم ذاك الصراع طبقا لمقتضيات عقلية، وفي هذا ما يبرر الحديث عن تنوّع المعقوليات واختلافها باختلاف مجالات الممارسة الاجتماعية: معقولية علمية، معقولية تقنية ...
حل النزاعات ليس موكولا إذن للعقل كما حدد سابقا. فلا يبقى إذن إلا أن نيأس من قدرة العقل على حل النزاعات ونجيب عن السؤال بالنفي القاطع أو أن نحاول إعادة صهر مفهوم العقل علّنا نجد مضمونا مفهوميّا يُمكننا من حلّ المشكل وتحديد شروط وضع حد للنزاعات اعتمادا على العقل:
من المسببات الرئيسية للنزاعات الإختلاف ( في اللون وفي الدّين وفي اللغة وفي الجنس ، وفي الطبقة الاجتماعية وفي الحضارة ...) فهلاّ يمكن وضع حدّ للنزاعات إلا بالقضاء على الإختلاف ؟ لو فعلنا لسقطنا عندها في أبشع أشكال الكليانية، والدغمائية التي ستعزز حتما مزيدا من العنف والنزاع .
يبقى إذن حلّ واحد وهو الإبقاء على الاختلافات ، وجعل " احترام الحق في الإختلاف " قاعدة كلية، وهذا يجعلنا نحدد العقل تحديدا جديدا : فهو ليس ذلك العقل المغلق ذي المبادئ والمقولات الثابتة و الكلية، ولا هو مجرد أداة تخدم مصلحة الأهواء ( كاليكلاس ) أو مصالح عرقية أو ميولات هدامة، بل هو عقل منفتح يعيد النظر نقديّا في السائد، و يتمظهر عند إشتغاله في شكل معقوليّات مختلفة : معقولية علميّة (بأنواعها)، معقولية فلسفية، معقولية تقنية ... ولكن أيضا معقوليّة الأسطورة، إلخ ، وتعدّد هذه المعقوليات مؤشر عن عقلانيّة منفتحة تقبل بالتعدد والاختلاف مما يجعلها مؤهلة لحلّ النزاعات . وهذه العقلانية المنفتحة ينبغي أن يوجهها اشتغال معياري للعقل يشرّع فيه العقل لما هو في صالح جميع البشر. والعقل بهذا المعنى وريث اللوغوس الإغريقي الذي يقيم الحوار و التفاهم ، ووريث
" الراسيو " الرومانيّة التي تتقن الحساب و التنظيم ، ووريث " العقل " ا لذي يعقل قوى التدمير ويمنعها من ا لتأثير، وإجمالا يتعلق الأمر هنا وجوبا بالعقل لأن ما لا يحسم فيه العقل لا يمكن رجاء أن يحسم بغيره . وكما يقول ب . فاليري : " بين البشر ليس ثمة غير الحرب أو المنطق "وهذا العقل يكون دائما في حالة طوارئ حتى ينسق بين مختلف المعقوليات ضمانا لسيادة السلم الدّائمة بين البشر.
من الواضح أن العقل بهذا المفهوم ، حتى وإن بدا محدود الفعالية والنّجاعة، فإنه يظل فكرة ناظمة ضرورية لحل النزعات أو الحد منها.
- مثال ثان : الموضوع المقترح :
هل يمكن أن نكون أحرارا اليوم ؟
من مستجدّات " اليوم " عوامل عديدة جعلت هذا السؤال ممكنا بل ضروريّا، من ذلك اكتشاف " موت الذات " اعتمادا على ما توصّلت إليه " العلوم الإنسانية " كالتحليل النفسي و الانثروبولوجيا البنيوية ... إلخ ، من نتائج شككت في استقلال الإنسان وفي استعماله الحر لإرادته وفي تشريعه ذاتيّا لقوانينه ، وهو ما يوحي بنوع من المفارقة إذا قيس على ما توصلت إليه التقنية الحديثة من وسائل ناجعة للسيطرة على الطبيعة ولتغيير كيفية العيش .
ومن هنا نستخلص مفهوم " الحرية " المعني في هذا السّؤال بما هي تصرف إرادي صادر عن وعي كامل بالذات لا يكون في تبعية لمحددات داخلية أو خارجية، وهو المفهوم الذي ساد كلاسيكيا داخل " فلسفات الذّّات ".
وفي ضوء هذا التحليل نتوصل إلى أن مفهوم " الحرية " في صيغة الموضوع هو المفهوم الكلاسيكي المشار إليه أعلاه ، ولكن بعد أن اتضحت لنا مستجدات العصر ( التي يحيل إليها لفظ " اليوم " في صيغة الموضوع ) يتوجب علينا إعادة النظر في هذا المفهوم الكلاسيكي للحربّة وإعادة صهره ، بحيث يصبح ملائما للمشكل المطروح ويسمح بالبحث عن حل له . وعندها يمكن فهم الحرية :
- إما بما هي مطلب واقتضاء يتمثّل في مغالبة مختلف العوائق التي تحول دون تحرر الإنسان ، وهو ما
يجعل من الحريّة، لا معطى جاهزا أو وضعا ثابتا بل مسار تحرر.
- أو بما هي ثمرة إعادة تأويل للدلالات المختلفة الّتي يتقبلها الإنسان سلبيا ( في شأن الحياة و الموت و الذات و الآخر و العالم و السعادة ...) للقطع معها و إنتاج دلالات جديدة إنتاجا واعيا يتمكن في ظلها الإنسان من أن يعيش استقلاليته الحقيقية.
هكذا نرى أن التحليل ، كلما تقدم إلا واستوجب إعادة نظر في مضمون المفهوم لصهره من جديد بشكل يجعله يتلاءم مع تطور مراحل البناء الإشكالي.
· المهمة2: تحديد المفاهيم تحديدا سياقيا.
التعريف:
عادة ما يعتقد المتعلم أن الكلمة تحمل معناها في ذاتها ولا يتفطن إلى أن دلالة الكلمة تكمن أساسا في علاقاتها بما يجاورها من كلمات أخرى ومفاهيم مجسدة في كلمات واردة في النص وأخرى " منبثة " بدون تجسيد أي بدون حضور معجمي ذلك مثلا شأن مفهوم " الروح " الحاضر بدون سند معجمي في نص ليبنيتز (انظر ص : 27 من هذه ا لوثيقة ). فالتمييز بين المعجمي و المفهومي هو ا لذي يجعل من السياق منطلقا ضروريا لتحديد المفاهيم ، و الكلمة معزولة لا تمثل مفهوما.
ملاحظة:
هذا لا يعني الاستغناء عن المعاجم ، بل المشكل يتمثل فقط في كيفيّة استعمال المتعلم لها. ينبغي أن يكون اعتماد المعجم في خدمة التحديد السياقي للمفهوم كما ورد في القول المدروس .
الهدف:
أن يصبح المتعلم قادرا على بلورة المفهوم وتحديده طبقا لسياقه وللإشكالية الّتي يتنزل فيها، وبالتالي على تفادي المزلق المتمثّل في سوء فهم للنّص ، نتيجة الخلط بين ما هو معجمي وما هو مفهومي .
التطبيق:
النّصّ المقترح : " الدّين والحاجة إلى التماسك الاجتماعي ": دوركايم ( كتاب " أنا أفكر " آداب )
يمكن أن يساء فهم نصّ من النّصوص بسبب موقعه في الكتاب المدرسي وفي سير الدرس ويغفل عن محتواه الحقيقي ويقرأ من خلال المسألة التي أدرج ضمنها كسند ويرجع ذلك أساسا إلى عدم انتباه لمضمونه وسياقه الحقيقي وإلى تطويعه تعسّفيّا لمقتضيات الأهداف التي يعمل الأستاذ على بلوغها.
يتعلق هذا النص لدركايم بالنظر في ما يصنع وحدة المجتمع ويضمنها ويجيب الكاتب عن ذلك بأنه يتمثل في توحيد المشاعر والتصوّرات : " وليس ممكنا أن يوجد ... وحدته " ( السطر: 2 ) وهو ما يمثل نوعا من القانون السيوسيولوجي .
و السؤال يطرح عن كيفية تحقيق وحدة المشاعر و التصورات هذه ، والجواب هو أن ذلك إنما يتم بواسطة الاتحادات والجمعيّات و التكتلات . فما هي وسائل هذه الاتحادات في تحقيق هدفها ؟
وسائلها إنما هي " الرموز " : يمكن أن تكون دينية ويمكن أن تكون غير دينية (قومية أو أخلاقية.. .)
هل هذه الرموز خالدة ؟ إنها في الواقع رموز عارضة وطارئة وخاصّة فنوع من الاحتفالات (دينية كانت أو قومية ... إلخ ). .
هل يمكن أن نستخلص من ذلك مضمون مفهوم الدّين ؟
في الدين ما هو جوهري وما هو عرضي : الجوهري فيه هو وظيفته المتمثّلة " في تأكيد المشاعر المشتركة" لمجموعة ما (وليس هذا حكرا على الدين إذ يمكن لهذه الوظيفة أن تتحقق بواسطة الاحتفالات القوميّة مثلا ) وما هو عرضي هو الرموز التي يتمظهر الدين بواسطتها، إذن ما هو جوهري في الدين ليس الدين . النص إذن لا يتعلق بالدّين بل بوظيفة اجتماعية يمكن أن تتحقق من خلال الدين أو غيره . يقول دركايم في نصه : " فأين وجه الاختلاف الجوهري بين ..." (ا لسطر 6 و 7 و . من مزالق التأويل هنا إذن :
- اعتبار أن هذا النص يتعلق أساسا بالدّين والحال أنّه يتعلّق أساسا بما يضمن وحدة المجتمع وهي وحدة ضرورية لبقائه ، و التي تتحقق بواسطة رموز يمكن أن تكون دينيه كما يمكن أن تكون غبر دينيّة.
- أن يستنتج من عبارة " يوجد ما هو خالد في الدين " (السطر الأول ) أن الدّين خالد.
- أن يستنتج من أن " الدين يضمن ا لتماسك الاجتماعي " أن لا تماسك اجتماعي بدون دين. وهذا خطأ بالرّجوع إلى صريح سياق النّصّ من جهة وخطأ من وجهة نظر منطقيّة من جهة أخرى :
فمن القضيّة: كل أ هي ب لا يمكن أن نستنتج أن كلّ ب هي أ بل: بعض ب هي أ. كذلك من القضية : كل دين يضمن التماسك الإجتماعي لا يجوز أن نستنتج : كل تماسك اجتماعي لا يتحقق إلا بالدين بل الصحيح أن نستنتج : من بين وسائل التماسك الاجتماعي الدّين .
- مزلق في فهم بعض العبارات الواردة في النصّ، من ذلك :
· " الأناجيل الجديدة " : وهي عبارة لا تعني ديانات جديدة بل تعني رموزا جديدة تستعملها التكتلات الاجتماعية لضمان وحدة المجتمع الضرورية لبقائه مثلا : إحياء ذكريات وطنية، وما الرموز التي تعبر عنها، كالنصب التذكارية وباقات الزهور و احترام دقيقة صمت واستعمال المشعل وتحية العلم ... إلا وسائل مختلفة ومتغيرة لضمان الوحدة الاجتماعية.
· " إيمان جديد " : كلمة إيمان لا تعني هنا إيمانا دينيا بل اعتقادا يؤول إلى تماسك الجماعة وهو اعتقاد يتمظهر بأشكال مختلفة كتلك التي ظهرت عبر التاريخ ، وقد يتخذ في المستقبل أشكالا جديدة ليس بمقدورنا تحديدها مسبقا.
· " جوهر الأمور " جوهر الأمور ليست الرموز التي يتلحّف بها الروح الديني أو الروح القومي بل جوهرها يتمثل في ضمانها لوحدة المجتمع .
وبناءا على ما سبق ذكره يمكن أن نستخلص أن المفاهيم الأساسيّة في هذا النص هي :
- " الرموز " ( التي يتلحّف بها الفكر الديني ) : إحالة إلى ما هو خارجي وإلى الطابع العرضي لهذه الرموز.
- " المشاعر و التصورات الجماعية "
- " وحدة المجتمع "
- " دين "
وتتمحور هذه المفاهيم حول مفهوم نواة وهو مفهوم " وحدة المجتمع ".
ملاحظة:
يعتبر مفهوم " الدين " هاما في النّص لكن قد يساء تأويله ، وهو ما أشرنا إليه أعلاه . وتفاديا لذلك يمكن دعوة المتعلّمين إلى قراءة النص قراءة يتمكنون في ضوئها من تحديد مفهوم " الدين " سياقيا، ودعوتهم إلى استخراج القضيّة الأساسية (أي أطروحة النص )، وإذا هم أساؤوا تحديد القضية الأساسية، فإنهم سيسيئون تحديد المفاهيم الأساسية
· المهمة 3 : استخراج شبكة المفاهيم في النص الفلسفي.
التعريف:
إن المفاهيم في النص الفلسفي غير مستقلة بعضها عن بعض ، بل هي تتحدّد بمقتضى العلاقات المختلفة التي تربط بينها في إطار شبكة مفهومية مخصوصة.
الهدف:
أن يصبح المتعلّم قادرا على:
- إجلاء العلاقات القائمة بين المفاهيم.
- التمييز بين ما هو أساسي وما هو فرعي منها، وذلك في علاقة وطيدة بالمحتوى الفلسفي للنص .
- تجنّب سوء فهم النص الناتج عن عدم تمثل للعلاقات الرابطة بين المفاهيم الواردة فيه أو الغفلة عنها تماما.
التطبيق:
النصّ المقترح: نص لليبنيز من مؤلفه " محاولات جديدة حول الذهن البشري ".
" هل أن كل الحقائق رهينة التجربة أي الاستقراء والأمثلة أم هناك حقائق لها إلى جانب ذلك أساس مغاير ؟ ذلك أنه إن كانت بعض الأحداث قابلة للتوقع قبل أي اختبار لها، فإنّه من البين أننا في ذلك التوقع نضيف شيئا ما من عندنا. ولئن كانت الحواس ضرورية لكل معارفنا الحاصلة فإنّها غير كافية البتة لتعطينا جميع هذه المعارف لأن الحواس لا تقدم أبدا سوى أمثلة، أي حقائق خاصّة أو مفردة، والحال أن كل الأمثلة التي تؤكد حقيقة عامة لا تكفي - مهما كان عدد هذه الأمثلة - لإقامة برهان على الضرورة الكلية لهذه الحقيقة عينها، إذ أنّه لا يلزم أن ما حدث سيتكرر حدوثه ، ومثال ذلك أن الإغريق و الرومان وكل شعوب الأرض الأخرى المعروفة لدى القدامى قد لاحظوا دوما أنه قبل انقضاء أربع وعشرين ساعة ينقلب النّهار إلى ليل والليل إلى نهار. و لكنّنا نكون قد أخطأنا لو اعتقدنا أن نفس القاعدة تلاحظ في كلّ مكان آخر، بما أن التجربة منذ ذلك الحين قد برهنت على عكس ذلك أثناء الإقامة في مجموعة من الجزر في المحيط المتجمد القطبي ، ويخطئ ذلك الذي يعتقد أن هذه القاعدة تمثّل حقيقة ضرورية وخالدة على الأقل محليا عندنا، بما أن حتى وجود الأرض والشمس نفسيهما ليس وجودا ضروريا بل قد يأتي وقت ينقرض فيه هذا النّجم الجميل على الأقل في شكله الحالي ، كما قد تنقرض منظومته بأكملها.
ومن ثمة يتجلى أن الحقائق الضرورية مثل الّتي في الرياضيات المحض - وخاصّة في علم العدد (الأرثمطيقا) والهندسة - لا بدّ أن تكون لها مبادئ لا يخضع البرهان عليها للأمثلة أصلا، ولا يخضع بالتالي لشهادة الحواس رغم أنه لولا الحواس لما خطر لنا أبدا أن نفكر في تلك الحقائق ."
"محاولات جديدة في الذهن البشري "
يقتضي استخراج شبكة المفاهيم في هذا النص:
- فهم أطروحة الكاتب المتمثّلة في اعتباره أن الوقائع والأمثلة والملاحظات الحسية لا تمثل شرطا كافيا لبلوغ معرفة علمية أي معرفة تكتسي طابع الضرورة والكلية، بل أن تحقيق هذه المعرفة متوقف على ما يقوم به العقل ذاته من بناء للمعرفة بواسطة ما يتوفر عليه من مبادئ ضرورية تتجلّى فعاليتها بكل وضوح في الرياضيات وتلك المبادئ هي التي تضمن المعرفة من كلّ احتمال أو ريب .
- فهم الأطروحة ا لمقابله والمتمثّلة في التصور الخبري (أو الامبريقي ) للمعرفة (كما تجسد في أعمال لوك مثلا الذي يقول : " ما من شيء في العقل إلا وقد سبق وجوده في الحس " ).
- إفتراض وجود مفهوم ضمني مبثوث في النّصّ دون حضور معجمي ، وهو مفهوم " الروح ".
إستخراج المفاهيم ثم ترتيبها وفق جدول مزدوج من التقابلات:
الحواس الرّوح
التّجربة
أمثلة إستقراء مبادئ
حقائق خاصّة حقيقة عامّة حقائق ضروريّة ( مثل التي في الرياضيات )
أو مفردة ضرورة كلّية
يتبيّن في ضوء هذه الشبكة أن كل مفهوم يتحدد بالمفاهيم الأخرى:
فمفهوم "الحقيقة" في هذا النص يتفرع إلى:
- " حقيقة خاصّة " (أو مفردة) : مصدرها الحواس وتتجلى في أمثلة وفي عينات محدد ة .
- " حقيقة عامة ": ناتجة عن الاستقراء والتعميم وتفتقر بفعل ذلك إلى خاصيتي الضرورة والكلية مثلا: الشمس تشرق ( بوجه عام )
- " حقيقة ضروريّّة ": تتميز بخاصيتي الضرورة و الكليّة : وهي حقائق لا يملك العقل إلا أن يقبلها لأنها ضروريّة بالمعنى المنطقي . مثال ذلك : الحقائق الرّياضية، و القوانين الفيزيائية (يبرر ليبنيتز طابع الضرورة في القوانين الفيزيائية بمبدأ أساسي في العقل وهو " مبدأ العلّة ا لكافية ". يتجلّى استرداديا في ضوء الاشتغال على هذه الشبكة أن الأطروحة المقابلة - أطروحة ج . لوك - تقتصر في نظر ليبنيتز على " الحقائق الخاصّة أو المفردة " و" الحقائق العامة " ولا تستطيع بالتالي أن تفسر وجود حقائق ضروريّة تكتسي طابع الضرورة و الكلية ( الحقائق الرياضية مثلا )
هل أن الحقائق تابعة للتجربة وثمرة للتعميم أم أن هناك حقائق ضروريّة وكلية ؟ ذلك هو المشكل الذي واجهه الكاتب ولجأ في معالجته إلى مفاهيم مثل " الكلّية "، " المبادئ "، " الضرورة " ... يتحدد مضمونها سياقيا، كما اقتضى منه إعادة صياغة لمفهوم " العقل " من خلال محاورة المنظورين العقلاني ( ديكارت ) والخبري ( لوك ) - يمكن تجسيم هذه المهمة كذلك على نص أرسطو : " الإنسان حيوان سياسي " ( كتاب " أنا أفكر" آداب ).
· المهمة 4 : الاشتغال على الروابط المنطقية في النص الفلسفي .
التعريف:
تندرج هذه المهمة ضمن الاشتغال على " الإستراتيجيات الخطابية " المعتمدة في النص الفلسفي ، فلما كان النص الفلسفي نصّا حجاجيّا فإنه يعتمد أثناء عملية الحجاج على أدوات ربط منطقية يمفصل بها القضايا أو الأحكام . وهذه العلاقات المنطقية من قبيل علاقة السبب بالمسبب ، أو علاقة المبدأ بتبعاته ...، يعبّر عنها بواسطة أدوات ربط لغوية مثل : " لو...." " إذا " " بما أن ..." " لكن ..." " إذن ".
يتعين التنبيه هنا إلى أن هذا التمرين لا يهدف إلى استخراج البنية المنطقية الشكلية للحجاج والاقتصار على تحليلها، مما يضيع المعنى ويسقطنا في الصورانية، بل يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار المضمون الفلسفي للنص من جهة كونه يطمح إلى إقناع المخاطب ضمن عملية تواصليّة تهدف إلى الحقيقة.
الهدف:
أن يصبح المتعلم قادرا على:
- فهم تمفصل قضايا النص تهيؤا للقيام برصد وحدات مسار الحجاج فيه .
- حسن استعمال أدوات الربط هذه عند كتابة المقال الفلسفي .
- تفادي المزلق المتمثّل في سوء فهم النص بسبب سوء فهم رابطة من الروابط المنطقية أو بسبب الغفلة عنها.
التطبيق:
- النّص المقترح: نص ليبنيتز من مؤلفه : " محاولات جديدة حول الذهن البشري "
إن الغفلة عن أداة ربط مثل " إلى جانب ذلك " (سطر 2) في الجملة الأولى من النصّ من شأنها أن تسقط في سوء فهم كامل لطرافة أطروحة ليبنيتز التي لا تقصي دور التجربة والاستقراء في اكتشاف الحقائق العقلية، فالغفلة عن أداة الربط المذكورة من شأنها أن تجعل القارئ يتناول قول ليبنيتز على أنه يفيد إقراره بوجود حقائق لا صلة لها البتة بالتجربة والاستقراء. ويقتضي هذا التمرين دعوة المتعلّم إلى تسطير أدوات الربط اللغوية في النص وتعيين وظيفتها المنطقية. ومن أهمّ أدوات ا لربط الواردة في هذا النص بحسب ترقيم الأسطر:
- السطر 1 : "هل ... أم .. ؟ " وتعبر عن صياغة أمية للسؤال بحيث تشير إلى أطروحتين متقابلتين إيذانا بتحليلهما والحسم في شأنهما.
- السطر 2 : "إلى جانب ذلك ..." تفيد عدم إقصاء التجربة في إكتشاف الحقائق العقلية بل إضافتها إلى جانب أساس آخر، إن وجد. وهذا يعني أن الكاتب سيقوم بعملية تعديل للأطروحة المقابلة، لا بعملية دحض أو تفنيد، مادام سيقبلها مع اعتبارها جزئية.
" ذلك أنه ..." أداة حجاج .
" ولئن كانت ... ف ...." : تفيد : " رغم أن... فإن ".
- السطر الثّالث: " من البيّن ..." تفيد الأمر الجلي الذي لا يحتاج إلى برهنة نظرا لوضوحه وهو ما يمثل حجة على الإقرار السابق وهو " أننا نضيف شيئا من عندنا في اكتشاف الحقائق التي تتجاوز التجربة ".
" و لئن كانت ... فإن ..." : تفيد : رغم أن ... فإن ... .
- السطر الرّابع: " لأن .": أداة حجاج تفيد حجة على الإقرار السابق وهو : أن الحواس وحدها غير كافية لحصول المعارف . ومضمون هذه الحجة هو أن الحواس شرط ضروري لكل معارفنا ولكنه شرط غير كاف .
- السطر الخامس : " والحال أن " : أداة تفيد استحضار حجة على ما تقدم أي أن الحواس لا تقدم سوى أمثلة أي حقائق خاصّة ومفردة.
- السطر السّابع : " إذ أنه ": أداة حجاج : تمثل حجة على الحجة السابقة : ومفاد هذه الحجة أن الأمثلة لا تكفي لإقامة برهان على الضرورة الكلية للحقائق المكتشفة.
" ومثال ذلك ...." تقديم مثال معارض لمشهور الرأي .
وضمن تقديمه لهذا المثال اعتمد الكاتب حجاجا إلتجأ خلاله إلى روابط منطقية وهي:
- السّطر التاسع: " ولكننا... لو ..." أداة استدراك تفيد التنبيه إلى مزالق في الاستنتاج.
- السّطر العاشر: " بما أن ..." : أداة تفيد تقديم برهان على التنبيه السابق .
- السطر الثّاني عشر: " بما أن حتى ...": أداة تفيد حجة من باب أولى وأحرى على أن الحقائق المستمدة من التجربة لا تكتسي طابع الضرورة الكلّية.
- السطر الخامس عشر: " ومن ثمة " أداة تفيد تقديم استنتاج بناءا على ما سبق ( وجود ا لشمس و الأرض ليس وجودا ضروريا).
" إننا لن نصل إلى هذه النّتيجة ما لم نبذل جهدا كثيرا، ومن الحكمة ألاّ نقوم بهذا الجهد بهدف إعداد أقوال مقصدها البشر بل لنكون قادرين على كلام تستحسنه الآلهة وأعمال تروق لها. " أفلاطون - فايدروس (e273)
" إسألوا أقدم الفلسفات وأحدثها فلن تجدوا واحدة منها تعي أن إرادة الحقيقة نفسها في حاجة إلى التعليل. هذا دليل على أن هناك ثغرة في كل الفلسفات ". نيتشه : جنيالوجيا الأخلاق.
· توطئة نظرية:
سنستعمل عبارة حجاج ترجمة للعبارة الفرنسية (Argumentation) وحرصا على الإجرائية التفسيرية و التمييزية لهذه العبارة سنقابلها بمفهوم " الاستدلال " كما هو مستعمل في العلوم الرياضية وبمفهوم " التحقيق " كما يمكن أن نتعرف إليه وكما هو مستغل في أبحاث علماء الطبيعة. وفضّلنا لأسباب إجرائية أن نقرن مفهوم " الحجاج " بمفهوم " الثّعليل " كما سيتضح ذلك لاحقا. لقد تبينا من خلال استقرائنا لوسائل البرهنة و التعليل في آثار الفلاسفة أن الحجاج يرتبط إرتباطا تاريخيا و مفهوميا بالخطابة وأن دراسة الحجاج تكون مثمرة إذا وازيناها بدراسة الخطابة ولو من الناحية التاريخية.
كل ناظر في تاريخ الفكر يلاحظ أن الخطابة تظهر دائما في فترة تأزم : هكذا ظهرت عند الإغريق عندما إنهارت أساطيرهم وأصبحت ( Mutos ) أي نسيجا من الكذب و الأوهام فكان العصر الذهبي للسفسطة وأصبح الفرد " مقياسا لكل شيء ". ولم تعد الأسطورة مقياسا لأي شيء . وفي عصر النهضة عجز الإرث الأرسطي من تعاليم مدرسية و مثيولوجيا على تأسيس علوم العصر وضروريّتها الرياضية فظهرت خطابة عصر النهضة. وظهرت الديكارتية وظهرت معها ذات حرة ومطلقة زعمت بكل حماسة أنها مصدر الواقع وأن البداهة هي مقياس المعرفة الحق : " ليست هناك أية طريق مفتوحة أمام المعرفة البشريّة سوى الحدس البديهي والاستنباط الضروري " : هكذا أعلن ديكارت عن المنهج الوحيد الذي يوصل إلى الحقائق المختلفة. ثم انتصرت الغاليلية وأضافت إلى سجل الحقائق الرياضية الحقائق التجريبيّة. وتأكدت الثقة في نتائج العلوم الرياضية و العلوم الطبيعية معا، وبذلك استبعدت كل الوسائل الأخرى للبرهنة باعتبارها فاقدة لكل قيمة علمية. إن هذا الموقف له ما يعلّله طالما يسود الاعتقاد أن لجميع المشاكل الإنسانية الفعلية حلولا علمية وذلك بفضل تطبيق حساب الاحتمالات ، وهو تطبيق آخذ في الانتشار. ولكن ماذا لو استعصت مشاكل أساسية من حيث طبيعتها على مناهج العلوم الرياضية و الطبيعيّة، مشاكل أخلاقية واجتماعية أو سياسية، فلسفية أو إتيقية، هل يعقل حينئذ أن ننحي جانبا كل تقنيات البرهنة الخاصّة بالمداولات و النّقاش أي بكلمة واحدة الحجاج ؟ إنه من السهل أن نصف بالسفسطة كل البراهين التي لا تخضع لمتطلبات البرهان الذي يسميه باريتو " البرهان المنطقي - التجريبي "، فإذا اعتبرنا كل الحجج من هذا القبيل حججا واهية، فإن عجز البراهين المنطقية - التجريبية يفتح مجالا واسعا للإيحاء والعنف.
إذا اعتبرنا أن كل ما هو صالح لا يكون إلا موضوعيا وغير قابل للنقاش ، فقد أقمنا هوة سحيقة بين المعرفة النظرية - باعتبارها عقلية دون سواها - والممارسة العملية -باعتبارها لا عقلية في دوافعها- وهكذا لا يمكن للممارسة أن تكون متعقلة لأن الحجاج النقدي يصبح بذلك غير مفهوم البتة. والنتيجة الأخيرة هي أن التفكير الفلسفي نفسه يفقد جدّيته ووجاهته . وبالفعل ففي هذه الحالة كل نقاش وكل مجادلة لا يمكن أن تزعم الانتماء إلى معقولية ما، وكل خلاف بين الأفراد لا يمكن حسمه بالمناهج المنطقية -التجريبيّة، يؤدي إلى ا للاّمعقول أي ميدان المداولة و النقاش والحجاج ، فالحجاج لا ينتمي إذن إلا إلى ميدان اللامعقول طالما يقع اختزال المعقول في المجال " المنطقي-التجريبي ".
ما العمل أمام وضعية كهذه ؟ هناك من ظن أنه قد وجد الحل عندما ميز بين " أحكام الواقع " و " أحكام القيمة " إعتقادا منه انه سيخلّص القيم ومقاييس أفعالنا من الإعتباط واللامعقول ، ولكن هذه المحاولة رغم جديتها فاشلة تماما، وذلك لسببين إثنين:
1 - لا يمكن إنشاء منطق لأحكام القيمة.
2 - لا يمكن تحديد مضامين أحكام القيمة وأحكام الواقع تحديدا مرضيا:
فالتفريق بين هذين الحكمين متعذر لأن مفهومي " القيمة " و " الواقع " يتداخلان بكيفية معقدة مع الواقع الاجتماعي ومساراته المتعثرة. وكل من يعتبر أن التمييز بين الواقع والقيم هو تمييز عقلي فذاك مرده إلى موقف فلسفي يعتمد بالأساس - إذا كان موقفا معقولا - على حجاج سابق . إن مسألة " أحكام الواقع " و " أحكام القيمة " لا يمكن إذن حسمها بردها إلى مقاييس كلية لأنّها موكولة حتما إلى شخصيّة رجل العلم أو الفيلسوف وإلى مسؤوليتهما المباشرة. ومن هنا نستخلص موقفا هاما من الحرية الإنسانية التي لا معنى لها إلا في نطاق حجاج لا يكون قهريا ولا تعسفيا، وذلك أن الحرية لو كانت قبولا ضروريا لنظام طبيعي لانتفت عندها كل إمكانيات الاختيار. ولكن وفي المقابل لو كانت الحرية لا تتأسس على أسباب معقولة فكل اختيار يصبح لا معقولا، ويرد إلى قرار تعسفي يتحرك في فراغ ذهني.
إن الحجاج وحده بحججه المنطقية، ولكن غير القاهرة، هو الكفيل بأن يمكننا من الخروج من هذا المأزق المتمثّل في: إما قبول حقيقة صالحة موضوعيّا وكليا، أو اللجوء إلى الإيحاء والعنف لفرض الآراء والقرارات. لقد فشلت كل المحاولات لتكوين إجماع إنساني في المجال العملي و الممارساتي ، يكون مؤسسا على وقائع أو حقائق موضوعية، لهذا السبب يفرض الحجاج نفسه ، وذلك بإنشاء وتطوير نماذج من البرهنة لم يكترث بها المناطقة ومنظرو المعرفة بتأثير من ديكارت.
لقد أصبح من التقليدي في التصور ما بعد الديكارتي للعقل أن عناصر لا عقلية تظهر في الميدان كلما كان موضوع المعرفة غير بديهي . وهذه العناصر سواء أكانت تتمثّل في عوائق يجب تحليلها وتجاوزها مثل المخيال أو الأهواء أو الإيحاء، أو اعتبرت مصادر فوق -عقلية لليقين مثل " القلب " أو " العناية الإلهية " أو " الحدس " البرقسوني فإنّها تدلنا على أن هذا التصور للعقل البشري يقسم المؤهلات الإنسانية إلى صنفين مختلفين تقسيما مصطنعا مخالفا تماما لنوع الخطوات التي يتبعها بالفعل فكرنا أثناء اشتغاله.
إن البداهة قد اعتبرت الخاصية المميزة للعقل وهذا يُعدّ اختزالا لقدرات العقل. واعتبرت قوة يجب أن يخضع لها كل فكر عاد، كما اعتبرت علامة للحقيقة. وهكذا فإن البداهة تقرن النفسي بالمنطقي فيمكن الانطلاق من أحدهما إلى الآخر، وعندها كل حجة ترد إلى البداهة وكل ما هو بديهي ليس في حاجة إلى الحجة: هكذا طبقت نظرية ديكارت في البداهة، وهكذا حرص باسكال على تطبيقها. لكن هذا التحديد قوبل بالرفض بصفة مبكرة: فليبنيتز طالب بالبرهنة على كل المصادرات الّتي ليست أولية، دون الاهتمام بدرجة قبول النّاس لها.
من المفيد هنا أن نلاحظ أن نظرية الاستدلال المنطقية قد بّلورت حسب منظور ليبنيتز لا حسب منظور باسكال ، فرفض القول بأن كل ما هو بديهي ليس في حاجة إلى البرهان. أما نظرية الحجاج فلا يمكن أن تتكوّن إذا كان كل برهان يرد إلى البداهة. ففي يومنا هذا تداعت أركان تصور معين للوغوس بسبب نهاية التفاسير النسقية والأحاديّة، وتهافتت الإيديولوجيات، وإذا غصنا أكثر في واقع عصرنا لاحظنا تصدّع المعقولية الديكارتية التي تستند إلى ذات حرة ومطلقة يزعم أنها منشئة للواقع ، بل لكل واقع .
إن الأزمة الحالية دفعت بالفكر المعاصر إلى الريبية العصرية المتمثّلة في العدمية من ناحية وإلى تضييق حدود العقل واختزاله اختزالا مطمئنا تمثّل في المنزع الوضعي من ناحية أخرى. فظهرت الخطابة الجديدة وقد تموقعت بين القول بأن كلّ شيء جائز والقول بأن المعقوليّة المنطقيّة هي المعقولية إطلاقا. إن الفكر الحديث قد وجد نفسه مجبرا على التخلي عن الديكارتية، فأفرز فلسفة ترتكز أساسا على الحنين إلى الوجود: لقد وقع الرجوع إلى مسألة الوجود والحال أن ديكارت - إذا أعرض عن الأنطولوجيا - فلأن الوجود في نظره ملتبس ، ويقال بكيفيات مختلفة ومتعدّدة، مما يجعله غير مؤهل لأن يكون أساسا للاستدلال المنطقي ولا مقياسا له.
فبين الأنطولوجيا ذات اللّيونة الجوفاء - رغم لا نهائيتها – و المعقولية الرياضية والقياسيّة رغم محدوديتها - هناك مسلك ثالث هو الحجاج، الذي يفكر دون إلزام ولكن دون أن يجبر على الإعراض عن العقل وترك المجال للاّمعقول أو لما لا يقال. فبالنسبة إلى " الخطابة الجديدة " لم يعد بالإمكان اليوم تفضيل اللغة الشفافة الخالية من الالتباس . وفي هذا الخضم أين تتموقع الفلسفة ؟
إن الفيلسوف هو ذاك الّذى يبرز ما لا يراه من ليس فيلسوفا. إنه يبرز ما لا يبرزه نمط معيّن من أنماط البحث. إن الفيلسوف يستخرج استتباعات المفاهيم المستعملة دون أن يكون من يستعملها على وعي بهذه الاستتباعات . فدور الفيلسوف يتمثّل في استخراج اللاّ مرئي بواسطة ا لوسائل التقليدية للمعرفة أي ما هو ضمني في الاستعمال المفهومي ومفترض من قبل نشاط من هو غير فيلسوف. وهو بهذا يقودنا من المعطى المباشر، إلى ما لا يظهر إلا بواسطة التفكير الفلسفي ، أي إلى الواقع الثاوي تحت الظاهر. إن قيمة النشاط الفلسفي تكمن في أولوية وأفضلية الواقع بالنسبة إلى المظهر الخارجي الذي لا يمثل إلا خطأ أو مظهرا سطحيّا من مظاهر الأشياء.
ولكن هذا الإنتقال من الظاهر إلى الكامن ، و إبراز أفضلية الثاني على الأول لا يتحقق أبدا ، لا بواسطة الاستدلال أو تقنيات المنطق الصوري ولا بوسائل التحقيق كما هي مستعملة في العلوم الخبرية بل بوسائل تقنيات الثّعليل.
إن الفيلسوف هو ذاك الذي يعيد بناء الواقع الأصلي مع إبراز أن إعادة البناء هذه ، ليست إعتباطية بل لها ما يبررها ويعللها. فدوره ليس بيان صحة قول من الأقوال، بل تعليل ما تتأسس عليه إعادة البناء تأسيسا وجيها. إن ما يسمى باللاعقلانية في الفلسفة موقف ناتج عن جهل بمعقولية مسار التعليل . إن المعقولية الفلسفية لا يمكن أن تتأسس إلا على القول بوجود تعليلات صالحة ووجيهة أي تعليلات عقلية. إن هذه الملاحظة تجعلنا نشعر بمدى الخسارة التي لحقت بالتفكير الفلسفي بسبب عدم الاكتراث بمسألة التعليل ، في حين أن الإستدلال والتحقيق قد حظيا بتحاليل معمقة منذ أرسطو. لذا فإن المسألة المطروحة علينا اليوم تبقى معرفة حقيقة التعليل ومكانته في الفلسفة، للتعرف على مفهوم " معقولية التعليل " .
إن الفيلسوف الحق هو ذاك الذي يقدم أطروحته بكيفية تجعله يجيب مسبقا على كل الاعتراضات الممكنة بحيث يجد القارئ جوابا عن كل ما يتبادر لذهنه من نقد أثناء قراءته لأطروحة الكاتب. إذن الفيلسوف هو ذاك الّذي لا يكتفي بالإقرار والجزم بل يعلل مواقفه بالإجابة عن الانتقادات والاعتراضات. إن هذا الضرب من التفكير ليس استدلالا ولا تحقيقا، بل هو تعليل ودحض ، مع العلم أنّ الفيلسوف يقبل إمكانية دحض الدحض من زاوية نظر أخرى ولاعتبارات طارئة. إن الفلسفة من هذا المنظور حوار لا ينقطع .
إن الفيلسوف أبدا ماثل أمام القضاة، أبدا منفتح للاعتراضات ، مهيأ لتعليل مواقفه أو لتعديلها عند الاقتضاء، ولكن حقائقه لا يمكن أن تكون لها الكلمة الأخيرة لأن الفلسفة مجال يخلو من قاض أعلى ومن مصير نهائي .
وانطلاقا من هذا التمثل للّحجاج الفلسفي في خصوصيته يمكن أن نعتبر أن الحقيقة متعددة بما يمكن من تجديد وجهات النظر.
وباختصار فإن فعل الحجاج الفلسفي يكشف عن محاولة جادة لجعل إسناد المعنى عملا مشتركا ينبني على اقتناع مشترك بأن الحقيقة متعددة، وهذا يضمن تعايشا بدون إقصاء أو عنف . ويمكن تدريب المتعلّمين على اكتشاف خصوصية الحجاج الفلسفي من خلال دعوتهم إلى تحليل عينات من الحجاج كما تتجلى في نصوص فلسفية بحيث يتمكنون من اكتساب القدرة على:
- ا لتمييز بين الحجاج ( Argumentation ) والاستدلال (Démonstration ).
- التمييز بين الحجاج الفلسفي والحجاج غير الفلسفي (الحجاج السفسطائي ، الحجاج الإيديولوجي ...).
- التمييز بين أطروحة فلسفية وظن أو وهم .
- ممارسة المتعلمين للحجاج بدورهم عند كتابتهم للمقال الفلسفي .
يمكن في هذا الصدد تدريب المتعلمين على تحرير فقرة حجاجية تتعلق بمشكل فلسفي محدد. ويقتضي اكتساب المتعلمين لهذه المهارة القيام بجملة من التدريبات والمهام المنهجية الفرعية والمتكاملة.
المهمة 1: الانتقال من الكلمة إلى المفهوم.
التعريف:
يتعلق الأمر بالانتباه إلى الكلمات كما ترد في صيغة موضوع إنشائي أو في نص فلسفي ، قصد التفطن إلى أنها لا تكون إلا ملتبسة لأنها مشحونة بمعان متضاربة وقد تعبّر عن طابع فردي أو جمعي ، ولكنه في كل الحالات عرضي وهذا ما يجعل منها عائقا يحول دون تحقيق مطلب الكلي ، وهو مطلب لا يمكن أن يتحقق ما لم يتم تجاوز الكلمة أو المعنى المتداول إلى المفهوم.
الهد ف:
- أن يصبح المتعلم قادرا على بلورة المفهوم طبقا لسياقه ( في الموضوع الإنشائي أو النص الفلسفي ).
- أن يصبح المتعلم قادرا على المساءلة النقدية لتمثلاته العفوية قصد اكتساب القدرة على الأفهمة وعلى التفكير المفهومي .
يمكن توعية المتعلمين بهذه الصعوبة وبهذا الاقتضاء من خلال إحالتهم على ما تمثله بعض المعاني المتداولة من إشكال (... يحسن في هذا المقام إحالتهم على بعض " محاورات " أفلاطون لأنها تمثل عيّنات نموذجية لتحليل المعاني المتداولة تحليلا نقديا بغرض الوصول إلى تعيين مضمون مفهومي محدد).
التطبيق:
- مثال أول: الموضوع المقترح:
هل يمكن للعقل أن يضع حدّا للنّزاعات ؟
لا يتعلق الأمر هنا باستعراض نظريات مختلف الفلاسفة بشأن المعنى المتداول لكلمة " عقل " الواردة في نص الموضوع ، بل يتعلق بتحليل الدلالات المختلفة لهذه الكلمة قصد الوقوف على المفهوم الملائم لسياق الموضوع. فللعقل دلالات مختلفة، إذ قد يفيد:
- النظر
- كما يفيد الرصانة (ضد التعسّف والسلوك الأهوج ).
- كما يفيد النظام (في مقابل الفوضى)
- أو التفكير السليم (في مقابل التفكير العشوائي المتأثّر بالأهواء والعواطف ).
نضيف إلى ذلك أن منزلة العقل في الخطاب الفلسفي هي منزلة مفهوم ذي دلالات محددة في سياق إشكالية مذهب فلسفي معين : كدلالة " العقل " في الفلسفة الكانطية مثلا أو دلالته عند هوبس أو لدى هيغل ... إلخ . ولا يبدو ممكنا هنا تعيين دلالة العقل الملائمة لسياق الموضوع المقترح إلا بالرجوع إلى مفهوم " النزاع " .
وهذا التحديد لا يكون إلا وظيفيا، حيث أن السؤال المطروح يتعلق بوظيفة محتملة للعقل قد تكون " وضع حدّ للنزاعات ". من أوجه النزاع يمكن أن نذكر نزاعات إيديولوجية وفكرية وسياسية واقتصادية في صلب المجتمع الواحد (بين فئاته وطبقاته ...) وفيما بين ا لمجتمعات .
يمكن التوصّل إلى حلّ النزاعات هذه بواسطة العقل باعتباره لوغوس أي ملكة إكتشاف الحقيقة عبر الحوار. فلا يبدو ممكنا وضع حد للنّزاعات إلا عبر التحاور الحقيقي الذي يتناقض مع الخطاب السفسطائي ذاك الذي يتقن استعمال الألفاظ بحيث يوهم بأننا أمام استدلال حقيقي والحال أن مدلول اللفظ يكون قد تغير في الأثناء بفعل خدعة خطابية. فمن حيث الحق ما يؤهل العقل " كلوغوس " إلى وضع حد للنزاعات هو اعتباره الملكة الأساسية الوحيدة الكفيلة باكتشاف حقيقة الوجود وذلك يفضل مبادئه الأولى البديهية واشتغاله اشتغالا منطقيا يمكن معرفته وتحديد شروط مصداقيته . وهو ما يقوم على افتراض:
- أن الحقيقة واحدة.
- وأنه بإمكان العقل اكتشاف هذه الحقيقة.
- وإن هناك حياة جماعية (.المدينة.) تمثّل فضاء لحوار يهدف إلى التعايش وفق الحقيقة.
ولكن إذا سلمنا من حيث الحق بأهلية العقل لحل النزاعات ، فماذا عن الشروط الفعلية لتحقيق هذا المطلب من قبل العقل ؟
إجابة عن ذلك يمكن القول ، أنه بالرّغم من مؤهلات العقل هذه ، لا تحل هذه النزاعات فعليا وذلك راجع:
- إما لإستعمالات غير سليمة للعقل: انظر نقد أفلاطون للسفسطائيين ، أو تحليل ديكارت لمفهوم الخطأ.
- أو إلى عدم إمكانية التغلب على الأهواء، مما يعرقل مسعى العقل إلى إقامة الحوار بدل العنف ، هذا إذا لم تنجح الأهواء في تسخير العقل نفسه لخدمتها (مما يؤول إلى نوع من تألية العقل ).
إن التحليل السّابق يفترض صلوحيّة العقل لحلّ النّزاعات ، ويرجع الفشل في حلها إلى سوء استعمال للعقل أو إلى تغلّب الأهواء والمصالح وتسخير العقل نفسه خدمة لهذه المصالح. وعندها يصبح العقل لا المشرّع ولا صاحب القرار بل أداة طيعة وناجعة لتحقيق الرغبة والمصلحة فالمجموعات المتنازعة تدخل في صراع بعضها مع بعض وتنظم ذاك الصراع طبقا لمقتضيات عقلية، وفي هذا ما يبرر الحديث عن تنوّع المعقوليات واختلافها باختلاف مجالات الممارسة الاجتماعية: معقولية علمية، معقولية تقنية ...
حل النزاعات ليس موكولا إذن للعقل كما حدد سابقا. فلا يبقى إذن إلا أن نيأس من قدرة العقل على حل النزاعات ونجيب عن السؤال بالنفي القاطع أو أن نحاول إعادة صهر مفهوم العقل علّنا نجد مضمونا مفهوميّا يُمكننا من حلّ المشكل وتحديد شروط وضع حد للنزاعات اعتمادا على العقل:
من المسببات الرئيسية للنزاعات الإختلاف ( في اللون وفي الدّين وفي اللغة وفي الجنس ، وفي الطبقة الاجتماعية وفي الحضارة ...) فهلاّ يمكن وضع حدّ للنزاعات إلا بالقضاء على الإختلاف ؟ لو فعلنا لسقطنا عندها في أبشع أشكال الكليانية، والدغمائية التي ستعزز حتما مزيدا من العنف والنزاع .
يبقى إذن حلّ واحد وهو الإبقاء على الاختلافات ، وجعل " احترام الحق في الإختلاف " قاعدة كلية، وهذا يجعلنا نحدد العقل تحديدا جديدا : فهو ليس ذلك العقل المغلق ذي المبادئ والمقولات الثابتة و الكلية، ولا هو مجرد أداة تخدم مصلحة الأهواء ( كاليكلاس ) أو مصالح عرقية أو ميولات هدامة، بل هو عقل منفتح يعيد النظر نقديّا في السائد، و يتمظهر عند إشتغاله في شكل معقوليّات مختلفة : معقولية علميّة (بأنواعها)، معقولية فلسفية، معقولية تقنية ... ولكن أيضا معقوليّة الأسطورة، إلخ ، وتعدّد هذه المعقوليات مؤشر عن عقلانيّة منفتحة تقبل بالتعدد والاختلاف مما يجعلها مؤهلة لحلّ النزاعات . وهذه العقلانية المنفتحة ينبغي أن يوجهها اشتغال معياري للعقل يشرّع فيه العقل لما هو في صالح جميع البشر. والعقل بهذا المعنى وريث اللوغوس الإغريقي الذي يقيم الحوار و التفاهم ، ووريث
" الراسيو " الرومانيّة التي تتقن الحساب و التنظيم ، ووريث " العقل " ا لذي يعقل قوى التدمير ويمنعها من ا لتأثير، وإجمالا يتعلق الأمر هنا وجوبا بالعقل لأن ما لا يحسم فيه العقل لا يمكن رجاء أن يحسم بغيره . وكما يقول ب . فاليري : " بين البشر ليس ثمة غير الحرب أو المنطق "وهذا العقل يكون دائما في حالة طوارئ حتى ينسق بين مختلف المعقوليات ضمانا لسيادة السلم الدّائمة بين البشر.
من الواضح أن العقل بهذا المفهوم ، حتى وإن بدا محدود الفعالية والنّجاعة، فإنه يظل فكرة ناظمة ضرورية لحل النزعات أو الحد منها.
- مثال ثان : الموضوع المقترح :
هل يمكن أن نكون أحرارا اليوم ؟
من مستجدّات " اليوم " عوامل عديدة جعلت هذا السؤال ممكنا بل ضروريّا، من ذلك اكتشاف " موت الذات " اعتمادا على ما توصّلت إليه " العلوم الإنسانية " كالتحليل النفسي و الانثروبولوجيا البنيوية ... إلخ ، من نتائج شككت في استقلال الإنسان وفي استعماله الحر لإرادته وفي تشريعه ذاتيّا لقوانينه ، وهو ما يوحي بنوع من المفارقة إذا قيس على ما توصلت إليه التقنية الحديثة من وسائل ناجعة للسيطرة على الطبيعة ولتغيير كيفية العيش .
ومن هنا نستخلص مفهوم " الحرية " المعني في هذا السّؤال بما هي تصرف إرادي صادر عن وعي كامل بالذات لا يكون في تبعية لمحددات داخلية أو خارجية، وهو المفهوم الذي ساد كلاسيكيا داخل " فلسفات الذّّات ".
وفي ضوء هذا التحليل نتوصل إلى أن مفهوم " الحرية " في صيغة الموضوع هو المفهوم الكلاسيكي المشار إليه أعلاه ، ولكن بعد أن اتضحت لنا مستجدات العصر ( التي يحيل إليها لفظ " اليوم " في صيغة الموضوع ) يتوجب علينا إعادة النظر في هذا المفهوم الكلاسيكي للحربّة وإعادة صهره ، بحيث يصبح ملائما للمشكل المطروح ويسمح بالبحث عن حل له . وعندها يمكن فهم الحرية :
- إما بما هي مطلب واقتضاء يتمثّل في مغالبة مختلف العوائق التي تحول دون تحرر الإنسان ، وهو ما
يجعل من الحريّة، لا معطى جاهزا أو وضعا ثابتا بل مسار تحرر.
- أو بما هي ثمرة إعادة تأويل للدلالات المختلفة الّتي يتقبلها الإنسان سلبيا ( في شأن الحياة و الموت و الذات و الآخر و العالم و السعادة ...) للقطع معها و إنتاج دلالات جديدة إنتاجا واعيا يتمكن في ظلها الإنسان من أن يعيش استقلاليته الحقيقية.
هكذا نرى أن التحليل ، كلما تقدم إلا واستوجب إعادة نظر في مضمون المفهوم لصهره من جديد بشكل يجعله يتلاءم مع تطور مراحل البناء الإشكالي.
· المهمة2: تحديد المفاهيم تحديدا سياقيا.
التعريف:
عادة ما يعتقد المتعلم أن الكلمة تحمل معناها في ذاتها ولا يتفطن إلى أن دلالة الكلمة تكمن أساسا في علاقاتها بما يجاورها من كلمات أخرى ومفاهيم مجسدة في كلمات واردة في النص وأخرى " منبثة " بدون تجسيد أي بدون حضور معجمي ذلك مثلا شأن مفهوم " الروح " الحاضر بدون سند معجمي في نص ليبنيتز (انظر ص : 27 من هذه ا لوثيقة ). فالتمييز بين المعجمي و المفهومي هو ا لذي يجعل من السياق منطلقا ضروريا لتحديد المفاهيم ، و الكلمة معزولة لا تمثل مفهوما.
ملاحظة:
هذا لا يعني الاستغناء عن المعاجم ، بل المشكل يتمثل فقط في كيفيّة استعمال المتعلم لها. ينبغي أن يكون اعتماد المعجم في خدمة التحديد السياقي للمفهوم كما ورد في القول المدروس .
الهدف:
أن يصبح المتعلم قادرا على بلورة المفهوم وتحديده طبقا لسياقه وللإشكالية الّتي يتنزل فيها، وبالتالي على تفادي المزلق المتمثّل في سوء فهم للنّص ، نتيجة الخلط بين ما هو معجمي وما هو مفهومي .
التطبيق:
النّصّ المقترح : " الدّين والحاجة إلى التماسك الاجتماعي ": دوركايم ( كتاب " أنا أفكر " آداب )
يمكن أن يساء فهم نصّ من النّصوص بسبب موقعه في الكتاب المدرسي وفي سير الدرس ويغفل عن محتواه الحقيقي ويقرأ من خلال المسألة التي أدرج ضمنها كسند ويرجع ذلك أساسا إلى عدم انتباه لمضمونه وسياقه الحقيقي وإلى تطويعه تعسّفيّا لمقتضيات الأهداف التي يعمل الأستاذ على بلوغها.
يتعلق هذا النص لدركايم بالنظر في ما يصنع وحدة المجتمع ويضمنها ويجيب الكاتب عن ذلك بأنه يتمثل في توحيد المشاعر والتصوّرات : " وليس ممكنا أن يوجد ... وحدته " ( السطر: 2 ) وهو ما يمثل نوعا من القانون السيوسيولوجي .
و السؤال يطرح عن كيفية تحقيق وحدة المشاعر و التصورات هذه ، والجواب هو أن ذلك إنما يتم بواسطة الاتحادات والجمعيّات و التكتلات . فما هي وسائل هذه الاتحادات في تحقيق هدفها ؟
وسائلها إنما هي " الرموز " : يمكن أن تكون دينية ويمكن أن تكون غير دينية (قومية أو أخلاقية.. .)
هل هذه الرموز خالدة ؟ إنها في الواقع رموز عارضة وطارئة وخاصّة فنوع من الاحتفالات (دينية كانت أو قومية ... إلخ ). .
هل يمكن أن نستخلص من ذلك مضمون مفهوم الدّين ؟
في الدين ما هو جوهري وما هو عرضي : الجوهري فيه هو وظيفته المتمثّلة " في تأكيد المشاعر المشتركة" لمجموعة ما (وليس هذا حكرا على الدين إذ يمكن لهذه الوظيفة أن تتحقق بواسطة الاحتفالات القوميّة مثلا ) وما هو عرضي هو الرموز التي يتمظهر الدين بواسطتها، إذن ما هو جوهري في الدين ليس الدين . النص إذن لا يتعلق بالدّين بل بوظيفة اجتماعية يمكن أن تتحقق من خلال الدين أو غيره . يقول دركايم في نصه : " فأين وجه الاختلاف الجوهري بين ..." (ا لسطر 6 و 7 و . من مزالق التأويل هنا إذن :
- اعتبار أن هذا النص يتعلق أساسا بالدّين والحال أنّه يتعلّق أساسا بما يضمن وحدة المجتمع وهي وحدة ضرورية لبقائه ، و التي تتحقق بواسطة رموز يمكن أن تكون دينيه كما يمكن أن تكون غبر دينيّة.
- أن يستنتج من عبارة " يوجد ما هو خالد في الدين " (السطر الأول ) أن الدّين خالد.
- أن يستنتج من أن " الدين يضمن ا لتماسك الاجتماعي " أن لا تماسك اجتماعي بدون دين. وهذا خطأ بالرّجوع إلى صريح سياق النّصّ من جهة وخطأ من وجهة نظر منطقيّة من جهة أخرى :
فمن القضيّة: كل أ هي ب لا يمكن أن نستنتج أن كلّ ب هي أ بل: بعض ب هي أ. كذلك من القضية : كل دين يضمن التماسك الإجتماعي لا يجوز أن نستنتج : كل تماسك اجتماعي لا يتحقق إلا بالدين بل الصحيح أن نستنتج : من بين وسائل التماسك الاجتماعي الدّين .
- مزلق في فهم بعض العبارات الواردة في النصّ، من ذلك :
· " الأناجيل الجديدة " : وهي عبارة لا تعني ديانات جديدة بل تعني رموزا جديدة تستعملها التكتلات الاجتماعية لضمان وحدة المجتمع الضرورية لبقائه مثلا : إحياء ذكريات وطنية، وما الرموز التي تعبر عنها، كالنصب التذكارية وباقات الزهور و احترام دقيقة صمت واستعمال المشعل وتحية العلم ... إلا وسائل مختلفة ومتغيرة لضمان الوحدة الاجتماعية.
· " إيمان جديد " : كلمة إيمان لا تعني هنا إيمانا دينيا بل اعتقادا يؤول إلى تماسك الجماعة وهو اعتقاد يتمظهر بأشكال مختلفة كتلك التي ظهرت عبر التاريخ ، وقد يتخذ في المستقبل أشكالا جديدة ليس بمقدورنا تحديدها مسبقا.
· " جوهر الأمور " جوهر الأمور ليست الرموز التي يتلحّف بها الروح الديني أو الروح القومي بل جوهرها يتمثل في ضمانها لوحدة المجتمع .
وبناءا على ما سبق ذكره يمكن أن نستخلص أن المفاهيم الأساسيّة في هذا النص هي :
- " الرموز " ( التي يتلحّف بها الفكر الديني ) : إحالة إلى ما هو خارجي وإلى الطابع العرضي لهذه الرموز.
- " المشاعر و التصورات الجماعية "
- " وحدة المجتمع "
- " دين "
وتتمحور هذه المفاهيم حول مفهوم نواة وهو مفهوم " وحدة المجتمع ".
ملاحظة:
يعتبر مفهوم " الدين " هاما في النّص لكن قد يساء تأويله ، وهو ما أشرنا إليه أعلاه . وتفاديا لذلك يمكن دعوة المتعلّمين إلى قراءة النص قراءة يتمكنون في ضوئها من تحديد مفهوم " الدين " سياقيا، ودعوتهم إلى استخراج القضيّة الأساسية (أي أطروحة النص )، وإذا هم أساؤوا تحديد القضية الأساسية، فإنهم سيسيئون تحديد المفاهيم الأساسية
· المهمة 3 : استخراج شبكة المفاهيم في النص الفلسفي.
التعريف:
إن المفاهيم في النص الفلسفي غير مستقلة بعضها عن بعض ، بل هي تتحدّد بمقتضى العلاقات المختلفة التي تربط بينها في إطار شبكة مفهومية مخصوصة.
الهدف:
أن يصبح المتعلّم قادرا على:
- إجلاء العلاقات القائمة بين المفاهيم.
- التمييز بين ما هو أساسي وما هو فرعي منها، وذلك في علاقة وطيدة بالمحتوى الفلسفي للنص .
- تجنّب سوء فهم النص الناتج عن عدم تمثل للعلاقات الرابطة بين المفاهيم الواردة فيه أو الغفلة عنها تماما.
التطبيق:
النصّ المقترح: نص لليبنيز من مؤلفه " محاولات جديدة حول الذهن البشري ".
" هل أن كل الحقائق رهينة التجربة أي الاستقراء والأمثلة أم هناك حقائق لها إلى جانب ذلك أساس مغاير ؟ ذلك أنه إن كانت بعض الأحداث قابلة للتوقع قبل أي اختبار لها، فإنّه من البين أننا في ذلك التوقع نضيف شيئا ما من عندنا. ولئن كانت الحواس ضرورية لكل معارفنا الحاصلة فإنّها غير كافية البتة لتعطينا جميع هذه المعارف لأن الحواس لا تقدم أبدا سوى أمثلة، أي حقائق خاصّة أو مفردة، والحال أن كل الأمثلة التي تؤكد حقيقة عامة لا تكفي - مهما كان عدد هذه الأمثلة - لإقامة برهان على الضرورة الكلية لهذه الحقيقة عينها، إذ أنّه لا يلزم أن ما حدث سيتكرر حدوثه ، ومثال ذلك أن الإغريق و الرومان وكل شعوب الأرض الأخرى المعروفة لدى القدامى قد لاحظوا دوما أنه قبل انقضاء أربع وعشرين ساعة ينقلب النّهار إلى ليل والليل إلى نهار. و لكنّنا نكون قد أخطأنا لو اعتقدنا أن نفس القاعدة تلاحظ في كلّ مكان آخر، بما أن التجربة منذ ذلك الحين قد برهنت على عكس ذلك أثناء الإقامة في مجموعة من الجزر في المحيط المتجمد القطبي ، ويخطئ ذلك الذي يعتقد أن هذه القاعدة تمثّل حقيقة ضرورية وخالدة على الأقل محليا عندنا، بما أن حتى وجود الأرض والشمس نفسيهما ليس وجودا ضروريا بل قد يأتي وقت ينقرض فيه هذا النّجم الجميل على الأقل في شكله الحالي ، كما قد تنقرض منظومته بأكملها.
ومن ثمة يتجلى أن الحقائق الضرورية مثل الّتي في الرياضيات المحض - وخاصّة في علم العدد (الأرثمطيقا) والهندسة - لا بدّ أن تكون لها مبادئ لا يخضع البرهان عليها للأمثلة أصلا، ولا يخضع بالتالي لشهادة الحواس رغم أنه لولا الحواس لما خطر لنا أبدا أن نفكر في تلك الحقائق ."
ليبنيتز
"محاولات جديدة في الذهن البشري "
يقتضي استخراج شبكة المفاهيم في هذا النص:
- فهم أطروحة الكاتب المتمثّلة في اعتباره أن الوقائع والأمثلة والملاحظات الحسية لا تمثل شرطا كافيا لبلوغ معرفة علمية أي معرفة تكتسي طابع الضرورة والكلية، بل أن تحقيق هذه المعرفة متوقف على ما يقوم به العقل ذاته من بناء للمعرفة بواسطة ما يتوفر عليه من مبادئ ضرورية تتجلّى فعاليتها بكل وضوح في الرياضيات وتلك المبادئ هي التي تضمن المعرفة من كلّ احتمال أو ريب .
- فهم الأطروحة ا لمقابله والمتمثّلة في التصور الخبري (أو الامبريقي ) للمعرفة (كما تجسد في أعمال لوك مثلا الذي يقول : " ما من شيء في العقل إلا وقد سبق وجوده في الحس " ).
- إفتراض وجود مفهوم ضمني مبثوث في النّصّ دون حضور معجمي ، وهو مفهوم " الروح ".
إستخراج المفاهيم ثم ترتيبها وفق جدول مزدوج من التقابلات:
الحواس الرّوح
التّجربة
أمثلة إستقراء مبادئ
حقائق خاصّة حقيقة عامّة حقائق ضروريّة ( مثل التي في الرياضيات )
أو مفردة ضرورة كلّية
يتبيّن في ضوء هذه الشبكة أن كل مفهوم يتحدد بالمفاهيم الأخرى:
فمفهوم "الحقيقة" في هذا النص يتفرع إلى:
- " حقيقة خاصّة " (أو مفردة) : مصدرها الحواس وتتجلى في أمثلة وفي عينات محدد ة .
- " حقيقة عامة ": ناتجة عن الاستقراء والتعميم وتفتقر بفعل ذلك إلى خاصيتي الضرورة والكلية مثلا: الشمس تشرق ( بوجه عام )
- " حقيقة ضروريّّة ": تتميز بخاصيتي الضرورة و الكليّة : وهي حقائق لا يملك العقل إلا أن يقبلها لأنها ضروريّة بالمعنى المنطقي . مثال ذلك : الحقائق الرّياضية، و القوانين الفيزيائية (يبرر ليبنيتز طابع الضرورة في القوانين الفيزيائية بمبدأ أساسي في العقل وهو " مبدأ العلّة ا لكافية ". يتجلّى استرداديا في ضوء الاشتغال على هذه الشبكة أن الأطروحة المقابلة - أطروحة ج . لوك - تقتصر في نظر ليبنيتز على " الحقائق الخاصّة أو المفردة " و" الحقائق العامة " ولا تستطيع بالتالي أن تفسر وجود حقائق ضروريّة تكتسي طابع الضرورة و الكلية ( الحقائق الرياضية مثلا )
هل أن الحقائق تابعة للتجربة وثمرة للتعميم أم أن هناك حقائق ضروريّة وكلية ؟ ذلك هو المشكل الذي واجهه الكاتب ولجأ في معالجته إلى مفاهيم مثل " الكلّية "، " المبادئ "، " الضرورة " ... يتحدد مضمونها سياقيا، كما اقتضى منه إعادة صياغة لمفهوم " العقل " من خلال محاورة المنظورين العقلاني ( ديكارت ) والخبري ( لوك ) - يمكن تجسيم هذه المهمة كذلك على نص أرسطو : " الإنسان حيوان سياسي " ( كتاب " أنا أفكر" آداب ).
· المهمة 4 : الاشتغال على الروابط المنطقية في النص الفلسفي .
التعريف:
تندرج هذه المهمة ضمن الاشتغال على " الإستراتيجيات الخطابية " المعتمدة في النص الفلسفي ، فلما كان النص الفلسفي نصّا حجاجيّا فإنه يعتمد أثناء عملية الحجاج على أدوات ربط منطقية يمفصل بها القضايا أو الأحكام . وهذه العلاقات المنطقية من قبيل علاقة السبب بالمسبب ، أو علاقة المبدأ بتبعاته ...، يعبّر عنها بواسطة أدوات ربط لغوية مثل : " لو...." " إذا " " بما أن ..." " لكن ..." " إذن ".
يتعين التنبيه هنا إلى أن هذا التمرين لا يهدف إلى استخراج البنية المنطقية الشكلية للحجاج والاقتصار على تحليلها، مما يضيع المعنى ويسقطنا في الصورانية، بل يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار المضمون الفلسفي للنص من جهة كونه يطمح إلى إقناع المخاطب ضمن عملية تواصليّة تهدف إلى الحقيقة.
الهدف:
أن يصبح المتعلم قادرا على:
- فهم تمفصل قضايا النص تهيؤا للقيام برصد وحدات مسار الحجاج فيه .
- حسن استعمال أدوات الربط هذه عند كتابة المقال الفلسفي .
- تفادي المزلق المتمثّل في سوء فهم النص بسبب سوء فهم رابطة من الروابط المنطقية أو بسبب الغفلة عنها.
التطبيق:
- النّص المقترح: نص ليبنيتز من مؤلفه : " محاولات جديدة حول الذهن البشري "
إن الغفلة عن أداة ربط مثل " إلى جانب ذلك " (سطر 2) في الجملة الأولى من النصّ من شأنها أن تسقط في سوء فهم كامل لطرافة أطروحة ليبنيتز التي لا تقصي دور التجربة والاستقراء في اكتشاف الحقائق العقلية، فالغفلة عن أداة الربط المذكورة من شأنها أن تجعل القارئ يتناول قول ليبنيتز على أنه يفيد إقراره بوجود حقائق لا صلة لها البتة بالتجربة والاستقراء. ويقتضي هذا التمرين دعوة المتعلّم إلى تسطير أدوات الربط اللغوية في النص وتعيين وظيفتها المنطقية. ومن أهمّ أدوات ا لربط الواردة في هذا النص بحسب ترقيم الأسطر:
- السطر 1 : "هل ... أم .. ؟ " وتعبر عن صياغة أمية للسؤال بحيث تشير إلى أطروحتين متقابلتين إيذانا بتحليلهما والحسم في شأنهما.
- السطر 2 : "إلى جانب ذلك ..." تفيد عدم إقصاء التجربة في إكتشاف الحقائق العقلية بل إضافتها إلى جانب أساس آخر، إن وجد. وهذا يعني أن الكاتب سيقوم بعملية تعديل للأطروحة المقابلة، لا بعملية دحض أو تفنيد، مادام سيقبلها مع اعتبارها جزئية.
" ذلك أنه ..." أداة حجاج .
" ولئن كانت ... ف ...." : تفيد : " رغم أن... فإن ".
- السطر الثّالث: " من البيّن ..." تفيد الأمر الجلي الذي لا يحتاج إلى برهنة نظرا لوضوحه وهو ما يمثل حجة على الإقرار السابق وهو " أننا نضيف شيئا من عندنا في اكتشاف الحقائق التي تتجاوز التجربة ".
" و لئن كانت ... فإن ..." : تفيد : رغم أن ... فإن ... .
- السطر الرّابع: " لأن .": أداة حجاج تفيد حجة على الإقرار السابق وهو : أن الحواس وحدها غير كافية لحصول المعارف . ومضمون هذه الحجة هو أن الحواس شرط ضروري لكل معارفنا ولكنه شرط غير كاف .
- السطر الخامس : " والحال أن " : أداة تفيد استحضار حجة على ما تقدم أي أن الحواس لا تقدم سوى أمثلة أي حقائق خاصّة ومفردة.
- السطر السّابع : " إذ أنه ": أداة حجاج : تمثل حجة على الحجة السابقة : ومفاد هذه الحجة أن الأمثلة لا تكفي لإقامة برهان على الضرورة الكلية للحقائق المكتشفة.
" ومثال ذلك ...." تقديم مثال معارض لمشهور الرأي .
وضمن تقديمه لهذا المثال اعتمد الكاتب حجاجا إلتجأ خلاله إلى روابط منطقية وهي:
- السّطر التاسع: " ولكننا... لو ..." أداة استدراك تفيد التنبيه إلى مزالق في الاستنتاج.
- السّطر العاشر: " بما أن ..." : أداة تفيد تقديم برهان على التنبيه السابق .
- السطر الثّاني عشر: " بما أن حتى ...": أداة تفيد حجة من باب أولى وأحرى على أن الحقائق المستمدة من التجربة لا تكتسي طابع الضرورة الكلّية.
- السطر الخامس عشر: " ومن ثمة " أداة تفيد تقديم استنتاج بناءا على ما سبق ( وجود ا لشمس و الأرض ليس وجودا ضروريا).
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem
» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني
» لست أدري! لست أدري!
27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني
» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني
» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني
» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني