بحـث
المواضيع الأخيرة
اشكالية مفهوم الحق
صفحة 1 من اصل 1
اشكالية مفهوم الحق
الحق
الطرح الإشكالي
الحق مفهوم متعدد المعاني، تمتد دلالاته إلى الحقل المعرفي المنطقي، الأنطلوجي، الإجتماعي والأخلاقي...لكونه مفهوما ذا طبيعة أكسيولوجية معيارية يتعلق بالفاعلية البشرية في مختلف تجلياتها. وسنقتصر فيما يلي على دلالته العملية، حيث تُعرِّفه المعاجم بأنه: " ما لايحيد عن قاعدة أخلاقية، يعني ماهو مشروع وقانوني في مقابل ما هو فعلي وواقعي، إنه فعل فعل أو الإستمتاع بشيء أو إلزام الغير به تبعا لقواعد تحكم العلاقات بين أفراد ينتمون إلى نفس المجتمع"
وبسبب الطبيعة الجذرية للتفكير وللسؤال الفلسفي، يجد الفيلسوف نفسه على الدوام وجها لوجه أمام سؤال المرجعية والأصل والتأسيس: فما دام تعريف الحق يحيل على مفهوم القاعدة، فلامناص من التساؤل عن مصدر هذه القاعدة ومشروعيتها: علام تتأسس قواعد ومبادئ الحق وحقوق الإنسان تحديدا؟ مالذي يبرر ويشرعن إعلان حق ما باعتباره كذلك؟ ماأصل هذه الحقوق؟ ومادام الإنسان كائنا مزدوجا، طبيعيا بيولوجيا وثقافيا عاقلا، فهل يتأسس الحق على الطبيعة أم على الثقافة؟ هل الحق قيمة طبيعية تشرعها طبيعة الإنسان الأصلية أم قيمة ثقافية تضيفها ثقافته المحدثة؟ ومادام مفهوم القاعدة يوحي بمعاني الحدود والضوابط، فهل ينتمي الحق إلى ما هو مؤسساتي قانوني وإلزامي، أم ينتمي إلى الحقل الأخلاقي فيخاطب الضمير والإلتزام؟
الحق بين الطبيعي والثقافي
قدمت نظرية الحق الإلاهي أقدم الأجوبة على سؤال المرجعية والتأسيس: فقد أُعتُقِدَ أن الحاكم إله أو نصف إلاه أو من سلالة الآلهة أو يتلقى الشرائع منها. وكل الحقوق (حقوقه وحقوق المحكومين) نابعة من هذه الصفة أو التفويض الإلاهي. وسيتعين إنتظار عصر النهضة ثم الأنوار لنشهد انتعاش نظرية الحق الطبيعي مجددا. فقد لوحظ على الدوام صعوبة تأسيس الحق على الثقافي المتعارض والمختلف بإختلاف المجتمعات والحقب التاريخية، مما دفع باسكال أن يكتب ذات مرة: "يا لبؤس العدالة التي يحدها نهر! أفكار صائبة هنا، خاطئة وراء جبال البرانس! " ولتجاوز هذه المفارقات، اعتُبرت مبادئ الحق وحقوق الإنسان طبيعية أي متجذرة في الطبيعة الإنسانية ومحايثة لها، مستقلة عن الثقافة وإرادة المشرعين، لأنها سابقة منطقيا وزمنيا على المجتمع والثقافة.
نظريات الحق الطبيعي
قدم هوبز واحدة من أهم صياغات نظرية الحق الطبيعي في كتابه التنين، حيث عرَّفه بأنه الحرية التي لكل إنسان في أن يتصرف كما يشاء في إمكاناته الخاصة للمحافظة على طبيعته وحياته الخاصة، وأن يفعل كل مايرتئيه نظره وعقله ناجعا لذلك. وعليه فالحق الطبيعي أو حق الطبيعة هو الحق في الحياة والحق في المحافظة عليها والحرية المطلقة في حماية الوجود البيولوجي والدفاع عنه. وقد استخلص إسبينوزا نتائج ذلك حين لاحظ أن الحق الطبيعي للكائن يمتد منطقيا وفعليا بامتداد قدرته ورغبته: فحيث تتوقف قدرات الكائن تتوقف حقوقه. وبموجب هذا المبدأ، فلكل كائن أو موجود طبيعي حقا مطلقا في البقاء على وضعه وحقا مطلقا على كل مايقع تحت قدرته، وقواعد هذا الحق تمليها طبيعة الفرد الذي تحتم عليه أن يوجد ويسلك على نحو معين.
بيد أن روسو لايشاطر هوبز نظرته التشاؤمية إلى الطبيعة الإنسانية، كما لاينظر كإسبينوزا إلى الإنسان ضمن نظام الطبيعة الشامل: إذ ليس الإنسان في الأصل ذئبا لأخيه الإنسان، بل العكس هو الصحيح: إنه طيب بالطبع شرير بالإجتماع. وإذا صح ذلك، فإن حالة الطبيعة هي الحالة المثلى لسيادة العدل والحرية والمساواة وهي بالضبط الحقوق الطبيعية، التي لم تلبث أن تلاشت بسبب ظهور الأشكال الأولى للإجتماع والملكية وما نجم عنها من التفاوت.
يمضي جون لوك في نفس المنحى الروسوي، موضحا في نفس الوقت الأساس المنهجي العام لنظريات الحق الطبيعي، يقول:" لكي نفهم السلطة السياسية فهما صحيحا ونستنتجها من أصلها يجب أن نتحرى الحالة الطبيعية التي وجد عليها جميع الأفراد، وهي حالة الحرية الكاملة في تنظيم أفعالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم بما يظنون أنه ملائم لذلك، ضمن قيود قانون الطبيعة، دون ان يستأذنوا إنسانا أو يعتمدوا على إرادته، وهي أيضا حالة المساواة حيث السلطة والتشريع متقابلان لايأخد الواحد أكثر من الآخر، إذ ليس هناك حقيقة أكثر بداهة من أن المخلوقات المنتمية إلى النوع والرتبة نفسها المتمتعة كلها بالمنافع نفسها التي تمنحها الطبيعة وباستخدام الملكات نفسها، يجب أيضا أن يتساوى بعضهم مع بعض. "حالة الطبيعة" إذن هي حالة الحرية والمساواة التي يكون عليها الناس ينظمها "قانون الطبيعة" نفسه، الذي يرمي إلى "حفظ الجنس البشري وضمان سلامته والذي يؤول أمر تنفيذه إلى كل إنسان، قبل أن تقوم فيهم سلطة تحد من حقهم في ممارستهما -أعني الحرية والمساواة-. وقد شدد لوك بشكل خاص على حق المِلكية النابع من امتلاك الإنسان لنفسه وجسمه ومن ثم ثمار عمله.
رغم مانلاحظه من إختلاف بين منظري الحق الطبيعي في فهم الطبيعة الإنسانية وكذا حالة الطبيعة،إلا أنهم يتبعون نفس الإجراء المنهجي المتمثل في تجريد الإنسان من كل المحددات الثقافية والتاريخية من أجل استنباط حقوق محايثة لطبيعته؛ ثم إن هذا الإختلاف يتلاشى، لأن نظريات الحق الطبيعي تتحول في النهاية إلى نظرية للعقد الإجتماعي. لماذا؟
فحتى لو افترضنا مع روسو ولوك ضد هوبز بأن حالة الطبيعة حالة سلم ومساواة، فإنها تنقلب لامحالة إلى حالة من الفوضى والنزاع مما يحتم حسب لوك تأويل وتطبيق "قانون الطبيعة" بالصورة التي تضمن حقوق كل فرد، وهذا لا يتأتى إلا ب "إقامة ضرب من الاتحاد بينهم يحمي شخص كل واحد منهم ويمكنه من ممارسة حقوقه ويسمح لكل منهم، وهو متحد مع الكل، بأن لا يخضع إلا لنفسه، وبالتالي يبقى متمتعا بالحرية الني كانت له من قبل". بيد أن هذا النزاع يتخد عند هوبز صفة شاملة هي" حرب الكل ضد الكل" التي لا مخرج منها إلا بتنازل الأفراد عن كل حقوقهم لأمير قوى يجمع بيده كل أسباب القوة من أجل أن يكفي الناس شر بعضهم البعض؛ في حين يراهن العقلاني اسبينوزا على الطبيعة العاقلة للإنسان ليستنبط منها مبادئ العقد الإجتماعي الجديد: فإذا كان البشر يسعون إلى جلب الأمان والمنفعة، فإن مبادئ العقل كفيلة بتحقيق نفع حقيقي لهم، لأنها تحث على التوحد والنظام عوض التشتت، وذلك بنقل حق الفرد في كل شيء إلى الجماعة ومعاملة الآخرين بمثل مانحب أن نعامل به والمحافظة على حقهم كما لو كنا نحافظ على حقنا الخاص.
نخلص إلى القول مع لوك وروسو - ممثلا التأويلات الأكثر ديموقراطية للعقد الإجتماعي - بأن تنازل الناس عن حقوقهم للإرادة الجماعية، التي تجسمها الدولة، بموجب هذا العقد الاجتماعي، هو تنازل شكلي، الغاية منه إقرار الحق في الحرية والمساواة على أساس اجتماعي. أما القوانين التي تضعها هذه الأخيرة فهي إنما تكتسي شرعيتها من كونها تعبر عن الإرادة العامة للناس، وهي الإرادة التي تلتمس المصلحة المشتركة وتسعى إلى الخير العام. وهكذا تجد "حقوق الإنسان الطبيعية" مجال تحققها من خلال تحولها إلى "حقوق مدنية". بمعنى أن الإنسان - حسب السياسي الأمريكي طوماس بين - لم يلج الحالة الإجتماعية لكي تسوء أحواله أو لكي يتمتع بحقوق أقل من تلك التي كان يتمتع بها وإنما ولجها لتضمن له هذه الحقوق بشكل أكبر. وواضح أن الإحالة على "الطبيعة" هنا معناها تأسيس الحق على مرجعية سابقة على كل مرجعية تاريخية: فالطبيعة سابقة على كل ثقافة وحضارة، على كل مجتمع ودولة، وبالتالي، فهي مرجعية كلية مطلقة، ومن ثَمّ فالحقوق التي تتأسس عليها هي حقوق كلية مطلقة كذلك.
نسبية الحق بنسبية مبادئه
رغم القوة النظرية والعملية التي تتمتع بها نظرية الحق الطبيعي، إلا أن البعض لايرى في مرجعية الطبيعة سوى مفهوم إفتراضي يفتقد إلى الإجماع حول مضمونه: إذ يبدو أن البشر عرفوا على الدوام أشكالا من التنظيم مَهْما كانت بدائية بسيطة، مما يشكك في مفهوم حالة الطبيعة الفرضية أصلا؛ إضافة إلى صعوبة تحديد محتوى الطبيعة الإنسانية الذي تعرض في القرن العشرين للمراجعة سواء من طرف العلوم الإنسانية أو الفلسفة الوجودية. مما يجعل الإجماع حول مبادئ عقلانية كونية أمرا مستبعدا، لأن هذه المبادئ نفسها تتجاهل المحددات الثقافية النسبية. ألا ينبغي بالأحرى الحديث عن الحق في بعده النسبي الثقافي؟
تأسيسا على هذه الملاحظات، لاترى الوضعية القانونية في أطروحة الحق الطبيعي سوى إنشاءات ميتافيزيقية لاتحقق شروط العلمية كما تفهمها الإبستملوجيا الوضعية الملتزمة بأحكام الواقع (ماهو كائن) لابأحكام القيمة (ماينبغي أن يكون). وهكذا فالحق عند هانز كيلسن مثلا لايستمد قوته ومصدره إلا من القوانين التي تبلوره وتحتم العمل به، لأن القانون يقول الحق تبعا للإختيارات والأولويات بما يعكس خصوصية المجتمع وتطوره التاريخي وبما يترجم موازين القوى داخل البنية الإجتماعية وهي موازين ديناميكية متغيرة بتغير التشكيلات الإجتماعية. ومن وجهة نظر فقه القانون والدراسة العلمية، فلا وجود لحق أو عدالة خارج القانون الوضعي الذي يوفر قوة الإلزام الضرورية لتحويل الحق إلى واقع معيش مستعينا بالمؤسسات التنفيذية والقضائية.
تترتب عن هذه المقاربة نتيجتان: الأولى هي إستبعاد كل حديث عن الحق في بعده الأخلاقي المثالي المُعوِّل على الإلتزام الذاتي للفرد، والحرص على ألا يدعي النص القانوني صفة الإطلاقية بإشهاره للصفة الأخلاقية. فالقانون والأخلاق دائرتان منفصلتان. لأن القانون نسق تراتبي من القواعد التي تستمد قيمتها من هذا النسق لا من مرجعية متعالية مفارقة؛ تترتب عن ذلك عضويا نتيجة ثانية، وهي استحالة المفاضلة بين الأنظمة القانونية، لعدم وجود معيار أسمى يسمح بالمفاضلة: فقد يعتبر أحدهم النظام الليبرالي عادلا والشيوعي ظالما إعتمادا على معيار الحرية الفردية، في حين يغدو النظام الليبيرالي ظالما والشيوعي عادلا من منظور الأمان الإجتماعي! ولكن مالسبيل للمفاضلة بين الحرية والأمان الإجتماعي؟ لاسبيل للمفاضلة حسب كيلسن إلا اعتمادا على معايير سيكلوجية ذاتية لاتحظى بأي إجماع، إذ يصعب الإجماع على معايير بديهية للعدل والكرامة والحق.
هكذا يصبح الحق وضعيا متجذرا في الثقافة بمحدداتها الإجتماعية والإقتصادية والتاريخية، غير مطلق بل نسبي بنسبية هذه المحددات. ولكن إلى أي حد يمكن المضي في المطابقة بين الحق والقانون الوضعي، أي بين المشروع والقانوني؟ يرى ليو ستراوس أن رفض فكرة الحق الطبيعي يعني أن كل حق فهو وضعي من صنع المشرعين ومحاكم مختلف البلدان، لكن وجود قوانين وقرارات جائرة كقوانين المستعمر والطغاة، يلزم عنه وجود معيار للعدل والظلم يستقل عن الحق الوضعي ويسمح بتقييمه. وقديما أعلن شيشرون أنه ما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى، لأننا لانملك قاعدة غير الطبيعة لتمييز حَسَنِ القوانين عن قبيحها.
يتبين مما سبق أن الحق قيمة مركبة شأنها شأن باقي القيم الأساسية التي تحكم الفاعلية البشرية: فهو طبيعي وثقافي، كوني ونسبي في نفس الوقت. طبيعي كوني لأنه يمس الماهية الإنسانية، ويخاطب الإنسان بما هو إنسان؛ وثقافي نسبي لأن بتحوله من فكرة ومبدأ إلى واقع معيش يتجذر في القيموالمؤسسات والتاريخ الخاص بهذا المجتمع أو ذاك.
الحق بين الإلزام والإلتزام
الحق والقوة:علاقات ملتبسة
إذا كان الفرد لايملك في حالة الطبيعة غير قوته الخاصة للدفاع عن حقوقه، فإنه يملك في حالة الإجتماع قوة الجماعة. هناك إذن إستمرار لعنصر القوة في الحالتين معا. ولكن إذا كانت القوة ظاهرة فيزيائية خارجية يسهل التعرف عليها، فإن الحق مبدأ داخلي عقلي فما هي ياترى طبيعة العلاقة بين الحق والقوة؟ هل قيام الحق ممكن بدون قوة؟ وهل القوة وحدها كافية لتسويغ الحق وتبريره؟
إن تدبير الطبيعة العدوانية للإنسان يقتضي في نظر هوبز أن تستجمع الدولة (التنين) كل أسباب القوة لتكفي الناس شر بعضهم البعض. فالإجتماع الإنساني سلوك إضطراري نفعي وليس ميلا طبيعيا. وبذلك تستمر القوة أساسا للحق في حالتي الطبيعة والإجتماع. بيد أن علينا أن نعود إلى كتاب الجمهورية لأفلاطون لنعثر على دفاع واضح وتنظير صريح لحق القوة على لسان السوفسطائي غلوكون، حيث يعلن أن سيطرة القادر على غير القادر وإستئثار القوي بنصيب أكبر من نصيب الضعيف هو العدالة الطبيعية النموذجية، خصوصا وأن النظرة المتفحصة للطبيعة الإنسانية تكشف نزوعها الدفين للعمل بمقتضى حق القوة كلما أمكن ذلك. فما الإنسان بعادل بإرادته وإنما مكرها عند العجز! والظلم يُرتكب كلما توفرت القدرة على إرتكابه كما تظهر ذلك أسطورة خاتم الراعي جيجيس. وقد تردد صدى هذا الموقف في الفلسفة المعاصرة عند نيتشه صاحب فلسفة إرادة القوة الذي يرى الإستغلال من صميم الحياة، ليس فعل مجتمع منحط غير كامل بل من صميم الطبيعة والحياة ومخلفات إرادة القوة في معناها الحق الذي هو إرادة الحياة أيضا!. ولعل هذا التشخيص هو الذي دفع ميكيافيلي في كتابه الأمير إلى تناول قضايا السياسة والحكم بعيدا عن أية اعتبارات أخلاقية طوباوية ناصحا الأمير بإنتهاج كل الوسائل من قوة ومكر للمحافظة على سلطانه.
لكن إلى أي حد يمكن الإكتفاء بالقوة لتأسيس أو تبرير الحق؟ في نص شهير من كتابه " العقد الإجتماعي" إنتقد روسو بشدة مفهوم حق القوة مبينا تناقضه النظري وإفلاسه العملي، فإذا كان لحياة إجتماعية أن تراعي الطبيعة النوعية للإنسان فلا بد أن تقوم على قوة الحق لا حق القوة. فهذا الأخير عارض زائل بزوال القوة التي تؤسسه ولن يكون القوي قويا دائما ليحافظ على إمتيازاته، بل إنه يقدم الدعوة والمبرر للآخرين للتنافس من أجل إمتلاك أسباب القوة، ولا حق للقوي في الإحتجاج إذا استطاع من هو أقوى منه أن يسلبه حقوقه، لأن هذا الأخير إنما طبق نفس المبدأ الذي كان سلفه يرفعه على الدوام. لقد قيل بأن قوة الفرد دليل على العناية والمباركة الإلاهية، فأجاب روسو: "إني أعترف أن القوة من الله، لكن المرض منه أيضا! فهل يعني ذلك الإستسلام والإحجام عن الإستعانة بالطبيب؟"
بيد أن إفلاس مفهوم حق القوة يكمن بالخصوص في إهماله للطبيعة الأخلاقية للإنسان التي تحثه على الإمتثال طواعية للقوى المشروعة إنصاتا لصوت الواجب، بينما يظل الإنصياع للقوة فعل ضرورة لا فعل إرادة وإختيار، فإذا كنت مجبرا على الخضوع فلست ملزما به، وحالما أمكن العصيان دون عقاب أمكن العصيان بصفة مشروعة. بناءا على هذا التحليل يؤسس روسو مفهوم العقد الإجتماعي المدشن لحالة التمدن حيث تحل الإرادة العامة محل إرادة الفرد، وقوة الحق محل حق القوة، وصوت الواجب محل صوت الإندفاع والهوى... وتلك أهم مكاسب حالة التمدن.
الواقع أن التحليل النظري يثبت إستقلالية الحق بمضمونه الأخلاقي عن القوة بمعناها الفيزيائي بينما يظهر الإستقراء الميداني صلتهما الوثيقة سواء في العلاقات الإجتماعية أو الدولية. وقد عبر باسكال عن هذا التداخل بقوله: " العدالة واهية بدون قوة، والقوة طاغية بدون عدالة. العدالة بدون قوة متجاوَزة، والقوة بدون عدالة متَّهَمة، لذلك يتعين إما أن نجعل العادل قويا أو القوي عادلا"
الحق: مبادئ أخلاقية أم نصوص قانونية
إن الحق لايعني فقط إستمتاع الذات بشيء، بل يعني أيضا إلزام الغير به مادامت حقوقي هي واجبات الغير نحوي وحقوقه هي واجباتي تجاهه. وبما أن مفهوم الواجب يوحي بمعاني الإكراه والإلزام، فكيف يمكن والحالة هذه أن نفهم العلاقة بين مايفرضه هذا الإلزام من قيود وضوابط وبين الحرية التي تتصدر مجمل الحقوق؟ كيف يكون الفرد خاضعا دون أن يفقد حريته؟ هل ينبغي للحق أن يستمد قوته من سلطة الإكراه أم من نداء الواجب؟ هل الحق إلزام أم إلتزام؟
الحق وواجباته عند روسو إلتزام لايتعارض أبدا مع حرية الإنسان، بل هو شرط وجودها وممارستها، والحرية المقصودة هنا هي الحرية الأخلاقية التي تجعل الإنسان سيد نفسه أما دافع الشهوة فهو الإستعباد بعينه، وبعبارة أخرى فالحرية كامنة في الإمتثال للقوانين التي نشرعها لأنفسنا، وعندما أخضع للجميع فأنا في الواقع لاأخضع لأي أحد، لأني ببساطة جزء من هذه الإرادة العامة التي أمتثل لها. وبهذا الإمتثال تكتسب الأفعال الإنسانية طابعا أخلاقيا إفتقدته في حالة الطبيعة، أي أن ميلاد الكائن الأخلاقي داخل الإنسان متزامن مع لحظة التعاقد وظهور سلوكيات الواجب والإلتزام.
لقد أستوحى كانط هذه الفكرة الروسوية القائلة بقدرة الكائنات البشرية على التشريع لنفسها، فجعلها أساس مذهبه الأخلاقي المتضمن في كتابه نقد العقل العملي. يقول كانط: " تسلك الكائنات الطبيعة وفق قوانين، بينما للموجودات العاقلة إرادة او قوة الفعل بناءا على تصور قانون". وبناءاً عليه إختزل كانط أسئلة الحق والفاعلية البشرية عموماً إلى سؤال أخلاقي: " كيف نستنبط من العقل العملي قواعد عامة وكونية لتوجيه السلوك بحيث لاتتعارض وحرية الإنسان مادام عقله العملي مصدرها ومُشرِّعها؟ ولم يجد كانط سوى حق واحد فطري يتمثل في حرية القيام بفعل خيِّر ضمن الحدود التي تتعايش فيها هذه الحرية مع حرية أي إنسان آخر وفق قانون كوني. فما هو محتوى هذا القانون الكوني الذي يرفع التعارض بين الطابع الإلزامي للحق وواجباته من جهة والحرية من جهة أخرى؟ يتجلى هذا القانون في ثلاث واجبات مطلقة: ينص أولها على أن يتصرف الفرد كما لو كان فردا ومشرعا في مملكة الإرادة؛ بينما ينص الواجب الثاني على أن يتصرف الفرد كما لو كان مبدأ تصرفه سيُتخد كقاعدة كونية للسلوك؛ أما الواجب الأخير فيقضي بأن نعامل الإنسانية في شخصنا كما في شخص غيرنا كغاية لا كمجرد وسيلة.
هكذا يرتفع التعارض بين الواجب والحرية عندما تكف مبادئ السلوك عن أن تكون صادرة من سلطة خارجية لتغدو نابعة من إرادة الذات وهي تشرع لنفسها غير مستجيبة سوى لضرورات العقل العملي والإرادة الخيِّرة. هل يعني ذلك غيابا تاما للإلزام؟ الواقع أن كانط يحرص على التمييز بين واجبات فضيلة تحددها الغايات النابعة من الذات وواجبات حق تفرضها تشريعات قضائية خارج الذات، والنمط الأخير هو حال الغالبية من الناس التي لاتستطيع إنتشال نفسها من إشراطات الحساسية والميول لترقى إلى مستوى العقل الكوني المشرِّع، إلا تحت طائلة العقوبات وأنواع الردع التي تمارسها مؤسسات المراقبة والعقاب وكذا التنشئة الإجتماعية وما تحدثه من إستدماج وتبطين للقيم والمعايير حتى يبدو اللاقانوني وكأنه لا أخلاقي.
إذن فالمقاربة الأخلاقية على النمط الكانطي غير كافية لرفع التعارض بين الإلزام والإلتزام، بين الواجب والحرية. إذ لابد للفلسفة الأخلاقية من فلسفة سياسية تقارب الحق في بعده السياسي المؤسساتي كما فعلت جاكلين ريس في تصورها لدولة الحق كصيغة عملية تجمع بين مقتضيات الحق الطبيعي والحق الوضعي، بين المبادئ الأخلاقية والآليات المؤسساتية.
إنها أولا دولة قانون وحق معا: دولة قانون لأن عملها خاضع لقواعد صريحة يمكن للأفراد أن يفرضوا إحترامها؛ وهي دولة حق لأن القانون الوضعي تابع للقانون الأخلاقي الذي يتخد الفرد كقيمة مقدسة، ومقياس لجميع القيم، بحيث يُعامل كغاية لا كمجرد وسيلة. وبسبب هذا التمييز بين الحق – في معناه الأخلاقي والطبيعي- والقانون في معناه الوضعي، فإن دولة الحق ليست صيغة جامدة نهائية، بل هي صيرورة وإبداع دائم للحرية، ولايمكن صيانة هذه المبادئ النظرية دون ميكانيزمات عملية أهمها فصل السلط بما يضمن ممارسة معقلنة للسلطة تحمي المواطن من شطط الممارسة الإعتباطية التابعة للمزاج والهوى.
http://www.philo.hijaj.net/droit.html
الطرح الإشكالي
الحق مفهوم متعدد المعاني، تمتد دلالاته إلى الحقل المعرفي المنطقي، الأنطلوجي، الإجتماعي والأخلاقي...لكونه مفهوما ذا طبيعة أكسيولوجية معيارية يتعلق بالفاعلية البشرية في مختلف تجلياتها. وسنقتصر فيما يلي على دلالته العملية، حيث تُعرِّفه المعاجم بأنه: " ما لايحيد عن قاعدة أخلاقية، يعني ماهو مشروع وقانوني في مقابل ما هو فعلي وواقعي، إنه فعل فعل أو الإستمتاع بشيء أو إلزام الغير به تبعا لقواعد تحكم العلاقات بين أفراد ينتمون إلى نفس المجتمع"
وبسبب الطبيعة الجذرية للتفكير وللسؤال الفلسفي، يجد الفيلسوف نفسه على الدوام وجها لوجه أمام سؤال المرجعية والأصل والتأسيس: فما دام تعريف الحق يحيل على مفهوم القاعدة، فلامناص من التساؤل عن مصدر هذه القاعدة ومشروعيتها: علام تتأسس قواعد ومبادئ الحق وحقوق الإنسان تحديدا؟ مالذي يبرر ويشرعن إعلان حق ما باعتباره كذلك؟ ماأصل هذه الحقوق؟ ومادام الإنسان كائنا مزدوجا، طبيعيا بيولوجيا وثقافيا عاقلا، فهل يتأسس الحق على الطبيعة أم على الثقافة؟ هل الحق قيمة طبيعية تشرعها طبيعة الإنسان الأصلية أم قيمة ثقافية تضيفها ثقافته المحدثة؟ ومادام مفهوم القاعدة يوحي بمعاني الحدود والضوابط، فهل ينتمي الحق إلى ما هو مؤسساتي قانوني وإلزامي، أم ينتمي إلى الحقل الأخلاقي فيخاطب الضمير والإلتزام؟
الحق بين الطبيعي والثقافي
قدمت نظرية الحق الإلاهي أقدم الأجوبة على سؤال المرجعية والتأسيس: فقد أُعتُقِدَ أن الحاكم إله أو نصف إلاه أو من سلالة الآلهة أو يتلقى الشرائع منها. وكل الحقوق (حقوقه وحقوق المحكومين) نابعة من هذه الصفة أو التفويض الإلاهي. وسيتعين إنتظار عصر النهضة ثم الأنوار لنشهد انتعاش نظرية الحق الطبيعي مجددا. فقد لوحظ على الدوام صعوبة تأسيس الحق على الثقافي المتعارض والمختلف بإختلاف المجتمعات والحقب التاريخية، مما دفع باسكال أن يكتب ذات مرة: "يا لبؤس العدالة التي يحدها نهر! أفكار صائبة هنا، خاطئة وراء جبال البرانس! " ولتجاوز هذه المفارقات، اعتُبرت مبادئ الحق وحقوق الإنسان طبيعية أي متجذرة في الطبيعة الإنسانية ومحايثة لها، مستقلة عن الثقافة وإرادة المشرعين، لأنها سابقة منطقيا وزمنيا على المجتمع والثقافة.
نظريات الحق الطبيعي
قدم هوبز واحدة من أهم صياغات نظرية الحق الطبيعي في كتابه التنين، حيث عرَّفه بأنه الحرية التي لكل إنسان في أن يتصرف كما يشاء في إمكاناته الخاصة للمحافظة على طبيعته وحياته الخاصة، وأن يفعل كل مايرتئيه نظره وعقله ناجعا لذلك. وعليه فالحق الطبيعي أو حق الطبيعة هو الحق في الحياة والحق في المحافظة عليها والحرية المطلقة في حماية الوجود البيولوجي والدفاع عنه. وقد استخلص إسبينوزا نتائج ذلك حين لاحظ أن الحق الطبيعي للكائن يمتد منطقيا وفعليا بامتداد قدرته ورغبته: فحيث تتوقف قدرات الكائن تتوقف حقوقه. وبموجب هذا المبدأ، فلكل كائن أو موجود طبيعي حقا مطلقا في البقاء على وضعه وحقا مطلقا على كل مايقع تحت قدرته، وقواعد هذا الحق تمليها طبيعة الفرد الذي تحتم عليه أن يوجد ويسلك على نحو معين.
بيد أن روسو لايشاطر هوبز نظرته التشاؤمية إلى الطبيعة الإنسانية، كما لاينظر كإسبينوزا إلى الإنسان ضمن نظام الطبيعة الشامل: إذ ليس الإنسان في الأصل ذئبا لأخيه الإنسان، بل العكس هو الصحيح: إنه طيب بالطبع شرير بالإجتماع. وإذا صح ذلك، فإن حالة الطبيعة هي الحالة المثلى لسيادة العدل والحرية والمساواة وهي بالضبط الحقوق الطبيعية، التي لم تلبث أن تلاشت بسبب ظهور الأشكال الأولى للإجتماع والملكية وما نجم عنها من التفاوت.
يمضي جون لوك في نفس المنحى الروسوي، موضحا في نفس الوقت الأساس المنهجي العام لنظريات الحق الطبيعي، يقول:" لكي نفهم السلطة السياسية فهما صحيحا ونستنتجها من أصلها يجب أن نتحرى الحالة الطبيعية التي وجد عليها جميع الأفراد، وهي حالة الحرية الكاملة في تنظيم أفعالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم بما يظنون أنه ملائم لذلك، ضمن قيود قانون الطبيعة، دون ان يستأذنوا إنسانا أو يعتمدوا على إرادته، وهي أيضا حالة المساواة حيث السلطة والتشريع متقابلان لايأخد الواحد أكثر من الآخر، إذ ليس هناك حقيقة أكثر بداهة من أن المخلوقات المنتمية إلى النوع والرتبة نفسها المتمتعة كلها بالمنافع نفسها التي تمنحها الطبيعة وباستخدام الملكات نفسها، يجب أيضا أن يتساوى بعضهم مع بعض. "حالة الطبيعة" إذن هي حالة الحرية والمساواة التي يكون عليها الناس ينظمها "قانون الطبيعة" نفسه، الذي يرمي إلى "حفظ الجنس البشري وضمان سلامته والذي يؤول أمر تنفيذه إلى كل إنسان، قبل أن تقوم فيهم سلطة تحد من حقهم في ممارستهما -أعني الحرية والمساواة-. وقد شدد لوك بشكل خاص على حق المِلكية النابع من امتلاك الإنسان لنفسه وجسمه ومن ثم ثمار عمله.
رغم مانلاحظه من إختلاف بين منظري الحق الطبيعي في فهم الطبيعة الإنسانية وكذا حالة الطبيعة،إلا أنهم يتبعون نفس الإجراء المنهجي المتمثل في تجريد الإنسان من كل المحددات الثقافية والتاريخية من أجل استنباط حقوق محايثة لطبيعته؛ ثم إن هذا الإختلاف يتلاشى، لأن نظريات الحق الطبيعي تتحول في النهاية إلى نظرية للعقد الإجتماعي. لماذا؟
فحتى لو افترضنا مع روسو ولوك ضد هوبز بأن حالة الطبيعة حالة سلم ومساواة، فإنها تنقلب لامحالة إلى حالة من الفوضى والنزاع مما يحتم حسب لوك تأويل وتطبيق "قانون الطبيعة" بالصورة التي تضمن حقوق كل فرد، وهذا لا يتأتى إلا ب "إقامة ضرب من الاتحاد بينهم يحمي شخص كل واحد منهم ويمكنه من ممارسة حقوقه ويسمح لكل منهم، وهو متحد مع الكل، بأن لا يخضع إلا لنفسه، وبالتالي يبقى متمتعا بالحرية الني كانت له من قبل". بيد أن هذا النزاع يتخد عند هوبز صفة شاملة هي" حرب الكل ضد الكل" التي لا مخرج منها إلا بتنازل الأفراد عن كل حقوقهم لأمير قوى يجمع بيده كل أسباب القوة من أجل أن يكفي الناس شر بعضهم البعض؛ في حين يراهن العقلاني اسبينوزا على الطبيعة العاقلة للإنسان ليستنبط منها مبادئ العقد الإجتماعي الجديد: فإذا كان البشر يسعون إلى جلب الأمان والمنفعة، فإن مبادئ العقل كفيلة بتحقيق نفع حقيقي لهم، لأنها تحث على التوحد والنظام عوض التشتت، وذلك بنقل حق الفرد في كل شيء إلى الجماعة ومعاملة الآخرين بمثل مانحب أن نعامل به والمحافظة على حقهم كما لو كنا نحافظ على حقنا الخاص.
نخلص إلى القول مع لوك وروسو - ممثلا التأويلات الأكثر ديموقراطية للعقد الإجتماعي - بأن تنازل الناس عن حقوقهم للإرادة الجماعية، التي تجسمها الدولة، بموجب هذا العقد الاجتماعي، هو تنازل شكلي، الغاية منه إقرار الحق في الحرية والمساواة على أساس اجتماعي. أما القوانين التي تضعها هذه الأخيرة فهي إنما تكتسي شرعيتها من كونها تعبر عن الإرادة العامة للناس، وهي الإرادة التي تلتمس المصلحة المشتركة وتسعى إلى الخير العام. وهكذا تجد "حقوق الإنسان الطبيعية" مجال تحققها من خلال تحولها إلى "حقوق مدنية". بمعنى أن الإنسان - حسب السياسي الأمريكي طوماس بين - لم يلج الحالة الإجتماعية لكي تسوء أحواله أو لكي يتمتع بحقوق أقل من تلك التي كان يتمتع بها وإنما ولجها لتضمن له هذه الحقوق بشكل أكبر. وواضح أن الإحالة على "الطبيعة" هنا معناها تأسيس الحق على مرجعية سابقة على كل مرجعية تاريخية: فالطبيعة سابقة على كل ثقافة وحضارة، على كل مجتمع ودولة، وبالتالي، فهي مرجعية كلية مطلقة، ومن ثَمّ فالحقوق التي تتأسس عليها هي حقوق كلية مطلقة كذلك.
نسبية الحق بنسبية مبادئه
رغم القوة النظرية والعملية التي تتمتع بها نظرية الحق الطبيعي، إلا أن البعض لايرى في مرجعية الطبيعة سوى مفهوم إفتراضي يفتقد إلى الإجماع حول مضمونه: إذ يبدو أن البشر عرفوا على الدوام أشكالا من التنظيم مَهْما كانت بدائية بسيطة، مما يشكك في مفهوم حالة الطبيعة الفرضية أصلا؛ إضافة إلى صعوبة تحديد محتوى الطبيعة الإنسانية الذي تعرض في القرن العشرين للمراجعة سواء من طرف العلوم الإنسانية أو الفلسفة الوجودية. مما يجعل الإجماع حول مبادئ عقلانية كونية أمرا مستبعدا، لأن هذه المبادئ نفسها تتجاهل المحددات الثقافية النسبية. ألا ينبغي بالأحرى الحديث عن الحق في بعده النسبي الثقافي؟
تأسيسا على هذه الملاحظات، لاترى الوضعية القانونية في أطروحة الحق الطبيعي سوى إنشاءات ميتافيزيقية لاتحقق شروط العلمية كما تفهمها الإبستملوجيا الوضعية الملتزمة بأحكام الواقع (ماهو كائن) لابأحكام القيمة (ماينبغي أن يكون). وهكذا فالحق عند هانز كيلسن مثلا لايستمد قوته ومصدره إلا من القوانين التي تبلوره وتحتم العمل به، لأن القانون يقول الحق تبعا للإختيارات والأولويات بما يعكس خصوصية المجتمع وتطوره التاريخي وبما يترجم موازين القوى داخل البنية الإجتماعية وهي موازين ديناميكية متغيرة بتغير التشكيلات الإجتماعية. ومن وجهة نظر فقه القانون والدراسة العلمية، فلا وجود لحق أو عدالة خارج القانون الوضعي الذي يوفر قوة الإلزام الضرورية لتحويل الحق إلى واقع معيش مستعينا بالمؤسسات التنفيذية والقضائية.
تترتب عن هذه المقاربة نتيجتان: الأولى هي إستبعاد كل حديث عن الحق في بعده الأخلاقي المثالي المُعوِّل على الإلتزام الذاتي للفرد، والحرص على ألا يدعي النص القانوني صفة الإطلاقية بإشهاره للصفة الأخلاقية. فالقانون والأخلاق دائرتان منفصلتان. لأن القانون نسق تراتبي من القواعد التي تستمد قيمتها من هذا النسق لا من مرجعية متعالية مفارقة؛ تترتب عن ذلك عضويا نتيجة ثانية، وهي استحالة المفاضلة بين الأنظمة القانونية، لعدم وجود معيار أسمى يسمح بالمفاضلة: فقد يعتبر أحدهم النظام الليبرالي عادلا والشيوعي ظالما إعتمادا على معيار الحرية الفردية، في حين يغدو النظام الليبيرالي ظالما والشيوعي عادلا من منظور الأمان الإجتماعي! ولكن مالسبيل للمفاضلة بين الحرية والأمان الإجتماعي؟ لاسبيل للمفاضلة حسب كيلسن إلا اعتمادا على معايير سيكلوجية ذاتية لاتحظى بأي إجماع، إذ يصعب الإجماع على معايير بديهية للعدل والكرامة والحق.
هكذا يصبح الحق وضعيا متجذرا في الثقافة بمحدداتها الإجتماعية والإقتصادية والتاريخية، غير مطلق بل نسبي بنسبية هذه المحددات. ولكن إلى أي حد يمكن المضي في المطابقة بين الحق والقانون الوضعي، أي بين المشروع والقانوني؟ يرى ليو ستراوس أن رفض فكرة الحق الطبيعي يعني أن كل حق فهو وضعي من صنع المشرعين ومحاكم مختلف البلدان، لكن وجود قوانين وقرارات جائرة كقوانين المستعمر والطغاة، يلزم عنه وجود معيار للعدل والظلم يستقل عن الحق الوضعي ويسمح بتقييمه. وقديما أعلن شيشرون أنه ما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى، لأننا لانملك قاعدة غير الطبيعة لتمييز حَسَنِ القوانين عن قبيحها.
يتبين مما سبق أن الحق قيمة مركبة شأنها شأن باقي القيم الأساسية التي تحكم الفاعلية البشرية: فهو طبيعي وثقافي، كوني ونسبي في نفس الوقت. طبيعي كوني لأنه يمس الماهية الإنسانية، ويخاطب الإنسان بما هو إنسان؛ وثقافي نسبي لأن بتحوله من فكرة ومبدأ إلى واقع معيش يتجذر في القيموالمؤسسات والتاريخ الخاص بهذا المجتمع أو ذاك.
الحق بين الإلزام والإلتزام
الحق والقوة:علاقات ملتبسة
إذا كان الفرد لايملك في حالة الطبيعة غير قوته الخاصة للدفاع عن حقوقه، فإنه يملك في حالة الإجتماع قوة الجماعة. هناك إذن إستمرار لعنصر القوة في الحالتين معا. ولكن إذا كانت القوة ظاهرة فيزيائية خارجية يسهل التعرف عليها، فإن الحق مبدأ داخلي عقلي فما هي ياترى طبيعة العلاقة بين الحق والقوة؟ هل قيام الحق ممكن بدون قوة؟ وهل القوة وحدها كافية لتسويغ الحق وتبريره؟
إن تدبير الطبيعة العدوانية للإنسان يقتضي في نظر هوبز أن تستجمع الدولة (التنين) كل أسباب القوة لتكفي الناس شر بعضهم البعض. فالإجتماع الإنساني سلوك إضطراري نفعي وليس ميلا طبيعيا. وبذلك تستمر القوة أساسا للحق في حالتي الطبيعة والإجتماع. بيد أن علينا أن نعود إلى كتاب الجمهورية لأفلاطون لنعثر على دفاع واضح وتنظير صريح لحق القوة على لسان السوفسطائي غلوكون، حيث يعلن أن سيطرة القادر على غير القادر وإستئثار القوي بنصيب أكبر من نصيب الضعيف هو العدالة الطبيعية النموذجية، خصوصا وأن النظرة المتفحصة للطبيعة الإنسانية تكشف نزوعها الدفين للعمل بمقتضى حق القوة كلما أمكن ذلك. فما الإنسان بعادل بإرادته وإنما مكرها عند العجز! والظلم يُرتكب كلما توفرت القدرة على إرتكابه كما تظهر ذلك أسطورة خاتم الراعي جيجيس. وقد تردد صدى هذا الموقف في الفلسفة المعاصرة عند نيتشه صاحب فلسفة إرادة القوة الذي يرى الإستغلال من صميم الحياة، ليس فعل مجتمع منحط غير كامل بل من صميم الطبيعة والحياة ومخلفات إرادة القوة في معناها الحق الذي هو إرادة الحياة أيضا!. ولعل هذا التشخيص هو الذي دفع ميكيافيلي في كتابه الأمير إلى تناول قضايا السياسة والحكم بعيدا عن أية اعتبارات أخلاقية طوباوية ناصحا الأمير بإنتهاج كل الوسائل من قوة ومكر للمحافظة على سلطانه.
لكن إلى أي حد يمكن الإكتفاء بالقوة لتأسيس أو تبرير الحق؟ في نص شهير من كتابه " العقد الإجتماعي" إنتقد روسو بشدة مفهوم حق القوة مبينا تناقضه النظري وإفلاسه العملي، فإذا كان لحياة إجتماعية أن تراعي الطبيعة النوعية للإنسان فلا بد أن تقوم على قوة الحق لا حق القوة. فهذا الأخير عارض زائل بزوال القوة التي تؤسسه ولن يكون القوي قويا دائما ليحافظ على إمتيازاته، بل إنه يقدم الدعوة والمبرر للآخرين للتنافس من أجل إمتلاك أسباب القوة، ولا حق للقوي في الإحتجاج إذا استطاع من هو أقوى منه أن يسلبه حقوقه، لأن هذا الأخير إنما طبق نفس المبدأ الذي كان سلفه يرفعه على الدوام. لقد قيل بأن قوة الفرد دليل على العناية والمباركة الإلاهية، فأجاب روسو: "إني أعترف أن القوة من الله، لكن المرض منه أيضا! فهل يعني ذلك الإستسلام والإحجام عن الإستعانة بالطبيب؟"
بيد أن إفلاس مفهوم حق القوة يكمن بالخصوص في إهماله للطبيعة الأخلاقية للإنسان التي تحثه على الإمتثال طواعية للقوى المشروعة إنصاتا لصوت الواجب، بينما يظل الإنصياع للقوة فعل ضرورة لا فعل إرادة وإختيار، فإذا كنت مجبرا على الخضوع فلست ملزما به، وحالما أمكن العصيان دون عقاب أمكن العصيان بصفة مشروعة. بناءا على هذا التحليل يؤسس روسو مفهوم العقد الإجتماعي المدشن لحالة التمدن حيث تحل الإرادة العامة محل إرادة الفرد، وقوة الحق محل حق القوة، وصوت الواجب محل صوت الإندفاع والهوى... وتلك أهم مكاسب حالة التمدن.
الواقع أن التحليل النظري يثبت إستقلالية الحق بمضمونه الأخلاقي عن القوة بمعناها الفيزيائي بينما يظهر الإستقراء الميداني صلتهما الوثيقة سواء في العلاقات الإجتماعية أو الدولية. وقد عبر باسكال عن هذا التداخل بقوله: " العدالة واهية بدون قوة، والقوة طاغية بدون عدالة. العدالة بدون قوة متجاوَزة، والقوة بدون عدالة متَّهَمة، لذلك يتعين إما أن نجعل العادل قويا أو القوي عادلا"
الحق: مبادئ أخلاقية أم نصوص قانونية
إن الحق لايعني فقط إستمتاع الذات بشيء، بل يعني أيضا إلزام الغير به مادامت حقوقي هي واجبات الغير نحوي وحقوقه هي واجباتي تجاهه. وبما أن مفهوم الواجب يوحي بمعاني الإكراه والإلزام، فكيف يمكن والحالة هذه أن نفهم العلاقة بين مايفرضه هذا الإلزام من قيود وضوابط وبين الحرية التي تتصدر مجمل الحقوق؟ كيف يكون الفرد خاضعا دون أن يفقد حريته؟ هل ينبغي للحق أن يستمد قوته من سلطة الإكراه أم من نداء الواجب؟ هل الحق إلزام أم إلتزام؟
الحق وواجباته عند روسو إلتزام لايتعارض أبدا مع حرية الإنسان، بل هو شرط وجودها وممارستها، والحرية المقصودة هنا هي الحرية الأخلاقية التي تجعل الإنسان سيد نفسه أما دافع الشهوة فهو الإستعباد بعينه، وبعبارة أخرى فالحرية كامنة في الإمتثال للقوانين التي نشرعها لأنفسنا، وعندما أخضع للجميع فأنا في الواقع لاأخضع لأي أحد، لأني ببساطة جزء من هذه الإرادة العامة التي أمتثل لها. وبهذا الإمتثال تكتسب الأفعال الإنسانية طابعا أخلاقيا إفتقدته في حالة الطبيعة، أي أن ميلاد الكائن الأخلاقي داخل الإنسان متزامن مع لحظة التعاقد وظهور سلوكيات الواجب والإلتزام.
لقد أستوحى كانط هذه الفكرة الروسوية القائلة بقدرة الكائنات البشرية على التشريع لنفسها، فجعلها أساس مذهبه الأخلاقي المتضمن في كتابه نقد العقل العملي. يقول كانط: " تسلك الكائنات الطبيعة وفق قوانين، بينما للموجودات العاقلة إرادة او قوة الفعل بناءا على تصور قانون". وبناءاً عليه إختزل كانط أسئلة الحق والفاعلية البشرية عموماً إلى سؤال أخلاقي: " كيف نستنبط من العقل العملي قواعد عامة وكونية لتوجيه السلوك بحيث لاتتعارض وحرية الإنسان مادام عقله العملي مصدرها ومُشرِّعها؟ ولم يجد كانط سوى حق واحد فطري يتمثل في حرية القيام بفعل خيِّر ضمن الحدود التي تتعايش فيها هذه الحرية مع حرية أي إنسان آخر وفق قانون كوني. فما هو محتوى هذا القانون الكوني الذي يرفع التعارض بين الطابع الإلزامي للحق وواجباته من جهة والحرية من جهة أخرى؟ يتجلى هذا القانون في ثلاث واجبات مطلقة: ينص أولها على أن يتصرف الفرد كما لو كان فردا ومشرعا في مملكة الإرادة؛ بينما ينص الواجب الثاني على أن يتصرف الفرد كما لو كان مبدأ تصرفه سيُتخد كقاعدة كونية للسلوك؛ أما الواجب الأخير فيقضي بأن نعامل الإنسانية في شخصنا كما في شخص غيرنا كغاية لا كمجرد وسيلة.
هكذا يرتفع التعارض بين الواجب والحرية عندما تكف مبادئ السلوك عن أن تكون صادرة من سلطة خارجية لتغدو نابعة من إرادة الذات وهي تشرع لنفسها غير مستجيبة سوى لضرورات العقل العملي والإرادة الخيِّرة. هل يعني ذلك غيابا تاما للإلزام؟ الواقع أن كانط يحرص على التمييز بين واجبات فضيلة تحددها الغايات النابعة من الذات وواجبات حق تفرضها تشريعات قضائية خارج الذات، والنمط الأخير هو حال الغالبية من الناس التي لاتستطيع إنتشال نفسها من إشراطات الحساسية والميول لترقى إلى مستوى العقل الكوني المشرِّع، إلا تحت طائلة العقوبات وأنواع الردع التي تمارسها مؤسسات المراقبة والعقاب وكذا التنشئة الإجتماعية وما تحدثه من إستدماج وتبطين للقيم والمعايير حتى يبدو اللاقانوني وكأنه لا أخلاقي.
إذن فالمقاربة الأخلاقية على النمط الكانطي غير كافية لرفع التعارض بين الإلزام والإلتزام، بين الواجب والحرية. إذ لابد للفلسفة الأخلاقية من فلسفة سياسية تقارب الحق في بعده السياسي المؤسساتي كما فعلت جاكلين ريس في تصورها لدولة الحق كصيغة عملية تجمع بين مقتضيات الحق الطبيعي والحق الوضعي، بين المبادئ الأخلاقية والآليات المؤسساتية.
إنها أولا دولة قانون وحق معا: دولة قانون لأن عملها خاضع لقواعد صريحة يمكن للأفراد أن يفرضوا إحترامها؛ وهي دولة حق لأن القانون الوضعي تابع للقانون الأخلاقي الذي يتخد الفرد كقيمة مقدسة، ومقياس لجميع القيم، بحيث يُعامل كغاية لا كمجرد وسيلة. وبسبب هذا التمييز بين الحق – في معناه الأخلاقي والطبيعي- والقانون في معناه الوضعي، فإن دولة الحق ليست صيغة جامدة نهائية، بل هي صيرورة وإبداع دائم للحرية، ولايمكن صيانة هذه المبادئ النظرية دون ميكانيزمات عملية أهمها فصل السلط بما يضمن ممارسة معقلنة للسلطة تحمي المواطن من شطط الممارسة الإعتباطية التابعة للمزاج والهوى.
http://www.philo.hijaj.net/droit.html
مواضيع مماثلة
» اشكالية مفهوم العدالة
» الحق و العدالة
» اشكالية الدولة
» الذي يملك القوة يملك الحق، ما رأيك ؟
» مفهوم المواطن في الفلسفة الحديثة
» الحق و العدالة
» اشكالية الدولة
» الذي يملك القوة يملك الحق، ما رأيك ؟
» مفهوم المواطن في الفلسفة الحديثة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem
» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني
» لست أدري! لست أدري!
27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني
» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني
» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني
» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني