بحـث
المواضيع الأخيرة
تاريخ الأفكار والعقل المنعكس قراءة في ماهية العقل الغربي
صفحة 1 من اصل 1
تاريخ الأفكار والعقل المنعكس قراءة في ماهية العقل الغربي
تاريخ الأفكار والعقل المنعكس
قراءة في ماهية العقل الغربي
بقلم: ميشال فوشو
ترجمة وتقديم: محمد شوقي الزين
تقديـم:
نشر ميشال فوشو هذا المقال في الدفاتر الدولية في الرمزية Cahiers internationaux de symbolisme، أعداد 71-72-73، 1992، (ص149-162).
إذا جاز لنا اختصار الآراء التي جمعها ميشال فوشو في مقاله في كلمة مختصرة وجامعة وملمة، فهي: نهاية اليقين (La fin de la certitude).
نهاية اليقين ترتبط ببداية التركيب المعقد (La complexité) الذي يحكم نظام الأفكار والأشياء. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر وهي الفترة التي تجاوز فيها نيتشه الإطار المطلق والمغلق للميتافيزيقا الغربية كما تجلت عند هيغل؛ منذ نيتشه، لم يعد للبداهة أو البساطة أي دور تقوم به ما دام النموذج (Le paradigme) الذي شهدت ميلاده وصياغته فلسفة نيتشه يقر بحقيقة التركيب المعقد الذي يعبر عن الطابع المتداخل والمتنافر للظواهر والأشياء. هذه الحقيقة تأكدت بوضوح مع "مبدأ اللايقين" الذي صاغه هايزنبارغ (Heisenberg) في فيزياء الكوانتا كمدخل لنهاية الحتمية، بحيث يستحيل تحديد وضعية الجزيئي وسرعته في آن واحد. بالمعنى الإبستمولوجي للكلمة، هو نهاية الانسجام المطلق بين الذات العارفة (الذات التي تلاحظ) وبين موضوع المعرفة (الموضوع الملاحظ): نهاية حلم لابلاس (Laplace) الذي سعى إلى وصف وتفسير اليقين ضمن اللايقين نفسه، بمعنى أنه عمل على إيجاد قاعدة رياضية شاملة تفسر الظواهر المعقدة وتخترق الحجب لتصف اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر على حد سواء. تلك هي إذن أسطورة العقل الكوني التي صاغها لابلاس بحيث لا شيء (مهما صغر أو كبر) يفلت من قبضة هذا العقل، الذي يدرك هنا والآن في لحظة واحدة كل الأشياء والحركات والوضعيات.
إذا كانت المعرفة العلمية تعتمد على التفسير (= الإطار الأكسيوماتيكي)، فإن تاريخ الأفكار، كما يصفه ميشال فوشو، ينبغي أن يركز أو بالأحرى أن يكشف عن طابعه التأويلي (= الإطار الأكسيولوجي) الذي يعيد النظر في آلياته ومناهجه ورؤاه وفق ممارسات وقواعد عملية صارمة. هو الأمر الذي نبه عليه ويلهالم دلتاي (W.Dilthey) الذي اعتبر "أننا نفسر الطبيعة ونفهم الحياة النفسية"
[1]. الفهم (La compréhension) هو طريقة أو منهج يسمح بمجاوزة التفسير كتقنية تستسلم في نهاية المطاف إلى اللاحتمية والطابع والمعقد للظواهر.
رمزية المرآة:
ينكشف تاريخ الأفكار في رمزية المرآة (La symbolique du miroir) أين تنعكس حقيقة العقل الغربي كصراع أزلي بين الإله والإنسان أو بين المقدس والدنيوي، بحيث يسعى الثاني حلول محل الأول من خلال تجربة علمانية أو علمنة (Laïcisation) أو تحويل الأخلاق الدينية والمتعالية إلى قيم علمانية وضعية إنسانية (sécularisation) [2]. المرآة كرمز وحدة الوجود (Panthéisme) ليست غريبة عن العقل الغربي أداة وفكرا، صورة ومعنى. فليس من الغريب أن يكون سبينوزا (Spinoza) قد بلور نظريته حول وحدة الوجود العقلية بناءا على رمزية المرآة، تلك المرآة التي طالما عهدها واشتغل عليها، عندما كان يصقل المرايا، كعمل وحيد كان ينال من خلاله قوت يومه. المرآة، هي حضور التعالي في ثنايا المحايث، أو التجسيد الرمزي للروح (Esprit) كما يقول ميشال فوشو: باختصار، هو أن الحقيقة (Vérité) ليست خارج الإنسان وهذا الأخير ليس خارج الحقيقة. كل واحد منهما ينطوي على الآخر (حقيقة الإنسان الأكبر Macrocosme والعالم الأصغر Microcosme): البحث عن الحقيقة سبيله هو الذات، التأمل فيما تنطوي عليه النفس البشرية (L’âme humaine) من أسرار وعجائب. الحقيقة هي في النهاية "مرآة" يرى من خلالها الإنسان ذاته ويتأمل في إرادته وقواه وحدوده. فليست الميتافيزيقا بالمعنى الكنطي للكلمة سوى مرآة مصقولة يرى من خلالها العقل الخالص إمكانياته النظرية وحدوده. الحقيقة –وعبر رمزية المرآة- هي كشف (dévoilement) أو aletheia بالمعنى الإغريقي؛ هي النور الذي ينعكس في المرآة الكونية ويضيء النفس البشرية بكل ما تحمله من قوى عقلية وخيالية وفكرية وعملية: ميلاد الفكرة بفعل هذا البصيص المنعكس. حفريات العلوم الإنسانية التي صاغها ميشال فوكو في كتابه الشهير الكلمات والأشياء، تبين هذا الانعكاس المتبادل للكائنات والأشياء من خلال عنصر التشابه في عصر النهضة. لوحة فيلاسكيز (Vélasquez) التي حللها فوكو تعكس لعبة المرايا وانعكاس الأشياء دون بلوغ حقيقة التمثل (représentation) الذي هو الموضوع المباشر للرسام؛ فقط لأن الحقيقة، رغم كونها المرآة المصقولة التي يتأمل فيها الإنسان قضاياه المعرفية والأنطولوجية والميتافيزيقية، فهي في نفس اللحظة الخفية التي لا تظهر: مفارقة عجيبة تجعل شدة الوضوح هو الاختفاء عينه. وهذا الاختفاء هو "ما لم يفكر فيه" تاريخ الأفكار …
حلقة المعنى:
هذا الالتقاء المتواقت بين الحقيقة كمرآة والإنسان كمتأمل في هذه المرآة يعكس نشوء المعنى كمسار حلقي يخلو من كل تطور أفقي. تاريخ العقل الغربي، من المفهوم الحلقي للتاريخ لدى الإغريق (L’histoire cyclique) (من هنا اعتبر أرسطو أن الدائرة هي أكمل الأشكال الهندسية) إلى العود الأبدي عند نيتشه مرورا بالوعي (النرجسي) المركز على ذاته عند هيغل، هو تاريخ حلقات متداخلة ومتجاورة من المعاني والدلالات. يبقى المركز هو القيمة المعيارية المطلقة لكل دائرة من هذه الدوائر: التاريخ الحلقي عند الإغريق يتمتع بمركز أسطوري من خلال الرحلات والمغامرات التي يباشرها البطل (Le héros) ومن خلال الأحداث المقدسة؛ الوعي الخالص الهيغلي هو مركز التجليات الأنطولوجية للكائن الذي يسعى في صورة حلزونية إلى بلوغ قمة المعرفة المطلقة؛ العود الأبدي النيتشوي يتطلع إلى ميلاد الإنسان الأعلى كنهاية حتمية للقيم المتعالية. وعليه، فإن الصيرورة هي عود لا نهائي (Le Devenir est un Re-venir)، تجليات دورانية ومتدومة (Tourbillonnées) تنم عن الطابع الحلقي لكل عصر من العصور.
هكذا يصف ميشال فوكو في الكلمات والأشياء المنظومات المعرفية (épistèmés) كطفرات (mutations ) حلزونية، التي تتخذ شكل دوائر متشظية: التشابه (ressemblance) هو مركز المنظومة المعرفية لعصر النهضة (القرن 17)؛ التمثل (représentation) هو مركز المنظومة المعرفية الكلاسيكية (القرن 18)؛ والتاريخ (l’histoire) يعتبر المركز الأساسي للحداثة في القرن 19، الذي يقطع صلاته مع أنظمة الرؤية والتعبير في العصرين السابقين ويعلن عن ميلاد قوة مبهمة (= الحياة) تتكلم في الإنسان ككائن حي ناطق عامل (= الذات) يفكر حول الحياة واللغة والشغل (= الموضوع)، لكنه يخفي نظام تناهيه (finitude) الخاص وأنه مجرد "إبداع قد برهنت حفريات نظامنا الفكري بسهولة عن تاريخه القريب؛ والنهاية المحتملة قريبا" [3].
غير أن العقل الغربي يدرك المعنى كشظايا من الدلالات المتناثرة والطافية على سطح الخطابات بفعل انكسار المرآة الكونية المتعالية التي تعكس انطلاقا من "موت الإله" مع نيتشه فقط أضواء متعددة نظيرة الشظايا التي خلفها انكسار المرآة. نهاية اليقين في العقل الغربي هو نهاية "ألف لام" التعريف وقيام الجمع المجهول في صورة "النحن" (Nous) الفوكوي أو "بعضهم" (On) الهيدغري؛ فلا يمكننا الحديث عن [ الـ] معنى الكوني والشامل، وإنما عن دلالات متشظية معبرة عن خطابات ممزقة لوقائع معقدة ومتشابكة ولا عن [ الـ] حقيقة المتعالية والمطلقة وإنما حقائق مبعثرة محايثة للممارسات الفردية والاجتماعية والأفعال والسلوكات كممارسات خطابية –على حد تعبير ميشال فوكو- متنافرة ومتعددة المصادر والمقاصد؛ ولا عن [ الـ] تاريخ كحدث شامل وخطي وإنما تواريخ خاصة ومحددة: تاريخ "مؤسسة"، تاريخ "لفظ"، تاريخ "فكرة"… هذه الدلالات المتشظية والحقائق المبعثرة والتواريخ المحايثة هي مجرد دوائر أو حلقات متداخلة تخلو من مراكز (نهاية تاريخ الميتافيزيقا المطلق والمغلق)، أو بالأحرى هي حلقات متدومة وهائجة تدفع خارجها كل فكرة ثيولوجية تسعى إلى التحكم في نظامها ونسقها بصورة متعالية ومفارقة [4]؛ والتي تجسدت في تاريخ العقل الغربي في صورة نرجسية ومركزية للعقل الكوني Logocentrisme. شهادة الأدب والفلسفة بحلقية أو حلزونية العقل الغربي جد هامة تظهر من خلال مؤلفات وآثار غوته (Goethe) ومماثلته بين المرفولوجيا النباتية القائمة على الإنثناء [5] وبين الأثر الأدبي كفوارة دلالات تنثني حول حقيقة المعنى التي يكشف عنها هذا الأثر. ألا يمكن اعتبار تاريخ الأفكار هو مجرد تأويل للفكر العدمي (nihilisme) الذي يمارسه العقل الغربي؟ ربما هو هذا المنحى الذي سار ويسير وفقه هذا العقل، هو تبيان نسبوية القيم والأفكار وفكر عدمي يفكك الحقيقة إلى حقائق متعددة ومتضاربة ويجزئ المعنى إلى دلالات متشابكة ومتشظية: نهاية اليقين وحلول عصر الارتياب والفراغ.
الترجمـة:
ينبغي استعادة وصياغة تاريخ الأفكار وعدم التردد في رسم الانسجامات الثقافية التي تربط بين جوانب المعرفة المختلفة والمتباعدة (الفن والعلوم على سبيل المثال) والتي تنتشر في فترة زمنية طويلة.
من هذا المنظور، تبدو أعمال لوفجوا (A.O.Lovejoy)، جورج بوواس (G.Boas) أو مارجوري نيكلسون (Marjorie Nicholson) الموجهة في جامعة جون هوبكنز في الثلاثينات من هذا القرن في الولايات المتحدة الأمريكية، تبدو هذه الأعمال أنها تؤسس مرجعا هاما ومنهجا محكما.
تخطيط الانسجامات الثقافية هو تجنب حتمية تذكارية تستعرض المعنى الأفقي أو الخطي وأحادي الدلالة للتاريخ. لا يمكننا استعادة آراء هيغل أو ماركس بمعنى صياغة فلسفة في التاريخ التي تبدو بالأحرى ساذجة مما يتراءى أنها هامة وحاسمة.
يحذر إيزاياه برلين (Isaiah Berlin) من كل محاولة تنحو هذا السبيل: "مهما حاول مؤرخو الأفكار أن يصبح عملهم دقيقا وصارما، فإنهم لا يمتنعون عن الكشف عن المخططات العامة فيما يمكن أن يكون موضوعا لنشاطهم التاريخي(…) يتعلق الأمر عموما بالدفاع عن صنف أو مبدأ أساسي الذي يزعم أنه الدليل الأكيد للماضي وللمستقبل وأنه العدسة السحرية القادرة على الكشف عن القوانين التاريخية المتوارية الصارمة والمتواجدة في كل مكان واللامرئية للعين المجردة للمؤرخ السردي البسيط(…)"1.
خطر التبسيط أمر واقعي وينبغي لتاريخ الأفكار أن يأخذ بعين الاعتبار في نفس الوقت انسجام الظواهر الثقافية والتواءات وانفصالات ولا تناسقات وتغيرات النموذج (paradigme) كما يقول كون(*) والتي تحول مجرى الوقائع والإبداعات الإنسانية وتخلط الواقع.
بيد أنه لا يمكن لتاريخ الأفكار أن يتخلى لهذا السبب عن الفهم، والأحرى أنه لا وجود لوصف موضوعي للوقائع. ماذا يكتب "برلين" من جديد؟
"إنه وهم ميتافيزيقي، الفكرة التي تقول بوجود قوانين من هذا النوع، فهي بحق فكرة لا قيمة لها؛ وعليه فالفكرة المعاكسة والتي تقول أنه ليس هناك سوى وقائع مفاجئة وطارئة، عذراء ولا يمكن الإحاطة بها ليست أقل سذاجة من الأولى"2.
ينبغي أن يكشف تاريخ الأفكار عن طابعه التأويلي، تأويل صارم يعيد التفكير في مناهجه ويؤول ممارسته العملية وبديهياته الخاصة في نفس الوقت الذي يسائل فيه الأدب والنظريات الفنية والعلمية: حلقية التأويل إذن.
يأخذ تاريخ الأفكار مشروعيته وسبب وجوده من الطبيعة المنعكسة للعقل الغربي الذي يسلم بوجود قطيعة بين الواقع والفكرة، أين يرى هيدغر (Heidegger) أصل نشأة التاريخ الغربي كتاريخ للميتافيزيقا. هذا الفضاء المنعكس الذي يتحرك فيه العقل هو تماما ما لم يفكر فيه (l’impensé) تاريخ الأفكار والذي يقوده إلى التفكير في نزع الستار الذي يحجب مرآة الحقيقة الواقعية. يتعلق هنا الأمر بإرجاع تاريخ الأفكار إلى ذاته ضمن لعبة الانعكاسات والتي ينكشف عبرها كفكر التركيب المعقد (pensée de la complexité) أين يتصادم منطق التطابق بلا تناسق النفي أو السلب.
كتابة صفحات أو فقرات عن تاريخ الأفكار الغربي يمكنه أن يقود إلى حلقية مستعادة دائما والتأمل في أصل ونشأة تفكيرنا الخاص مثل الحلقة الأولية للمعنى التي ترتبط داخل العقل المنعكس وتتضح بالاسم الإلهي قبل أن تنفجر وتتدوم(*) إلى حلقات متعددة ومكثفة بدوائر المعرفة: الفن، العلم، السياسة،… التي تختبر مهارتها في إدراك المعنى المفقود أو سد الفراغ الناتج عن غياب الإله. ضمن دوامة الأفكار هذه، يحاول العالم من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين تبديد أوهامه.
باختصار تتعلق المسألة بتبيان أن تاريخ الأفكار لا فاعلية له سوى في الحالة التي يوفق فيها، ضمن فعل الانعكاس والحلقية، بين وصف أصل ونشأة الأفكار وبين حركة إبداع الفكر النقدي.
1 ـ حجاب المعنى:
في البدء كان نور العالم ونظرة الإله. النور الذي يضيء الخلق ويحجب ذات الإله. فهو نور يظهر ويفرق، يوحي أي ينير الإنسان ويحجب المعنى. يجيز الوحي التصرف الإرادي للإله الذي لا يلتفت سوى إلى ذاته والإنسان الأعمى يتصرف بحضور الإله ضمن ظلمات الخفاء العميقة. ففي الوحي تبدو إمكانية أو ضرورة "ما وراء-الطبيعة" (méta-physique): هول الرؤية. يلاحظ أبيكاسيس (A.Abecassis) أن "يهوه (YHWH) لا يبدي سوى ظهره"3 كما هو مكتوب في التوراة "كما لو أن الإنسان أو النبي محكوم عليه أن يلاحق يهوه وأن لا يبصر سوى آثار العبور"4.
ينكشف الإله في الوحي ليظهر في صورة راقية للألوهية ضمن التعالي الممتلئ للمعنى ومن خلال تمهيد سبيل الإنسان نحو الحرية المتنقلة. هناك صفحات عديدة في الإنجيل أين يعلن الإله انسحابه المتواري: "نعم، فأنا أخفي ذاتي في هذا اليوم بسبب كل الشر الناتج عن عبادة آلهة أخرى" دوتيرونوم 31، 16-18.
فالإله يختفي حتى عن ابنه الذي يراوده الشك في أبيه وهو على الصليب أين ينفيه بتجليه: "هكذا يتمزق ستار الهيكل إلى نصفين من الأعلى إلى الأسفل" متّى، 27-51.
فالمعرفة تقتضي تمزيق الستار الذي يعتم وينفي الإله بغية تحقيق أفضل تجل. فهذه هي رسالة المسيح الذي يعلم بالأمثال (paraboles). يعلن المثال عما هو متواري لأنه يمزق المعنى أي أنه يجسده. التجسيد هو هدر المعنى وسحق وكشف منطق الإنسان في التطابق. هنا تكمن التجربة الكاملة للمعنى كما يؤولها ج.ستنير (G.Steiner): "هنا أين نقرأ بالفعل، ينبغي أن تتجلى تجربة المعنى. إننا نفعل كما لو كان النص يجسد حضورا حقيقيا لوجود له دلالة معينة. فهذا الحضور الحقيقي كما هو الحال في الأيقونة أو صورة القديس (Icône) ومثلما هو الحال في الميتافيزيقا المحققة في الخبز والنبيذ، لا يمكن إرجاعه إلى تركيب صورة أو تفكيك تحليلي أو تفسير"5.
ينبغي علينا أن نتأمل في التعريف الذي وضعه "ستنير". فليس من الصدفة أن يستند إلى مرجعية إنجيلية لتحديد التجربة الأدبية للمعنى. فتجربة المعنى هي بامتياز التجسيد الرمزي للروح (Esprit ) في القول والمكتوب (المثال) أو الإنسان (المسيح، ابن الإله) أو أشياء الحياة اليومية (الخبز والنبيذ). المثال هو الشكل الأدبي للتجسيد الذي يصيغ الوحي عبر الرمز ويسحق تطابق المعنى أين تنمو الحقيقة التي ينتمي إليها بحق الإنسان وخطابه، ضمن تصدع الغيرية الإلهية: "في الحقيقة، أقول لك ذلك". فالحقيقة هي بداخلنا مثلما نحن بداخلها وإذا أمكن للمثال الكشف عن المعنى فقط لأن اللغة تنتمي أصليا إلى الحقيقة: يسمى هذا بالكلمة (le verbe).
هذه هي إذن دلالة المثال التي يصيغها الناشر والذي يكسر شروط نطق الكلام كشكل للحقيقة. ينتج عن التجسيد ونزول الوحي في العقل والقول البشريين، نشوء ونمو المعنى في النفس وفي اللغة. النشوء هو الأثر والانعكاس المعكوسين المحايثين للتجسيد.
المثال الذي يعبر عن "الأشياء الخفية منذ نشأة العالم"(*) هو حلم وحنين الأدب: سلطة تجسيد المعنى فيما وراء دلالاته المتعددة، الإيحاء بالحضور عندما تنتهي الكلمات باستدراك الواقع. فبالإمكان التساؤل عما إذا كان المثال الإنجيلي يسطر النطاق "الما وراء-طبيعي" (méta-physique) للعقل الغربي ولفلسفة أدبية منقسمة بين اغتراب المعنى وتكاثر الدلالات. يعكس المثال العقل كمرآة تخفي المعنى والذي يمكنه اللمعان في الوحي عوض فساده في النسيان، لأن المرآة هي الصورة الخاصة لنفاذ العقل الغربي إلى الحقيقة، من أثينا إلى القدس، وأن الحقيقة يفكر فيها على أساس أنها "كشف"(**) أو إماطة اللثام (dé-voilement) أو وحي بمعنى ميلاد جديد (ré-vélation).
2 ـ العقل المنعكس:
إننا نعرف التأويل التقليدي لتاريخ الفلسفة الغربية: يتأسس العقل كمرآة عندما يضع الإغريق المعرفة ضمن نظام الرؤية وهو ما يخلص إليه ريشارد رورتي (Richard Rorty)(***): "مفهوم التأمل بمعنى معرفة الحقائق أو المفاهيم الكلية كـنظرية (theoria) يجعل من بصيرة الفكر(****) النموذج المبهم لأعلى أشكال المعرفة"6. تأتي الفكرة (idea, eidos) من الفعل يفكر والذي يعني رأى (avoir vu)، بمعنى يعرف (savoir). فالفكرة هي محتوى الفكر المبدع، القادر على النظر بمعنى النظر في الذات وحول الذات. فلا يمكن التعبير عن النظرية إلا في إطار مرآة العقل، عندما يفكر في العقل كمرآة داخل الفلسفة المتعالية للإغريق. فالعقل هو إذن مرآة المعرفة الإنسانية حتى تصبح الأفكار التي يشكلها هي آراء إله شخصي كما يفسر ذلك بانوفسكي (Panofsky) في كتابه الرائع الفكرة (Idea): "أخيرا فإن نظرية الأفكار التي تبدو أصلا كفلسفة العقل الإنساني تنقلب إلى منطق الفكر الإلهي"7.
في العصر الوسيط، ينعكس الإله في مرآة العقل الكونية إلى انعكاس ينتقل فيه من المرئي إلى اللامرئي وعكسه. لقد كتب القديس بولس: "لأن ما نعرفه عن الإله هو بالنسبة إليهم أمر ظاهر: فالإله تجلى لهم إذن، فماله من اللامرئي منذ بدء الخلق يتراءى للعقل عبر آثاره وقدرته الأزلية وألوهيته، فهم غير معذورين". (إلى الرومان I، 20).
ويبين غيوم سان تيري أن معرفة الإله بالعقل الإنساني لا يمكنها أن تنتج مباشرة، وإنما عبر المرآة: برؤية الكائنات والأشياء التي تكشف بالتشابه عن الألوهية.
هذه هي إذن مرآة العقل: عتبة الوصول إلى اللامرئي الإلهي عندما تظهر المرآة وراء مشهد العالم وحضور الإله بنسج علاقة رمزية بين الهنا (الدنيا) والهنالك (الآخرة)8.
ربما يمكن تحديد التحليل الكلاسيكي لرورتي وبانوفسكي. هل لتأسيس العقل كمرآة منبع إغريقي؟ يبدو أن هذا المفهوم ليس غريبا عن الفكر العبري. فالأمر الذي يقر بتشكيل العقل كمرآة وانعكاس المتشابهات، هو بلا شك المواجهة الأصلية بين الإنسان والإله. عقل الإنسان الذي يقود إلى تمزيق الحجاب dé-voilement مثلما أن عقل الإله يبرز ويتجلى (se ré-vèle) للإنسان، هما واجهتان لنفس المرآة، مرآة الفكر الغربي: "ما لم يفكر فيه" تاريخ الأفكار.
يتجلى نموذج هذه المواجهة في موسى ويحيا في الحوارات، لعبة المرايا حقيقية أين يتمثل التشابه بين الإنسان والإله. وينبغي تبيان أنه مثلما يتأكد العقل المنعكس في الانبهار الإغريقي بـ "الحقيقة" فإنه يتأكد أيضا في صرامة المقدس المنكشف.
فالعقل الغربي هو مرآة ذات حدين أين يتبادل الواقع وما يعكسه، الكشف والوحي، الذات والموضوع؛ ويستبدلان بلعبة معرفية تسطر المعنى كمسار حلقي (circularité) مما يؤدي إلى إعادة التفكير في تاريخنا الفكري بصورة أقل تطورية وأفقية.
أن يكون الوحي من نظام الرؤية، يكفي للاقتناع من ذلك، استعادة حادثة "الدغل المتوهج" (buisson-ardent) واكتشاف حقل الرؤية الاصطلاحي:
"ظهر ملاك يحي
وقد نظر إليه موسى
سأقوم بدورة لأرى هذا المشهد الغريب
يرى يحيا أنه يقوم بدورة ليشاهد
يكشف موسى عن الواجهة لأنه يخشى
من تثبيت رؤيته على الإله" (الخروج، 3، 1-6).
الوحي هو المروع الرهيب للحقيقة. يتجلى الإله (se dé-cèle) ببقائه متواريا عبر الستار الذي يفرضه عليه تعاليه: "ملاك يحيا"9 وبإلزام موسى للكشف عن رؤيته في مواجهة الحضور غير المطاق.
الوحي هو لحظة الحجاب المضاعف أين يعكس الإله والإنسان ضروريتهما المشتركة، وانتمائهما المتبادل قصد تغيير شكل المظهر: "سأقوم بدورة لأرى هذا المشهد الغريب" الذي يرسم صورة الوصول إلى الحقيقة: الدورة، الحلقة عوض الخط المستقيم. يبقى الإله منسحبا: "لا تقترب من هنا، اخلع نعليك من قدميك لأن المكان الذي تمكث فيه هو أرض مقدسة".
تتحدث دورة موسى وخروج اليهود وسياحة المسيح على الأرض الذي قادته إلى الانتفاء على الصليب باعتباره ابن الإله لكي يتأكد ويثبت ذاته (أن يتحول عن ذاته)، تتحدث عن المكان الدائري للوحي الذي تنتشر فيه مرآة الحضور.
بتعبير آخر، المرآة هي استعارة رمزية للمعرفة الغربية التي تعترف أنها محاكاة (mimesis) حلقية أو دورية مصطنعة بالتشابه العبري للإنسان والإله ("خلق الله الإنسان على صورته") وماهية العقل الإغريقي التأملية.
وبما أن المرآة محتجبة ومقربة في الانعطاف، فهناك إمكانية ظهور الميتافيزيقا بمعنى الثقافة أين تنحجب المرآة وتنعطف النظرة الإلهية والإنسانية في آن واحد تتابعا وإحداهما بعد الأخرى. هذا هو المبدأ الأصلي للوحي الإنجيلي: يعلن الإله لموسى اختفاءه (روتيرونوم، 31، 16-18)، يعاقب وربما هو الإله الذي يمتحن الإنسان مثل يعقوب؛ ينكر الإنسان الإله في ممارسته للعقل النقدي والتي تحرره كفرد ويصبح منافسا للإله. تتضمن المواجهة بين الإنسان والإله وتجربة الحضور وحلقية المحاكاة المنعكسة، إمكانية الالتفات حول الحقيقة وتحويل مسار المعنى. حيوية تاريخ الأفكار وتركيبه المعقد.
3 ـ تاريخ الأفكار والتركيب المعقد:
يبتدأ التركيب المعقد (complexité) كما يكتب ذلك إيدغار موران (Edgar Morin) في كتابه المنهج عندما يحتوي كل كائن منتج لذاته على عنصر نفيه الخاص، ويوضح جون بيير دوبوي (J.P.Dupuy): "النجاح في التفكير في هذه المسألة هو الدخول الأكيد إلى الفكر المعقد (La pensée complexe) لأن إدراج الصراع في صلب الوحدة هو بلا شك طعن خطير في نموذج البساطة (Simplicité)"10.
ماذا يمكننا القول؟ يعلن تاريخ الفكر الغربي نفسه في الاختفاء الإرادي للإله أو السقوط (La chute) أو الخروج (l’exode) أو حيرة الإنسان أو تعاليم المسيح الذي ينتفي على الصليب، باختصار هو الدين أين يتمرد منطق التطابق وإثبات الإله "إنني أنا الإله" على منطق النفي أو السلب. هكذا ينخرط اللاتناسق الأصلي ضمن حلقة التأويل والانعكاس للوحي والذي من خلاله يتجلى الإله في صورة مزدوجة لتطابقه الخاص11 وانعكاس خلقه الذي سينقل الثقافة الغربية من حلقة إلى أخرى ومن نشأة إلى أخرى(*).
إنه فن التسلل العجيب أين تختفي وتتواجد ثقافتنا، وهو ربما ما يطلق عليه هنري آتلان (H.Atlan) اسم "ظاهرة الانتظام الذاتي" (Le phénomène d'auto-organisation) الذي ينتجه التركيب المعقد (complexité): "يمكن إدراك تطور الأنساق المنتظمة أو ظاهرة الانتظام الذاتي كمسار ازدياد التركيب المعقد في طابعه البنائي(**) والوظيفي والناتج عن تتابع المسارات اللامنتظمة المستدركة والمتبوعة كل مرة بحالة انتظام على مستوى التنوع الكبير والإضافة الضعيفة"12.
ففي المواجهة بين الإنسان والإله ترتبط إمكانية الاختفاء والاغتراب التي تجعل من تاريخنا الفكري المغامرة العجيبة وغير المحددة بالنفي ودوامة الأفكار والإبداعات والاختراعات أين تتأكد الفردانية والألوهية في نظام الغرابة مقارنة مع ذواتهما ومع بعضهما البعض. يكمن تاريخنا فيما يلي: حلزونية النفي التي تنفي الحلقية المنعكسة للمحاكاة الأصلية: "إنني أنا الإله"، "خلق الإنسان على صورة الإله". فبين الإله والإنسان هناك إذن "انعكاس مستمر واستبدال المستويات وتقلب غريب أين يشغل كل واحد بالتناوب مكان المشتمل والمشتمل مثل المتنافسين اللذين يتناوبان في بلوغ درجة راقية دون الظفر بها"13.
تتحول لعبة المحاكاة والنفي، الستار والمرآة بين الإنسان والإله إلى تاريخ أفكار متدوم لأنه على الرغم من ذلك يستمر اللاتناسق الإنساني والإلهي وتعالي الإله المتواري، "هذا المستوى المفارق الذي يفلت من الانعطاف" والذي تلخصه عبارة الإنجيل: "مملكتي ليست في هذا العالم"14.
هكذا هو الإله: منعكس، مرآة أين تنشأ حلقة المحاكاة. لنتذكر التعريفين اللذين يذكرهما كتاب الفلاسفة الأربع والعشرون (مخطوط من القرن الثاني عشر): "الإله هو حلقة أين يتواجد المركز والمحيط في كل مكان"؛ "الإله هو ذرة روحية (monade) تنتج عنها ذرة روحية أخرى وتعكس في ذاتها همتها".
انطلاقا من هذه الحلقة الأصلية أين يتجلى الإله، ينعطف تاريخنا الفكري من حلقات إلى حلقات متغيرة عن بعضها البعض من خلال حركة النفي النابعة عن تعالي الإله وغيريته الأساسية لكل تفكير متطابق يحجب الانعكاس والمحاكاة.
هكذا تتدخل الحلقيات (Circularités) إلى ما لا نهاية: حلقية الدائرة النفسية التي تسعى لأن تتوجه نحو العالم عبر الأزمنة الحديثة: حلقية الكوسموس الذي ينحني إلى اللانهائي أين تتسرب مجرات غاليلي وهابل، حلقية الأدب الذي يسعى للانغلاق على ذاته ضمن كلية (totalité) تحاول سد فراغ المعنى الناتج عن عالم هجره الإله، عندما لا تتطابق الكلمات والأشياء. أيضا حلقية التأويل المعبر عنها بـ"حلقة فن التأويل" (Le cercle herméneutique) التي ينتهي بها الأمر إلى الإحالة على فكر المؤول ومن النقد الأدبي إلى فيزياء الكوانتا. باختصار، حلقية الفكر الإنساني والتفكير (اللفظ له دلالة عميقة)، هما منطقان أساسيان للمعنى أين تؤسس حركة الانعطاف المتغيرة باللاتناسق الأصلي عدة انعطافات ابتداء من لحظة النشأة المستمرة. فوراء الأشكال الحديثة للثقافة والمعرفة، تكمن حلقية المحاكاة التي تربطنا بإله خالق ومنافس، متشابه ومختلف، آخر الذي يدعونا لتأمل معنى يختلف عن ذاته ويتوارى عن غيره. فهناك النسق المستقل للمعرفة المنعكسة والغريبة نوعا ما عن موضوعها. باعتباره في طي النسيان، فالإله يوجد المعنى ابتداء من الدوي (bruit) كما يقول آتلان (Atlan)، بمعنى ابتداء من اختفائه الأصلي ويدفعنا نحو تموج الانعطافات المعرفية اللامتناهية، وفوضى دوامة عجيبة التي هي تاريخنا الفكري الخاص، المشتق عن نظام ثقافي معين(15).
فلا يمكن التردد في إثبات هذا الأمر: يوقع الإله منعطف تاريخ الأفكار الغربي ضمن زوال وهم الأشياء وتحويل مجرى الإنسان خارج الإنسان المسيحي المتدين. لأن زوال وهم العالم وعلمنة أنماط الحياة والمعارف ينبغي إدراكها كانعطاف أو التفاف البرهنة أو التفسير الديني للأشياء. يتعلق الأمر إذن بمغادرة نمط الرؤية من مرآة الإله إلى مقلة العقل نحو مرآة الواقع المباشر، نثر العالم (La prose du monde). النسيان هو تحويل مجرى الذات، تأسيس انعطافات فكرية ومعرفية أخرى وتشكيل صور أخرى في مرآة العقل الملتوية: يعلن يحيا لموسى أن قومه سيتولى عبادة آلهة أخرى.
تاريخ الأفكار هو تاريخ دورات وانعطافات متكررة وقول ونسيان، يصبح الأثر الأدبي على إثره هو الشاهد.
4 ـ رحلة حول الأدب:
عندما قام الإنسان في القرن السادس عشر برحلة حول العالم، توارى الإله وسعت دائرة المعارف إلى احتواء الدائرة الإلهية حتى مائتي سنة لاحقا، أين أصبح المنشور الإلهي (L’encyclie divine) موسوعة بشرية (Encyclopédie)16. كان الإله مفكرا فيه كحلقة واليوم الفكر النقدي للإنسان الحديث يفكر في ذاته كحلقية. هكذا يحدد هيغل مفهوم الوعي كمركز محاط بدائرة الفكرة حتى يختلط بها ويتجاوزها لكي يتحول إلى فكرة أخرى وحلقة واسعة. فحركة المعرفة الهيغلية هي حركة تداخل الحلقات والدوائر. "الذين يعتبرون أن "الأنا" لا نهائي فهم لا نهائيون، انعكاسات دوائر أخرى، فهي دوائر الدوائر"17. تتعدد دوائر المعرفة وتتشظى دوامة الفكر وتنكشف ثم تتصدع مرآة العقل والتاريخ –الكائن على صورة الكوسمولوجيا الكوبرنيكية- يتحول إلى ثورة. هذا ما يدركه كولريدج (Coleridge) في مفهومه للحداثة، "فالمعرفة بالنسبة إليه، منقسمة إلى أجزاء متفرقة لا تحصى في عدة مجلدات مثلما تنكسر المرآة إلى قطع متعددة ملقاة على الأرض التي عوض صورة واحدة، فإنها تعكس كلها عدة صور غير مكتملة"18.
الأدب في صورته الحديثة كما شكله رومانسيو أثينايوم (Athenaeum) الألمان، يصبح أيضا المنعطف أين يتشكل النص كحلقة، مرآة محفوفة بالمعنى، شظية مطلقة ومستقلة، قطعة من المرآة المنكسرة.
الأدب هو منعطف وينبغي للقارئ أن يقوم بمرحلة حول الأثر الأدبي الذي يرمي إلى التعبير عن حقيقته الحلقية الخاصة، قول-عالم (une parole-monde)، دائرة المعنى التي تنزلق حول التعدد الدلالي للغة بالمقارنة مع الأرض التي تنزلق في لا نهائية الكوسموس بعد غاليلي. فقد أصبحت الكتابة والقراءة مغامرة: رحلة حول العالم محفوفة بالمخاطر. ليس هناك من عبر أحسن من غوته (Goethe) في رؤيته الجديدة للأشياء عندما يتعلق في كتابه فوست الثاني بوصف حركة دوران الأوراق النباتية والأغصان حول الجذع، فهي حركة الحياة ونفسها حركة أثار الكاتب الألماني: "يرتفع الجذع الدقيق بسرعة ولم تنم الأوراق بعد، فهذه الصورة الرائعة تثير إعجاب المشاهد. في الجوار، ضمن الحلقة، تنتظم الأوراق الدقيقة المتجاورة والمتشابهة"19.
يمثل النمو المتدور للنبات صورة الإبداع الأدبي، حلقة تأتي كصدى وكمنافس لحلقة الإله والكلمة ولكن بصورة غير متعددة. ربما الأمر الذي يستحق الاهتمام هو أن الاستعارة التي وظفها غوته تأتي كصدى لمثال الإنجيل. ولكن من العهد الجديد إلى الرومانسية تغيرت الأشياء: تنمو الكلمة في الحقيقة مثلما تتطور في فكر الإنسان بفضل تعليم المسيح. مثلما أن الكلمة تتجسد فإن المعنى يتجسد بدوره في المثال، يدفع ويتمرد على مملكة السموات في الأرض الخصبة لجنة الإله، بمعنى النفس البشرية.
على هامش الحداثة وفي الحلقات المتداخلة للعالم والوعي واللغة، ينمو النص الأدبي بالتواء ويقود الأعماق الجيولوجية للغيرية الإنسانية إلى السطح. هكذا يلف الكاتب النص: في دوائر وعيه والدلالات النامية التي تنشأ وتنمو كلما تعتمت وانكسرت مرآة العقل تحت وطأة تقهقر وحيل التاريخ. تلك هي الحركة التي يقر بها غوته في حياة الإنسان وفي الكلمات والأدب: دوران والتواء المعنى. "أعظم هبة تلقيناها من الإله ومن الطبيعة هي الحياة، حركة دورانية للموناد(*) حول نفسه"(20).
يشبه غوته الأثر الأدبي بالنبات الذي ينمو بدورانه حول المركز ويعتقد أنه وجد النموذج في مسرح شكسبير. فيلاحظ بهذا الصدد: "كل مسرحياته تدور حول نقطة مبهمة وغريبة"21. هكذا يعرف بذكاء النشاط الحديث للكاتب ووظيفة الأدب كما يلي: مثلما أن السيد المسيح زرع النفس البشرية بالكلمة والمثال، فإن الروائي أو الشاعر يزرعان اللغة لإنماء الدلالات، بينما يسطران الفضاء المغلق للنص. لقد حلل جورج بولي (G.Poulet) بدقة كيف أن فلوبير (Flaubert)، بـو (Poe) وبودلير (Baudelaire) يعتبرون الأدب كمحل دائري للغة. فبودلير مثلا يشبه الفعل الشاعري بلولب يدور حول الفكر الموجه: "التيرس"(*). يمكن ملاحظة أن الشاعر يستعمل من جهة الاستعارة النباتية، ومن جهة أخرى يذكر في بداية الشعر بالقيمة المقدسة "للتيرس": "ما هو التيرس؟ حسب المعنى الأخلاقي والشاعري، هو رمز كهنوتي في يد القساوسة لإقامة مراسيم الألوهية باعتبارهم المؤولين والخاضعين لها. فيزيائيا، فهو ليس سوى عصا خالصة، عصا من الأعشاب، عود الكروم، يابس وصلب ومستقيم. حول هذه العصا وفي تعرجات متقلبة تمرح الجذوع والزهور، الأولى متعرجة وملتوية والثانية ممتدة مثل النواقيس والأجراس أو الكؤوس والأكواب المقلوبة. مجد مدهش ينبع من تركيبة الخطوط والألوان لينة ولامعة. ألا يمكننا القول إن الخط المنحني والخط الحلزوني يلتويان حول الخط المستقيم وينعرجان بإيقاع حول هذه العبادة الصامتة؟(…) فالعصا هي إرادتك، مستقيمة وصادقة العزم وراسخة، الزهور هي نزهة أهوائك حول إرادتك" (التيرس، كآبة باريس)22.
يمكننا مضاعفة الأمثلة التي يوردها الكتاب بشأن الحركة الدورانية في تجربتهم الأدبية: يشبه بروست (Proust) من جهته تدفق الذاكرة بالدوامة التي بانبثاقها عن "نقطة غير محسوسة ومتناهية في الدقة والتفصيل"، تكتسح منطقة الوعي. لنقرأ حادثة فنجان الشاي. ما يرويه بروست هو بلا شك أصل ونشأة وامتداد حلزوني لعالم داخلي ابتداء من نقطة تفصيل، مذاق قطعة من الحلوى مبللة بالشاي، ومنه تكون جملة الصوناتة (sonate) لـفانتوي (Vinteuil) أو عطر الزعارير البرية، مراكز اهتزازية أخرى. فإذا كان الأدب سابقا حقيقة على الواقع، باعتباره المحل أين يقود الإنسان مغامراته الميتافيزيقية ويكرر صيرورته التاريخية، يمكننا رؤية في البحث(*)، تصوير قبلي لنظرية هابل في التحليل الأدبي للوعي والتي في سنة 1929 أدلت بفرضية امتداد الكون. لقد علقنا بما فيه الكفاية عن حلقية النصوص الحديثة من بروست إلى بيكت (Beckett) ويونيسكو (Ionesco).
لكن يمكن استكشاف الأشياء بدقة وتبيان ابتداء من أية مناهج أدبية تتأسس صورة الدوامة باعتبارها نموذج الفكرة الحديثة في الأدب. لأن هذه الفكرة تتشكل كلاشعور أو لا مفكر فيه للنصوص انطلاقا من أنظمة متعددة وإن كانت منعزلة فإنها صدى بعضها البعض وترسم مواقعية هذه الفكرة في الأدب أو إذا أمكننا القول، فلسفة أدبية23.
هناك ثلاثة مناهج أو أنظمة يحصيها ماشراي (P.Macherey):
1 ـ إفراط وحدود القول الذي من ساد (Sade) إلى فلوبير يسعى إلى هدم الواقع بجنون الخطاب. أصبح الواقع المتوهم فارغا، لاشيء، مجرد إغراء والذي يحاول النص الأدبي الحلول محله وسد ثغراته عبر استعارة أو مقتضى الأسلوب.
الأدب هو الإبداع الناشئ عن كلمة الكاتب. فللتكلم عن تجربته الأدبية، يعيد فلوبير أخذ التعريف الشهير للإله الذي ذكره كتاب الفلاسفة: "ينبغي للكاتب أن يكون في أثره مثل الإله في الكون، حاضرا في كل مكان ولا مرئي. فالفن باعتباره طبيعة ثانية، فخالق هذه الطبيعة ينبغي أن يعمل وفق أساليب مماثلة" (رسالة إلى لويز كولي (Louise Colet)، 9 ديسمبر 1852)
2 ـ العمق الذي يميز أنطولوجيا سلبية حيث أوضحنا في مناسبة أخرى أنها تعبر عن ذاتها عبر استعارة جيولوجية وحفرية. حلقة الأدب تغور وتتعمق لأن المحايثة الحديثة للمعنى تؤسس حفريات المعرفة من بستان كانديد (Candide) الذي يدعو فولتير (Voltaire) لزرعه في الأرضيات التحتية التي يمسحها جون فالجون (J.Valgean) أو في أسلوبية العمق لسيلين (Céline) التي تظهر وتكشف عن الخطأ والنقص الكامنين في ذواتنا.
3 ـ الصيرورة، هذه الحركة التي تميز حلقة النص وتشقه حلزونيا بإزاحته مقارنة مع موضوعه. حول استفسارات مادام دي ستيل (Madame de Stael) التي تبين تاريخية وترابط الثقافات يجيب كبار الروائيين للقرن 19، بالزاك (Balzac) أو ستانديل (Stendhal) عندما يمثلان شخصية أتلفها التاريخ (L’histoire) حيث أن الطموح لا يبلغ موضوعه بمعنى دوامة الرغبة والشخص والكتابة.
لقد فهمنا كل ذلك: الإفراط، العمق، الصيرورة هي "تيرس" بودلير، دوامة حديثة للدلالات التي تكتسح دائرة الأدب أين يمكن للكاتب والقارئ أن يرحلا حولها. هذه الدوامة تتحرك بسرعة، بكسرها وتفجيرها للاقتسامات المعرفية المؤسسة: واقع وخيال، حلم وأدب، الأزمات العصبية لفلوبير (صاحب كتاب ذاكرات مجنون في فترة المراهقة) إلى جنون نرفال (Nerval) الذي يسعى جاهدا إلى القول بـ "سريان الحلم في الحياة الواقعية" أو إلى هذيان رامبو (Rimbaud) صاحب الفتوحات المنيرة (illuminations) وموسم في الجحيم (Une saison en enfer).
يشحن رامبو دوامة الكتابة ويضاعف من مفعولها عندما يؤكد في رسالته إلى جورج إيزامبارد (G.Izambard) بتاريخ 13 ماي 1871: "إنني أنا الآخر"24 (أو الأنا هو الآخر). الدوامة التي أنشأها الإله تنحل إلى دوامات متعددة ودلالات متشظية مهيجة ومتلفة أين تغيب هوية الكاتب ووظيفة النص في التمثل وحقيقة ومعايير الفن. الخطاب أو المقال، مثل الفلسفة التي انهالت عليها ضربات نيتشه (Nietzsche) بالمطرقة (coups de marteau)، لا يمكنه سوى أن يكون متشظيا إلى جزر (archipel): الأدب والفن متأزمان والحقيقة متوارية. تبقى فقط جملة التيارات البحرية المتدومة التي تقوض المواقعية المجهولة لمعرفتنا وأين يغرق الكاتب إراديا: حلم سريالي، اشمئزاز سارتري أو وهم الأشياء. ذلك هو ما يدعونا إليه الشاعر، الدوران الحديث لفكرنا الخاص نحو الغزارة الشائكة للمعنى: "أقحم نفسك في المجهول المتوغل. أجبر نفسك على الاستدارة" (روني شار (René Char) ورقات التنويم).
يحاول تاريخ الأفكار حكاية مغامرة المعرفة المنعكسة التي تأخذ شكل المرآة الدورانية للإله حتى تصبح هذه المرآة، وعبر منطق التركيب المعقد، حلقة الوعي الفردي الذي ينعكس على ذاته عند مونتاني (Montaigne) وديكارت (Descartes) وحلقة النص الأدبي أو أيضا التعدد الغزير للدوائر المعاصرة للمعرفة. هذه المغامرة الدورانية للأفكار هي أيضا مغامرة تأزيم المفاهيم الكبرى للثقافة الغربية: أزمة فكرة الإله، أزمة فكرة الأدب، أزمة الذات، أزمة واسعة للثقافة والحضارة، تلك الأزمة الشهيرة Krisis التي شخصها هوسرل (Husserl) في الثلاثينيات من هذا القرن. هو أن المعنى في الحداثة الراهنة يمكث خارج العقل واللغة، و"العالم المحسوس للحياة" يلبث وراء الإنسان والوعي وتلاشي مفهوم الحقيقة المطلق على نحو لا يمكن تداركه عندما عوض مبدأ الغيرية مع رامبو وتابعيه، كتاب أو فلاسفة؛ مبدأ الهوية أو على الأقل أخذ من فوق الحركة الحلزونية للفكر: "الأنا هو الآخر"، والاختلاف في الأثر.
لا تزال حلزونية المعنى التي حركها الانغلاق المتعالي للإله حول نفسه والنفي الأساسي الذي يشق ويكسر المعرفة: "مملكتي ليست من هذا العالم"؛ لا تزال تسطر لنفسها بعمق وتقرأ ذاتها باستمرار وتفكك أواصرها على الدوام في طرس غير مقروء ومرآة محجوبة ومغشاة بظلمة الدلالات المحايثة والغياب التراجيدي لكل حضور.
نزل جحيم دانت (Dante) في العقل الذي يغرق في الحلقات المتشظية وأجزاء المعرفة التي تجزئ وتبدد الواقع إلى نشاط متصدع. فالمثال بعيد: ينمو المعنى مثل نبات وحشي، مثل صدفة الزرع بحيث ترميه الصدمة المباغتة للكلمات والعبارات على سطح اللغة، ولكنهما يغرقان غالبا في الهوة التي تفصل الإنسان والعالم، الكلمات والأشياء، وأين ترتحل الحقائق المتلاشية.
انكسرت المرآة ولكن المطرقة التي انهالت عليها لا "فاعل لها" لأن الإله غادر بتوقيعه. في مواجهة مرآة فارغة فإننا ننتظر ونتأمل هذا الفراغ الكائن في ذواتنا، وإفلات المنظور الذي يلتف وينطوي على دوامات لا متناهية من المعنى والتي تحمل معها الواقع المسحوق. إننا نمعن النظر وندقق الفحص ولكننا لا نرى سوى محلات تراجيدية من العدم. وتحت السماء المعكرة التي تؤثر على وعينا لا تنتج سوى اللمحات الخاطفة والإنارات الشاحبة التي ما تنفك أن تختطفها الظلمات الحالكة للتلف الكائن في ذواتنا.
الجهة الأخرى من المرآة التي اخترقناها بعد كسرها لا تؤدي سوى إلى غياب ذواتنا. تبقى فقط شعلة المصباح التي إذا انعكست بضعف في مقلة العين لعقلنا، فإنها تحمل إلى مكان بعيد. فإذا عرفنا كيف نستدير من جديد ونرفع النظر، ربما يمكننا إذن إدراك محيطها المتلألئ بالحضور: "تقرب عود كبريت من القنديل والذي يشتغل فلا يضيء. فبعيد –بعيد جدا عنك- أن تضيئ الحلقة". (روني شار، ورقات التنويم)n
________________________________________
قراءة في ماهية العقل الغربي
بقلم: ميشال فوشو
ترجمة وتقديم: محمد شوقي الزين
تقديـم:
نشر ميشال فوشو هذا المقال في الدفاتر الدولية في الرمزية Cahiers internationaux de symbolisme، أعداد 71-72-73، 1992، (ص149-162).
إذا جاز لنا اختصار الآراء التي جمعها ميشال فوشو في مقاله في كلمة مختصرة وجامعة وملمة، فهي: نهاية اليقين (La fin de la certitude).
نهاية اليقين ترتبط ببداية التركيب المعقد (La complexité) الذي يحكم نظام الأفكار والأشياء. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر وهي الفترة التي تجاوز فيها نيتشه الإطار المطلق والمغلق للميتافيزيقا الغربية كما تجلت عند هيغل؛ منذ نيتشه، لم يعد للبداهة أو البساطة أي دور تقوم به ما دام النموذج (Le paradigme) الذي شهدت ميلاده وصياغته فلسفة نيتشه يقر بحقيقة التركيب المعقد الذي يعبر عن الطابع المتداخل والمتنافر للظواهر والأشياء. هذه الحقيقة تأكدت بوضوح مع "مبدأ اللايقين" الذي صاغه هايزنبارغ (Heisenberg) في فيزياء الكوانتا كمدخل لنهاية الحتمية، بحيث يستحيل تحديد وضعية الجزيئي وسرعته في آن واحد. بالمعنى الإبستمولوجي للكلمة، هو نهاية الانسجام المطلق بين الذات العارفة (الذات التي تلاحظ) وبين موضوع المعرفة (الموضوع الملاحظ): نهاية حلم لابلاس (Laplace) الذي سعى إلى وصف وتفسير اليقين ضمن اللايقين نفسه، بمعنى أنه عمل على إيجاد قاعدة رياضية شاملة تفسر الظواهر المعقدة وتخترق الحجب لتصف اللامتناهي في الصغر واللامتناهي في الكبر على حد سواء. تلك هي إذن أسطورة العقل الكوني التي صاغها لابلاس بحيث لا شيء (مهما صغر أو كبر) يفلت من قبضة هذا العقل، الذي يدرك هنا والآن في لحظة واحدة كل الأشياء والحركات والوضعيات.
إذا كانت المعرفة العلمية تعتمد على التفسير (= الإطار الأكسيوماتيكي)، فإن تاريخ الأفكار، كما يصفه ميشال فوشو، ينبغي أن يركز أو بالأحرى أن يكشف عن طابعه التأويلي (= الإطار الأكسيولوجي) الذي يعيد النظر في آلياته ومناهجه ورؤاه وفق ممارسات وقواعد عملية صارمة. هو الأمر الذي نبه عليه ويلهالم دلتاي (W.Dilthey) الذي اعتبر "أننا نفسر الطبيعة ونفهم الحياة النفسية"
[1]. الفهم (La compréhension) هو طريقة أو منهج يسمح بمجاوزة التفسير كتقنية تستسلم في نهاية المطاف إلى اللاحتمية والطابع والمعقد للظواهر.
رمزية المرآة:
ينكشف تاريخ الأفكار في رمزية المرآة (La symbolique du miroir) أين تنعكس حقيقة العقل الغربي كصراع أزلي بين الإله والإنسان أو بين المقدس والدنيوي، بحيث يسعى الثاني حلول محل الأول من خلال تجربة علمانية أو علمنة (Laïcisation) أو تحويل الأخلاق الدينية والمتعالية إلى قيم علمانية وضعية إنسانية (sécularisation) [2]. المرآة كرمز وحدة الوجود (Panthéisme) ليست غريبة عن العقل الغربي أداة وفكرا، صورة ومعنى. فليس من الغريب أن يكون سبينوزا (Spinoza) قد بلور نظريته حول وحدة الوجود العقلية بناءا على رمزية المرآة، تلك المرآة التي طالما عهدها واشتغل عليها، عندما كان يصقل المرايا، كعمل وحيد كان ينال من خلاله قوت يومه. المرآة، هي حضور التعالي في ثنايا المحايث، أو التجسيد الرمزي للروح (Esprit) كما يقول ميشال فوشو: باختصار، هو أن الحقيقة (Vérité) ليست خارج الإنسان وهذا الأخير ليس خارج الحقيقة. كل واحد منهما ينطوي على الآخر (حقيقة الإنسان الأكبر Macrocosme والعالم الأصغر Microcosme): البحث عن الحقيقة سبيله هو الذات، التأمل فيما تنطوي عليه النفس البشرية (L’âme humaine) من أسرار وعجائب. الحقيقة هي في النهاية "مرآة" يرى من خلالها الإنسان ذاته ويتأمل في إرادته وقواه وحدوده. فليست الميتافيزيقا بالمعنى الكنطي للكلمة سوى مرآة مصقولة يرى من خلالها العقل الخالص إمكانياته النظرية وحدوده. الحقيقة –وعبر رمزية المرآة- هي كشف (dévoilement) أو aletheia بالمعنى الإغريقي؛ هي النور الذي ينعكس في المرآة الكونية ويضيء النفس البشرية بكل ما تحمله من قوى عقلية وخيالية وفكرية وعملية: ميلاد الفكرة بفعل هذا البصيص المنعكس. حفريات العلوم الإنسانية التي صاغها ميشال فوكو في كتابه الشهير الكلمات والأشياء، تبين هذا الانعكاس المتبادل للكائنات والأشياء من خلال عنصر التشابه في عصر النهضة. لوحة فيلاسكيز (Vélasquez) التي حللها فوكو تعكس لعبة المرايا وانعكاس الأشياء دون بلوغ حقيقة التمثل (représentation) الذي هو الموضوع المباشر للرسام؛ فقط لأن الحقيقة، رغم كونها المرآة المصقولة التي يتأمل فيها الإنسان قضاياه المعرفية والأنطولوجية والميتافيزيقية، فهي في نفس اللحظة الخفية التي لا تظهر: مفارقة عجيبة تجعل شدة الوضوح هو الاختفاء عينه. وهذا الاختفاء هو "ما لم يفكر فيه" تاريخ الأفكار …
حلقة المعنى:
هذا الالتقاء المتواقت بين الحقيقة كمرآة والإنسان كمتأمل في هذه المرآة يعكس نشوء المعنى كمسار حلقي يخلو من كل تطور أفقي. تاريخ العقل الغربي، من المفهوم الحلقي للتاريخ لدى الإغريق (L’histoire cyclique) (من هنا اعتبر أرسطو أن الدائرة هي أكمل الأشكال الهندسية) إلى العود الأبدي عند نيتشه مرورا بالوعي (النرجسي) المركز على ذاته عند هيغل، هو تاريخ حلقات متداخلة ومتجاورة من المعاني والدلالات. يبقى المركز هو القيمة المعيارية المطلقة لكل دائرة من هذه الدوائر: التاريخ الحلقي عند الإغريق يتمتع بمركز أسطوري من خلال الرحلات والمغامرات التي يباشرها البطل (Le héros) ومن خلال الأحداث المقدسة؛ الوعي الخالص الهيغلي هو مركز التجليات الأنطولوجية للكائن الذي يسعى في صورة حلزونية إلى بلوغ قمة المعرفة المطلقة؛ العود الأبدي النيتشوي يتطلع إلى ميلاد الإنسان الأعلى كنهاية حتمية للقيم المتعالية. وعليه، فإن الصيرورة هي عود لا نهائي (Le Devenir est un Re-venir)، تجليات دورانية ومتدومة (Tourbillonnées) تنم عن الطابع الحلقي لكل عصر من العصور.
هكذا يصف ميشال فوكو في الكلمات والأشياء المنظومات المعرفية (épistèmés) كطفرات (mutations ) حلزونية، التي تتخذ شكل دوائر متشظية: التشابه (ressemblance) هو مركز المنظومة المعرفية لعصر النهضة (القرن 17)؛ التمثل (représentation) هو مركز المنظومة المعرفية الكلاسيكية (القرن 18)؛ والتاريخ (l’histoire) يعتبر المركز الأساسي للحداثة في القرن 19، الذي يقطع صلاته مع أنظمة الرؤية والتعبير في العصرين السابقين ويعلن عن ميلاد قوة مبهمة (= الحياة) تتكلم في الإنسان ككائن حي ناطق عامل (= الذات) يفكر حول الحياة واللغة والشغل (= الموضوع)، لكنه يخفي نظام تناهيه (finitude) الخاص وأنه مجرد "إبداع قد برهنت حفريات نظامنا الفكري بسهولة عن تاريخه القريب؛ والنهاية المحتملة قريبا" [3].
غير أن العقل الغربي يدرك المعنى كشظايا من الدلالات المتناثرة والطافية على سطح الخطابات بفعل انكسار المرآة الكونية المتعالية التي تعكس انطلاقا من "موت الإله" مع نيتشه فقط أضواء متعددة نظيرة الشظايا التي خلفها انكسار المرآة. نهاية اليقين في العقل الغربي هو نهاية "ألف لام" التعريف وقيام الجمع المجهول في صورة "النحن" (Nous) الفوكوي أو "بعضهم" (On) الهيدغري؛ فلا يمكننا الحديث عن [ الـ] معنى الكوني والشامل، وإنما عن دلالات متشظية معبرة عن خطابات ممزقة لوقائع معقدة ومتشابكة ولا عن [ الـ] حقيقة المتعالية والمطلقة وإنما حقائق مبعثرة محايثة للممارسات الفردية والاجتماعية والأفعال والسلوكات كممارسات خطابية –على حد تعبير ميشال فوكو- متنافرة ومتعددة المصادر والمقاصد؛ ولا عن [ الـ] تاريخ كحدث شامل وخطي وإنما تواريخ خاصة ومحددة: تاريخ "مؤسسة"، تاريخ "لفظ"، تاريخ "فكرة"… هذه الدلالات المتشظية والحقائق المبعثرة والتواريخ المحايثة هي مجرد دوائر أو حلقات متداخلة تخلو من مراكز (نهاية تاريخ الميتافيزيقا المطلق والمغلق)، أو بالأحرى هي حلقات متدومة وهائجة تدفع خارجها كل فكرة ثيولوجية تسعى إلى التحكم في نظامها ونسقها بصورة متعالية ومفارقة [4]؛ والتي تجسدت في تاريخ العقل الغربي في صورة نرجسية ومركزية للعقل الكوني Logocentrisme. شهادة الأدب والفلسفة بحلقية أو حلزونية العقل الغربي جد هامة تظهر من خلال مؤلفات وآثار غوته (Goethe) ومماثلته بين المرفولوجيا النباتية القائمة على الإنثناء [5] وبين الأثر الأدبي كفوارة دلالات تنثني حول حقيقة المعنى التي يكشف عنها هذا الأثر. ألا يمكن اعتبار تاريخ الأفكار هو مجرد تأويل للفكر العدمي (nihilisme) الذي يمارسه العقل الغربي؟ ربما هو هذا المنحى الذي سار ويسير وفقه هذا العقل، هو تبيان نسبوية القيم والأفكار وفكر عدمي يفكك الحقيقة إلى حقائق متعددة ومتضاربة ويجزئ المعنى إلى دلالات متشابكة ومتشظية: نهاية اليقين وحلول عصر الارتياب والفراغ.
الترجمـة:
ينبغي استعادة وصياغة تاريخ الأفكار وعدم التردد في رسم الانسجامات الثقافية التي تربط بين جوانب المعرفة المختلفة والمتباعدة (الفن والعلوم على سبيل المثال) والتي تنتشر في فترة زمنية طويلة.
من هذا المنظور، تبدو أعمال لوفجوا (A.O.Lovejoy)، جورج بوواس (G.Boas) أو مارجوري نيكلسون (Marjorie Nicholson) الموجهة في جامعة جون هوبكنز في الثلاثينات من هذا القرن في الولايات المتحدة الأمريكية، تبدو هذه الأعمال أنها تؤسس مرجعا هاما ومنهجا محكما.
تخطيط الانسجامات الثقافية هو تجنب حتمية تذكارية تستعرض المعنى الأفقي أو الخطي وأحادي الدلالة للتاريخ. لا يمكننا استعادة آراء هيغل أو ماركس بمعنى صياغة فلسفة في التاريخ التي تبدو بالأحرى ساذجة مما يتراءى أنها هامة وحاسمة.
يحذر إيزاياه برلين (Isaiah Berlin) من كل محاولة تنحو هذا السبيل: "مهما حاول مؤرخو الأفكار أن يصبح عملهم دقيقا وصارما، فإنهم لا يمتنعون عن الكشف عن المخططات العامة فيما يمكن أن يكون موضوعا لنشاطهم التاريخي(…) يتعلق الأمر عموما بالدفاع عن صنف أو مبدأ أساسي الذي يزعم أنه الدليل الأكيد للماضي وللمستقبل وأنه العدسة السحرية القادرة على الكشف عن القوانين التاريخية المتوارية الصارمة والمتواجدة في كل مكان واللامرئية للعين المجردة للمؤرخ السردي البسيط(…)"1.
خطر التبسيط أمر واقعي وينبغي لتاريخ الأفكار أن يأخذ بعين الاعتبار في نفس الوقت انسجام الظواهر الثقافية والتواءات وانفصالات ولا تناسقات وتغيرات النموذج (paradigme) كما يقول كون(*) والتي تحول مجرى الوقائع والإبداعات الإنسانية وتخلط الواقع.
بيد أنه لا يمكن لتاريخ الأفكار أن يتخلى لهذا السبب عن الفهم، والأحرى أنه لا وجود لوصف موضوعي للوقائع. ماذا يكتب "برلين" من جديد؟
"إنه وهم ميتافيزيقي، الفكرة التي تقول بوجود قوانين من هذا النوع، فهي بحق فكرة لا قيمة لها؛ وعليه فالفكرة المعاكسة والتي تقول أنه ليس هناك سوى وقائع مفاجئة وطارئة، عذراء ولا يمكن الإحاطة بها ليست أقل سذاجة من الأولى"2.
ينبغي أن يكشف تاريخ الأفكار عن طابعه التأويلي، تأويل صارم يعيد التفكير في مناهجه ويؤول ممارسته العملية وبديهياته الخاصة في نفس الوقت الذي يسائل فيه الأدب والنظريات الفنية والعلمية: حلقية التأويل إذن.
يأخذ تاريخ الأفكار مشروعيته وسبب وجوده من الطبيعة المنعكسة للعقل الغربي الذي يسلم بوجود قطيعة بين الواقع والفكرة، أين يرى هيدغر (Heidegger) أصل نشأة التاريخ الغربي كتاريخ للميتافيزيقا. هذا الفضاء المنعكس الذي يتحرك فيه العقل هو تماما ما لم يفكر فيه (l’impensé) تاريخ الأفكار والذي يقوده إلى التفكير في نزع الستار الذي يحجب مرآة الحقيقة الواقعية. يتعلق هنا الأمر بإرجاع تاريخ الأفكار إلى ذاته ضمن لعبة الانعكاسات والتي ينكشف عبرها كفكر التركيب المعقد (pensée de la complexité) أين يتصادم منطق التطابق بلا تناسق النفي أو السلب.
كتابة صفحات أو فقرات عن تاريخ الأفكار الغربي يمكنه أن يقود إلى حلقية مستعادة دائما والتأمل في أصل ونشأة تفكيرنا الخاص مثل الحلقة الأولية للمعنى التي ترتبط داخل العقل المنعكس وتتضح بالاسم الإلهي قبل أن تنفجر وتتدوم(*) إلى حلقات متعددة ومكثفة بدوائر المعرفة: الفن، العلم، السياسة،… التي تختبر مهارتها في إدراك المعنى المفقود أو سد الفراغ الناتج عن غياب الإله. ضمن دوامة الأفكار هذه، يحاول العالم من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين تبديد أوهامه.
باختصار تتعلق المسألة بتبيان أن تاريخ الأفكار لا فاعلية له سوى في الحالة التي يوفق فيها، ضمن فعل الانعكاس والحلقية، بين وصف أصل ونشأة الأفكار وبين حركة إبداع الفكر النقدي.
1 ـ حجاب المعنى:
في البدء كان نور العالم ونظرة الإله. النور الذي يضيء الخلق ويحجب ذات الإله. فهو نور يظهر ويفرق، يوحي أي ينير الإنسان ويحجب المعنى. يجيز الوحي التصرف الإرادي للإله الذي لا يلتفت سوى إلى ذاته والإنسان الأعمى يتصرف بحضور الإله ضمن ظلمات الخفاء العميقة. ففي الوحي تبدو إمكانية أو ضرورة "ما وراء-الطبيعة" (méta-physique): هول الرؤية. يلاحظ أبيكاسيس (A.Abecassis) أن "يهوه (YHWH) لا يبدي سوى ظهره"3 كما هو مكتوب في التوراة "كما لو أن الإنسان أو النبي محكوم عليه أن يلاحق يهوه وأن لا يبصر سوى آثار العبور"4.
ينكشف الإله في الوحي ليظهر في صورة راقية للألوهية ضمن التعالي الممتلئ للمعنى ومن خلال تمهيد سبيل الإنسان نحو الحرية المتنقلة. هناك صفحات عديدة في الإنجيل أين يعلن الإله انسحابه المتواري: "نعم، فأنا أخفي ذاتي في هذا اليوم بسبب كل الشر الناتج عن عبادة آلهة أخرى" دوتيرونوم 31، 16-18.
فالإله يختفي حتى عن ابنه الذي يراوده الشك في أبيه وهو على الصليب أين ينفيه بتجليه: "هكذا يتمزق ستار الهيكل إلى نصفين من الأعلى إلى الأسفل" متّى، 27-51.
فالمعرفة تقتضي تمزيق الستار الذي يعتم وينفي الإله بغية تحقيق أفضل تجل. فهذه هي رسالة المسيح الذي يعلم بالأمثال (paraboles). يعلن المثال عما هو متواري لأنه يمزق المعنى أي أنه يجسده. التجسيد هو هدر المعنى وسحق وكشف منطق الإنسان في التطابق. هنا تكمن التجربة الكاملة للمعنى كما يؤولها ج.ستنير (G.Steiner): "هنا أين نقرأ بالفعل، ينبغي أن تتجلى تجربة المعنى. إننا نفعل كما لو كان النص يجسد حضورا حقيقيا لوجود له دلالة معينة. فهذا الحضور الحقيقي كما هو الحال في الأيقونة أو صورة القديس (Icône) ومثلما هو الحال في الميتافيزيقا المحققة في الخبز والنبيذ، لا يمكن إرجاعه إلى تركيب صورة أو تفكيك تحليلي أو تفسير"5.
ينبغي علينا أن نتأمل في التعريف الذي وضعه "ستنير". فليس من الصدفة أن يستند إلى مرجعية إنجيلية لتحديد التجربة الأدبية للمعنى. فتجربة المعنى هي بامتياز التجسيد الرمزي للروح (Esprit ) في القول والمكتوب (المثال) أو الإنسان (المسيح، ابن الإله) أو أشياء الحياة اليومية (الخبز والنبيذ). المثال هو الشكل الأدبي للتجسيد الذي يصيغ الوحي عبر الرمز ويسحق تطابق المعنى أين تنمو الحقيقة التي ينتمي إليها بحق الإنسان وخطابه، ضمن تصدع الغيرية الإلهية: "في الحقيقة، أقول لك ذلك". فالحقيقة هي بداخلنا مثلما نحن بداخلها وإذا أمكن للمثال الكشف عن المعنى فقط لأن اللغة تنتمي أصليا إلى الحقيقة: يسمى هذا بالكلمة (le verbe).
هذه هي إذن دلالة المثال التي يصيغها الناشر والذي يكسر شروط نطق الكلام كشكل للحقيقة. ينتج عن التجسيد ونزول الوحي في العقل والقول البشريين، نشوء ونمو المعنى في النفس وفي اللغة. النشوء هو الأثر والانعكاس المعكوسين المحايثين للتجسيد.
المثال الذي يعبر عن "الأشياء الخفية منذ نشأة العالم"(*) هو حلم وحنين الأدب: سلطة تجسيد المعنى فيما وراء دلالاته المتعددة، الإيحاء بالحضور عندما تنتهي الكلمات باستدراك الواقع. فبالإمكان التساؤل عما إذا كان المثال الإنجيلي يسطر النطاق "الما وراء-طبيعي" (méta-physique) للعقل الغربي ولفلسفة أدبية منقسمة بين اغتراب المعنى وتكاثر الدلالات. يعكس المثال العقل كمرآة تخفي المعنى والذي يمكنه اللمعان في الوحي عوض فساده في النسيان، لأن المرآة هي الصورة الخاصة لنفاذ العقل الغربي إلى الحقيقة، من أثينا إلى القدس، وأن الحقيقة يفكر فيها على أساس أنها "كشف"(**) أو إماطة اللثام (dé-voilement) أو وحي بمعنى ميلاد جديد (ré-vélation).
2 ـ العقل المنعكس:
إننا نعرف التأويل التقليدي لتاريخ الفلسفة الغربية: يتأسس العقل كمرآة عندما يضع الإغريق المعرفة ضمن نظام الرؤية وهو ما يخلص إليه ريشارد رورتي (Richard Rorty)(***): "مفهوم التأمل بمعنى معرفة الحقائق أو المفاهيم الكلية كـنظرية (theoria) يجعل من بصيرة الفكر(****) النموذج المبهم لأعلى أشكال المعرفة"6. تأتي الفكرة (idea, eidos) من الفعل يفكر والذي يعني رأى (avoir vu)، بمعنى يعرف (savoir). فالفكرة هي محتوى الفكر المبدع، القادر على النظر بمعنى النظر في الذات وحول الذات. فلا يمكن التعبير عن النظرية إلا في إطار مرآة العقل، عندما يفكر في العقل كمرآة داخل الفلسفة المتعالية للإغريق. فالعقل هو إذن مرآة المعرفة الإنسانية حتى تصبح الأفكار التي يشكلها هي آراء إله شخصي كما يفسر ذلك بانوفسكي (Panofsky) في كتابه الرائع الفكرة (Idea): "أخيرا فإن نظرية الأفكار التي تبدو أصلا كفلسفة العقل الإنساني تنقلب إلى منطق الفكر الإلهي"7.
في العصر الوسيط، ينعكس الإله في مرآة العقل الكونية إلى انعكاس ينتقل فيه من المرئي إلى اللامرئي وعكسه. لقد كتب القديس بولس: "لأن ما نعرفه عن الإله هو بالنسبة إليهم أمر ظاهر: فالإله تجلى لهم إذن، فماله من اللامرئي منذ بدء الخلق يتراءى للعقل عبر آثاره وقدرته الأزلية وألوهيته، فهم غير معذورين". (إلى الرومان I، 20).
ويبين غيوم سان تيري أن معرفة الإله بالعقل الإنساني لا يمكنها أن تنتج مباشرة، وإنما عبر المرآة: برؤية الكائنات والأشياء التي تكشف بالتشابه عن الألوهية.
هذه هي إذن مرآة العقل: عتبة الوصول إلى اللامرئي الإلهي عندما تظهر المرآة وراء مشهد العالم وحضور الإله بنسج علاقة رمزية بين الهنا (الدنيا) والهنالك (الآخرة)8.
ربما يمكن تحديد التحليل الكلاسيكي لرورتي وبانوفسكي. هل لتأسيس العقل كمرآة منبع إغريقي؟ يبدو أن هذا المفهوم ليس غريبا عن الفكر العبري. فالأمر الذي يقر بتشكيل العقل كمرآة وانعكاس المتشابهات، هو بلا شك المواجهة الأصلية بين الإنسان والإله. عقل الإنسان الذي يقود إلى تمزيق الحجاب dé-voilement مثلما أن عقل الإله يبرز ويتجلى (se ré-vèle) للإنسان، هما واجهتان لنفس المرآة، مرآة الفكر الغربي: "ما لم يفكر فيه" تاريخ الأفكار.
يتجلى نموذج هذه المواجهة في موسى ويحيا في الحوارات، لعبة المرايا حقيقية أين يتمثل التشابه بين الإنسان والإله. وينبغي تبيان أنه مثلما يتأكد العقل المنعكس في الانبهار الإغريقي بـ "الحقيقة" فإنه يتأكد أيضا في صرامة المقدس المنكشف.
فالعقل الغربي هو مرآة ذات حدين أين يتبادل الواقع وما يعكسه، الكشف والوحي، الذات والموضوع؛ ويستبدلان بلعبة معرفية تسطر المعنى كمسار حلقي (circularité) مما يؤدي إلى إعادة التفكير في تاريخنا الفكري بصورة أقل تطورية وأفقية.
أن يكون الوحي من نظام الرؤية، يكفي للاقتناع من ذلك، استعادة حادثة "الدغل المتوهج" (buisson-ardent) واكتشاف حقل الرؤية الاصطلاحي:
"ظهر ملاك يحي
وقد نظر إليه موسى
سأقوم بدورة لأرى هذا المشهد الغريب
يرى يحيا أنه يقوم بدورة ليشاهد
يكشف موسى عن الواجهة لأنه يخشى
من تثبيت رؤيته على الإله" (الخروج، 3، 1-6).
الوحي هو المروع الرهيب للحقيقة. يتجلى الإله (se dé-cèle) ببقائه متواريا عبر الستار الذي يفرضه عليه تعاليه: "ملاك يحيا"9 وبإلزام موسى للكشف عن رؤيته في مواجهة الحضور غير المطاق.
الوحي هو لحظة الحجاب المضاعف أين يعكس الإله والإنسان ضروريتهما المشتركة، وانتمائهما المتبادل قصد تغيير شكل المظهر: "سأقوم بدورة لأرى هذا المشهد الغريب" الذي يرسم صورة الوصول إلى الحقيقة: الدورة، الحلقة عوض الخط المستقيم. يبقى الإله منسحبا: "لا تقترب من هنا، اخلع نعليك من قدميك لأن المكان الذي تمكث فيه هو أرض مقدسة".
تتحدث دورة موسى وخروج اليهود وسياحة المسيح على الأرض الذي قادته إلى الانتفاء على الصليب باعتباره ابن الإله لكي يتأكد ويثبت ذاته (أن يتحول عن ذاته)، تتحدث عن المكان الدائري للوحي الذي تنتشر فيه مرآة الحضور.
بتعبير آخر، المرآة هي استعارة رمزية للمعرفة الغربية التي تعترف أنها محاكاة (mimesis) حلقية أو دورية مصطنعة بالتشابه العبري للإنسان والإله ("خلق الله الإنسان على صورته") وماهية العقل الإغريقي التأملية.
وبما أن المرآة محتجبة ومقربة في الانعطاف، فهناك إمكانية ظهور الميتافيزيقا بمعنى الثقافة أين تنحجب المرآة وتنعطف النظرة الإلهية والإنسانية في آن واحد تتابعا وإحداهما بعد الأخرى. هذا هو المبدأ الأصلي للوحي الإنجيلي: يعلن الإله لموسى اختفاءه (روتيرونوم، 31، 16-18)، يعاقب وربما هو الإله الذي يمتحن الإنسان مثل يعقوب؛ ينكر الإنسان الإله في ممارسته للعقل النقدي والتي تحرره كفرد ويصبح منافسا للإله. تتضمن المواجهة بين الإنسان والإله وتجربة الحضور وحلقية المحاكاة المنعكسة، إمكانية الالتفات حول الحقيقة وتحويل مسار المعنى. حيوية تاريخ الأفكار وتركيبه المعقد.
3 ـ تاريخ الأفكار والتركيب المعقد:
يبتدأ التركيب المعقد (complexité) كما يكتب ذلك إيدغار موران (Edgar Morin) في كتابه المنهج عندما يحتوي كل كائن منتج لذاته على عنصر نفيه الخاص، ويوضح جون بيير دوبوي (J.P.Dupuy): "النجاح في التفكير في هذه المسألة هو الدخول الأكيد إلى الفكر المعقد (La pensée complexe) لأن إدراج الصراع في صلب الوحدة هو بلا شك طعن خطير في نموذج البساطة (Simplicité)"10.
ماذا يمكننا القول؟ يعلن تاريخ الفكر الغربي نفسه في الاختفاء الإرادي للإله أو السقوط (La chute) أو الخروج (l’exode) أو حيرة الإنسان أو تعاليم المسيح الذي ينتفي على الصليب، باختصار هو الدين أين يتمرد منطق التطابق وإثبات الإله "إنني أنا الإله" على منطق النفي أو السلب. هكذا ينخرط اللاتناسق الأصلي ضمن حلقة التأويل والانعكاس للوحي والذي من خلاله يتجلى الإله في صورة مزدوجة لتطابقه الخاص11 وانعكاس خلقه الذي سينقل الثقافة الغربية من حلقة إلى أخرى ومن نشأة إلى أخرى(*).
إنه فن التسلل العجيب أين تختفي وتتواجد ثقافتنا، وهو ربما ما يطلق عليه هنري آتلان (H.Atlan) اسم "ظاهرة الانتظام الذاتي" (Le phénomène d'auto-organisation) الذي ينتجه التركيب المعقد (complexité): "يمكن إدراك تطور الأنساق المنتظمة أو ظاهرة الانتظام الذاتي كمسار ازدياد التركيب المعقد في طابعه البنائي(**) والوظيفي والناتج عن تتابع المسارات اللامنتظمة المستدركة والمتبوعة كل مرة بحالة انتظام على مستوى التنوع الكبير والإضافة الضعيفة"12.
ففي المواجهة بين الإنسان والإله ترتبط إمكانية الاختفاء والاغتراب التي تجعل من تاريخنا الفكري المغامرة العجيبة وغير المحددة بالنفي ودوامة الأفكار والإبداعات والاختراعات أين تتأكد الفردانية والألوهية في نظام الغرابة مقارنة مع ذواتهما ومع بعضهما البعض. يكمن تاريخنا فيما يلي: حلزونية النفي التي تنفي الحلقية المنعكسة للمحاكاة الأصلية: "إنني أنا الإله"، "خلق الإنسان على صورة الإله". فبين الإله والإنسان هناك إذن "انعكاس مستمر واستبدال المستويات وتقلب غريب أين يشغل كل واحد بالتناوب مكان المشتمل والمشتمل مثل المتنافسين اللذين يتناوبان في بلوغ درجة راقية دون الظفر بها"13.
تتحول لعبة المحاكاة والنفي، الستار والمرآة بين الإنسان والإله إلى تاريخ أفكار متدوم لأنه على الرغم من ذلك يستمر اللاتناسق الإنساني والإلهي وتعالي الإله المتواري، "هذا المستوى المفارق الذي يفلت من الانعطاف" والذي تلخصه عبارة الإنجيل: "مملكتي ليست في هذا العالم"14.
هكذا هو الإله: منعكس، مرآة أين تنشأ حلقة المحاكاة. لنتذكر التعريفين اللذين يذكرهما كتاب الفلاسفة الأربع والعشرون (مخطوط من القرن الثاني عشر): "الإله هو حلقة أين يتواجد المركز والمحيط في كل مكان"؛ "الإله هو ذرة روحية (monade) تنتج عنها ذرة روحية أخرى وتعكس في ذاتها همتها".
انطلاقا من هذه الحلقة الأصلية أين يتجلى الإله، ينعطف تاريخنا الفكري من حلقات إلى حلقات متغيرة عن بعضها البعض من خلال حركة النفي النابعة عن تعالي الإله وغيريته الأساسية لكل تفكير متطابق يحجب الانعكاس والمحاكاة.
هكذا تتدخل الحلقيات (Circularités) إلى ما لا نهاية: حلقية الدائرة النفسية التي تسعى لأن تتوجه نحو العالم عبر الأزمنة الحديثة: حلقية الكوسموس الذي ينحني إلى اللانهائي أين تتسرب مجرات غاليلي وهابل، حلقية الأدب الذي يسعى للانغلاق على ذاته ضمن كلية (totalité) تحاول سد فراغ المعنى الناتج عن عالم هجره الإله، عندما لا تتطابق الكلمات والأشياء. أيضا حلقية التأويل المعبر عنها بـ"حلقة فن التأويل" (Le cercle herméneutique) التي ينتهي بها الأمر إلى الإحالة على فكر المؤول ومن النقد الأدبي إلى فيزياء الكوانتا. باختصار، حلقية الفكر الإنساني والتفكير (اللفظ له دلالة عميقة)، هما منطقان أساسيان للمعنى أين تؤسس حركة الانعطاف المتغيرة باللاتناسق الأصلي عدة انعطافات ابتداء من لحظة النشأة المستمرة. فوراء الأشكال الحديثة للثقافة والمعرفة، تكمن حلقية المحاكاة التي تربطنا بإله خالق ومنافس، متشابه ومختلف، آخر الذي يدعونا لتأمل معنى يختلف عن ذاته ويتوارى عن غيره. فهناك النسق المستقل للمعرفة المنعكسة والغريبة نوعا ما عن موضوعها. باعتباره في طي النسيان، فالإله يوجد المعنى ابتداء من الدوي (bruit) كما يقول آتلان (Atlan)، بمعنى ابتداء من اختفائه الأصلي ويدفعنا نحو تموج الانعطافات المعرفية اللامتناهية، وفوضى دوامة عجيبة التي هي تاريخنا الفكري الخاص، المشتق عن نظام ثقافي معين(15).
فلا يمكن التردد في إثبات هذا الأمر: يوقع الإله منعطف تاريخ الأفكار الغربي ضمن زوال وهم الأشياء وتحويل مجرى الإنسان خارج الإنسان المسيحي المتدين. لأن زوال وهم العالم وعلمنة أنماط الحياة والمعارف ينبغي إدراكها كانعطاف أو التفاف البرهنة أو التفسير الديني للأشياء. يتعلق الأمر إذن بمغادرة نمط الرؤية من مرآة الإله إلى مقلة العقل نحو مرآة الواقع المباشر، نثر العالم (La prose du monde). النسيان هو تحويل مجرى الذات، تأسيس انعطافات فكرية ومعرفية أخرى وتشكيل صور أخرى في مرآة العقل الملتوية: يعلن يحيا لموسى أن قومه سيتولى عبادة آلهة أخرى.
تاريخ الأفكار هو تاريخ دورات وانعطافات متكررة وقول ونسيان، يصبح الأثر الأدبي على إثره هو الشاهد.
4 ـ رحلة حول الأدب:
عندما قام الإنسان في القرن السادس عشر برحلة حول العالم، توارى الإله وسعت دائرة المعارف إلى احتواء الدائرة الإلهية حتى مائتي سنة لاحقا، أين أصبح المنشور الإلهي (L’encyclie divine) موسوعة بشرية (Encyclopédie)16. كان الإله مفكرا فيه كحلقة واليوم الفكر النقدي للإنسان الحديث يفكر في ذاته كحلقية. هكذا يحدد هيغل مفهوم الوعي كمركز محاط بدائرة الفكرة حتى يختلط بها ويتجاوزها لكي يتحول إلى فكرة أخرى وحلقة واسعة. فحركة المعرفة الهيغلية هي حركة تداخل الحلقات والدوائر. "الذين يعتبرون أن "الأنا" لا نهائي فهم لا نهائيون، انعكاسات دوائر أخرى، فهي دوائر الدوائر"17. تتعدد دوائر المعرفة وتتشظى دوامة الفكر وتنكشف ثم تتصدع مرآة العقل والتاريخ –الكائن على صورة الكوسمولوجيا الكوبرنيكية- يتحول إلى ثورة. هذا ما يدركه كولريدج (Coleridge) في مفهومه للحداثة، "فالمعرفة بالنسبة إليه، منقسمة إلى أجزاء متفرقة لا تحصى في عدة مجلدات مثلما تنكسر المرآة إلى قطع متعددة ملقاة على الأرض التي عوض صورة واحدة، فإنها تعكس كلها عدة صور غير مكتملة"18.
الأدب في صورته الحديثة كما شكله رومانسيو أثينايوم (Athenaeum) الألمان، يصبح أيضا المنعطف أين يتشكل النص كحلقة، مرآة محفوفة بالمعنى، شظية مطلقة ومستقلة، قطعة من المرآة المنكسرة.
الأدب هو منعطف وينبغي للقارئ أن يقوم بمرحلة حول الأثر الأدبي الذي يرمي إلى التعبير عن حقيقته الحلقية الخاصة، قول-عالم (une parole-monde)، دائرة المعنى التي تنزلق حول التعدد الدلالي للغة بالمقارنة مع الأرض التي تنزلق في لا نهائية الكوسموس بعد غاليلي. فقد أصبحت الكتابة والقراءة مغامرة: رحلة حول العالم محفوفة بالمخاطر. ليس هناك من عبر أحسن من غوته (Goethe) في رؤيته الجديدة للأشياء عندما يتعلق في كتابه فوست الثاني بوصف حركة دوران الأوراق النباتية والأغصان حول الجذع، فهي حركة الحياة ونفسها حركة أثار الكاتب الألماني: "يرتفع الجذع الدقيق بسرعة ولم تنم الأوراق بعد، فهذه الصورة الرائعة تثير إعجاب المشاهد. في الجوار، ضمن الحلقة، تنتظم الأوراق الدقيقة المتجاورة والمتشابهة"19.
يمثل النمو المتدور للنبات صورة الإبداع الأدبي، حلقة تأتي كصدى وكمنافس لحلقة الإله والكلمة ولكن بصورة غير متعددة. ربما الأمر الذي يستحق الاهتمام هو أن الاستعارة التي وظفها غوته تأتي كصدى لمثال الإنجيل. ولكن من العهد الجديد إلى الرومانسية تغيرت الأشياء: تنمو الكلمة في الحقيقة مثلما تتطور في فكر الإنسان بفضل تعليم المسيح. مثلما أن الكلمة تتجسد فإن المعنى يتجسد بدوره في المثال، يدفع ويتمرد على مملكة السموات في الأرض الخصبة لجنة الإله، بمعنى النفس البشرية.
على هامش الحداثة وفي الحلقات المتداخلة للعالم والوعي واللغة، ينمو النص الأدبي بالتواء ويقود الأعماق الجيولوجية للغيرية الإنسانية إلى السطح. هكذا يلف الكاتب النص: في دوائر وعيه والدلالات النامية التي تنشأ وتنمو كلما تعتمت وانكسرت مرآة العقل تحت وطأة تقهقر وحيل التاريخ. تلك هي الحركة التي يقر بها غوته في حياة الإنسان وفي الكلمات والأدب: دوران والتواء المعنى. "أعظم هبة تلقيناها من الإله ومن الطبيعة هي الحياة، حركة دورانية للموناد(*) حول نفسه"(20).
يشبه غوته الأثر الأدبي بالنبات الذي ينمو بدورانه حول المركز ويعتقد أنه وجد النموذج في مسرح شكسبير. فيلاحظ بهذا الصدد: "كل مسرحياته تدور حول نقطة مبهمة وغريبة"21. هكذا يعرف بذكاء النشاط الحديث للكاتب ووظيفة الأدب كما يلي: مثلما أن السيد المسيح زرع النفس البشرية بالكلمة والمثال، فإن الروائي أو الشاعر يزرعان اللغة لإنماء الدلالات، بينما يسطران الفضاء المغلق للنص. لقد حلل جورج بولي (G.Poulet) بدقة كيف أن فلوبير (Flaubert)، بـو (Poe) وبودلير (Baudelaire) يعتبرون الأدب كمحل دائري للغة. فبودلير مثلا يشبه الفعل الشاعري بلولب يدور حول الفكر الموجه: "التيرس"(*). يمكن ملاحظة أن الشاعر يستعمل من جهة الاستعارة النباتية، ومن جهة أخرى يذكر في بداية الشعر بالقيمة المقدسة "للتيرس": "ما هو التيرس؟ حسب المعنى الأخلاقي والشاعري، هو رمز كهنوتي في يد القساوسة لإقامة مراسيم الألوهية باعتبارهم المؤولين والخاضعين لها. فيزيائيا، فهو ليس سوى عصا خالصة، عصا من الأعشاب، عود الكروم، يابس وصلب ومستقيم. حول هذه العصا وفي تعرجات متقلبة تمرح الجذوع والزهور، الأولى متعرجة وملتوية والثانية ممتدة مثل النواقيس والأجراس أو الكؤوس والأكواب المقلوبة. مجد مدهش ينبع من تركيبة الخطوط والألوان لينة ولامعة. ألا يمكننا القول إن الخط المنحني والخط الحلزوني يلتويان حول الخط المستقيم وينعرجان بإيقاع حول هذه العبادة الصامتة؟(…) فالعصا هي إرادتك، مستقيمة وصادقة العزم وراسخة، الزهور هي نزهة أهوائك حول إرادتك" (التيرس، كآبة باريس)22.
يمكننا مضاعفة الأمثلة التي يوردها الكتاب بشأن الحركة الدورانية في تجربتهم الأدبية: يشبه بروست (Proust) من جهته تدفق الذاكرة بالدوامة التي بانبثاقها عن "نقطة غير محسوسة ومتناهية في الدقة والتفصيل"، تكتسح منطقة الوعي. لنقرأ حادثة فنجان الشاي. ما يرويه بروست هو بلا شك أصل ونشأة وامتداد حلزوني لعالم داخلي ابتداء من نقطة تفصيل، مذاق قطعة من الحلوى مبللة بالشاي، ومنه تكون جملة الصوناتة (sonate) لـفانتوي (Vinteuil) أو عطر الزعارير البرية، مراكز اهتزازية أخرى. فإذا كان الأدب سابقا حقيقة على الواقع، باعتباره المحل أين يقود الإنسان مغامراته الميتافيزيقية ويكرر صيرورته التاريخية، يمكننا رؤية في البحث(*)، تصوير قبلي لنظرية هابل في التحليل الأدبي للوعي والتي في سنة 1929 أدلت بفرضية امتداد الكون. لقد علقنا بما فيه الكفاية عن حلقية النصوص الحديثة من بروست إلى بيكت (Beckett) ويونيسكو (Ionesco).
لكن يمكن استكشاف الأشياء بدقة وتبيان ابتداء من أية مناهج أدبية تتأسس صورة الدوامة باعتبارها نموذج الفكرة الحديثة في الأدب. لأن هذه الفكرة تتشكل كلاشعور أو لا مفكر فيه للنصوص انطلاقا من أنظمة متعددة وإن كانت منعزلة فإنها صدى بعضها البعض وترسم مواقعية هذه الفكرة في الأدب أو إذا أمكننا القول، فلسفة أدبية23.
هناك ثلاثة مناهج أو أنظمة يحصيها ماشراي (P.Macherey):
1 ـ إفراط وحدود القول الذي من ساد (Sade) إلى فلوبير يسعى إلى هدم الواقع بجنون الخطاب. أصبح الواقع المتوهم فارغا، لاشيء، مجرد إغراء والذي يحاول النص الأدبي الحلول محله وسد ثغراته عبر استعارة أو مقتضى الأسلوب.
الأدب هو الإبداع الناشئ عن كلمة الكاتب. فللتكلم عن تجربته الأدبية، يعيد فلوبير أخذ التعريف الشهير للإله الذي ذكره كتاب الفلاسفة: "ينبغي للكاتب أن يكون في أثره مثل الإله في الكون، حاضرا في كل مكان ولا مرئي. فالفن باعتباره طبيعة ثانية، فخالق هذه الطبيعة ينبغي أن يعمل وفق أساليب مماثلة" (رسالة إلى لويز كولي (Louise Colet)، 9 ديسمبر 1852)
2 ـ العمق الذي يميز أنطولوجيا سلبية حيث أوضحنا في مناسبة أخرى أنها تعبر عن ذاتها عبر استعارة جيولوجية وحفرية. حلقة الأدب تغور وتتعمق لأن المحايثة الحديثة للمعنى تؤسس حفريات المعرفة من بستان كانديد (Candide) الذي يدعو فولتير (Voltaire) لزرعه في الأرضيات التحتية التي يمسحها جون فالجون (J.Valgean) أو في أسلوبية العمق لسيلين (Céline) التي تظهر وتكشف عن الخطأ والنقص الكامنين في ذواتنا.
3 ـ الصيرورة، هذه الحركة التي تميز حلقة النص وتشقه حلزونيا بإزاحته مقارنة مع موضوعه. حول استفسارات مادام دي ستيل (Madame de Stael) التي تبين تاريخية وترابط الثقافات يجيب كبار الروائيين للقرن 19، بالزاك (Balzac) أو ستانديل (Stendhal) عندما يمثلان شخصية أتلفها التاريخ (L’histoire) حيث أن الطموح لا يبلغ موضوعه بمعنى دوامة الرغبة والشخص والكتابة.
لقد فهمنا كل ذلك: الإفراط، العمق، الصيرورة هي "تيرس" بودلير، دوامة حديثة للدلالات التي تكتسح دائرة الأدب أين يمكن للكاتب والقارئ أن يرحلا حولها. هذه الدوامة تتحرك بسرعة، بكسرها وتفجيرها للاقتسامات المعرفية المؤسسة: واقع وخيال، حلم وأدب، الأزمات العصبية لفلوبير (صاحب كتاب ذاكرات مجنون في فترة المراهقة) إلى جنون نرفال (Nerval) الذي يسعى جاهدا إلى القول بـ "سريان الحلم في الحياة الواقعية" أو إلى هذيان رامبو (Rimbaud) صاحب الفتوحات المنيرة (illuminations) وموسم في الجحيم (Une saison en enfer).
يشحن رامبو دوامة الكتابة ويضاعف من مفعولها عندما يؤكد في رسالته إلى جورج إيزامبارد (G.Izambard) بتاريخ 13 ماي 1871: "إنني أنا الآخر"24 (أو الأنا هو الآخر). الدوامة التي أنشأها الإله تنحل إلى دوامات متعددة ودلالات متشظية مهيجة ومتلفة أين تغيب هوية الكاتب ووظيفة النص في التمثل وحقيقة ومعايير الفن. الخطاب أو المقال، مثل الفلسفة التي انهالت عليها ضربات نيتشه (Nietzsche) بالمطرقة (coups de marteau)، لا يمكنه سوى أن يكون متشظيا إلى جزر (archipel): الأدب والفن متأزمان والحقيقة متوارية. تبقى فقط جملة التيارات البحرية المتدومة التي تقوض المواقعية المجهولة لمعرفتنا وأين يغرق الكاتب إراديا: حلم سريالي، اشمئزاز سارتري أو وهم الأشياء. ذلك هو ما يدعونا إليه الشاعر، الدوران الحديث لفكرنا الخاص نحو الغزارة الشائكة للمعنى: "أقحم نفسك في المجهول المتوغل. أجبر نفسك على الاستدارة" (روني شار (René Char) ورقات التنويم).
يحاول تاريخ الأفكار حكاية مغامرة المعرفة المنعكسة التي تأخذ شكل المرآة الدورانية للإله حتى تصبح هذه المرآة، وعبر منطق التركيب المعقد، حلقة الوعي الفردي الذي ينعكس على ذاته عند مونتاني (Montaigne) وديكارت (Descartes) وحلقة النص الأدبي أو أيضا التعدد الغزير للدوائر المعاصرة للمعرفة. هذه المغامرة الدورانية للأفكار هي أيضا مغامرة تأزيم المفاهيم الكبرى للثقافة الغربية: أزمة فكرة الإله، أزمة فكرة الأدب، أزمة الذات، أزمة واسعة للثقافة والحضارة، تلك الأزمة الشهيرة Krisis التي شخصها هوسرل (Husserl) في الثلاثينيات من هذا القرن. هو أن المعنى في الحداثة الراهنة يمكث خارج العقل واللغة، و"العالم المحسوس للحياة" يلبث وراء الإنسان والوعي وتلاشي مفهوم الحقيقة المطلق على نحو لا يمكن تداركه عندما عوض مبدأ الغيرية مع رامبو وتابعيه، كتاب أو فلاسفة؛ مبدأ الهوية أو على الأقل أخذ من فوق الحركة الحلزونية للفكر: "الأنا هو الآخر"، والاختلاف في الأثر.
لا تزال حلزونية المعنى التي حركها الانغلاق المتعالي للإله حول نفسه والنفي الأساسي الذي يشق ويكسر المعرفة: "مملكتي ليست من هذا العالم"؛ لا تزال تسطر لنفسها بعمق وتقرأ ذاتها باستمرار وتفكك أواصرها على الدوام في طرس غير مقروء ومرآة محجوبة ومغشاة بظلمة الدلالات المحايثة والغياب التراجيدي لكل حضور.
نزل جحيم دانت (Dante) في العقل الذي يغرق في الحلقات المتشظية وأجزاء المعرفة التي تجزئ وتبدد الواقع إلى نشاط متصدع. فالمثال بعيد: ينمو المعنى مثل نبات وحشي، مثل صدفة الزرع بحيث ترميه الصدمة المباغتة للكلمات والعبارات على سطح اللغة، ولكنهما يغرقان غالبا في الهوة التي تفصل الإنسان والعالم، الكلمات والأشياء، وأين ترتحل الحقائق المتلاشية.
انكسرت المرآة ولكن المطرقة التي انهالت عليها لا "فاعل لها" لأن الإله غادر بتوقيعه. في مواجهة مرآة فارغة فإننا ننتظر ونتأمل هذا الفراغ الكائن في ذواتنا، وإفلات المنظور الذي يلتف وينطوي على دوامات لا متناهية من المعنى والتي تحمل معها الواقع المسحوق. إننا نمعن النظر وندقق الفحص ولكننا لا نرى سوى محلات تراجيدية من العدم. وتحت السماء المعكرة التي تؤثر على وعينا لا تنتج سوى اللمحات الخاطفة والإنارات الشاحبة التي ما تنفك أن تختطفها الظلمات الحالكة للتلف الكائن في ذواتنا.
الجهة الأخرى من المرآة التي اخترقناها بعد كسرها لا تؤدي سوى إلى غياب ذواتنا. تبقى فقط شعلة المصباح التي إذا انعكست بضعف في مقلة العين لعقلنا، فإنها تحمل إلى مكان بعيد. فإذا عرفنا كيف نستدير من جديد ونرفع النظر، ربما يمكننا إذن إدراك محيطها المتلألئ بالحضور: "تقرب عود كبريت من القنديل والذي يشتغل فلا يضيء. فبعيد –بعيد جدا عنك- أن تضيئ الحلقة". (روني شار، ورقات التنويم)n
________________________________________
مواضيع مماثلة
» موريس ميرلو بونتي العين والعقل
» نقد العقل التاريخي: سقراط والبحث عن الانسان
» تطور مفهوم المواطنة في الفكر السياسي الغربي
» العقل والمعايير - اندريه لالند
» تحميل كتاب نقد العقل العملي كانط
» نقد العقل التاريخي: سقراط والبحث عن الانسان
» تطور مفهوم المواطنة في الفكر السياسي الغربي
» العقل والمعايير - اندريه لالند
» تحميل كتاب نقد العقل العملي كانط
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem
» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني
» لست أدري! لست أدري!
27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني
» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني
» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني
» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني