بحـث
المواضيع الأخيرة
فلسفة التواصل في عصر التقنية
صفحة 1 من اصل 1
فلسفة التواصل في عصر التقنية
فلسفة التواصل في عصر التقنية
يورغن هابرماس في مواجهة كارل ماركس ومارتن هيدغر
حسن مصدق
ساد الاعتقاد لزمن غير يسير بأن التقنية خلاص الإنسانية من جبروت الطبيعة وآفاتها، واستحكمت هذه النظرة عندما استطاع الإنسان أن يخطو درجات لا بأس بها أهَّلّته للسيطرة على كثير من الظواهر الطبيعية. الأمر الذي سمح له بتوسيع حريته وتحسين قدراته، ما كان له بليغ الأثر في تمدن الإنسان، وساهم بقسط كبير في سمو أحاسيسه والانعكاس إيجابيا على الأخلاق الإنسانية.
لكن التقنية ما لبثت أن أصبحت طوفانا يجرف كل ما يلقاه، عندما نزعت من الإنسان آدميته وأغرقته في أوحال الاغتراب وجعلت منه دمية بين أنياب الآلات ومخالبها، ولعل هيدجر أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين الذين تناولوا التقنية بشكل غير مألوف. ولعل الرجوع إلى مقارنة بين أبرز فيلسوف يهاجم التقنية )هيدجر( ومن يدافع عنها)ماركس( سيوضح الأمر كيف يحاول هابرماس رائد مدرسة فرانكفورت الثانية تجاوز مخلفات الإرث الفينومينولوجي الهيرمينوطيقي) التأويلي( والماركسي الكلاسيكي على حد سواء.
انتقد هيدجر(1976-1889) التعريف السائد للتقنية كأداة ووسيلة لتحقيق هدف، كما التعريف الأنثروبولوجي الذي يرى فيها نشاطا واعيا للإنسان على حد سواء. إذ في الغالب ما تدور تعبيرات التقنية الشائعة حول طابع جوهري يميزها بمظهرين متساوقين يطلق عليهما ''المظهر الأنثروبولوجي" و"الأداتي''، وطبقا لهذا التصور تصبح التقنية'' فعلا'' إنسانيا حضاريا و''وسيلة من أجل غاية'' تنتظمان الواحدة والأخرى منها لإشباع ''حاجياته[1]'' . ولدعم الطابع الأنثروبولوجي للتقنية يعمد المفكرون إلى تقديم حجتين: الأولى منها تجزم بأنها مؤسسة على العلوم الطبيعية الحديثة وتعد إحدى تطبيقاتها الملموسة، فلقد أصبحت هذه العلوم بفضل اختراعاتها الخارقة إحدى أبرز الفتوحات الإنسانية التي جعلت التقنية تنتمي للحضارة ومشروع الأنسنة، ولا يمكن تقييمها إلا بربط مساهمتها في تطور الثقافة الإنسانية.
ومن هذا التحديد الأنثروبولوجي للتقنية ينحدر طابعها الأداتي:<< تمر التقنية عبر شيىْ ما يستعمله الإنسان بغاية تحقيق منفعة>>[2]. والهدف من ذلك إعطاء مبدأ موحد لتاريخ التقنية، يشمل كل مراحلها منذ أن صنع الإنسان أول فأس بدائية إلى غاية صناعته لمحطات الرادار والمحطات الفضائية. فحتما هناك بون شاسع في التعقيد التقني، لكنه لا يعد أن يكون في الدرجة وليس في الطبيعة، فكلها أدوات ووسائل تنتج بغاية أهداف محددة.
وبغاية دعم هذا الأفق تعتبر أداتية التقنية حيادية لأنها تميز دور الإنسان الفعلي بوضع شروط عادلة في علاقته بالتقنية إذا ما وجهها إلى غايات روحية، ولقد تزايدت هذه الضرورة بعدما أصبحت التقنية قاب قوسين أو أدنى من الانفلات من قبضة الإنسان ومراقبته[3].
إن تمثل التقنية داخل مدار الأنثروبولوجيا والأداتية يبدو جد متطابقا في أعيننا مع ما يجري، غير أنه مخادع على أكثر من صعيد. ويرجع ذلك بالأساس في محاضرة هيدجر لغة التقاليد ولغة التقنية[4] لى انسجامها مع النموذج التأويلي السائد الذي نفهم من خلاله الأشياء والكون: ذات-موضوع. يبين هيدجر عدم جدية هذا التصور بالرجوع إلى التصور الأنثروبولوجي- الأداتي وامتحان أطروحاته الشائعة والمسلم بها: التقنية كعلم تطبيقي وكأداة خاضعة أو ستخضع لمراقبة الإنسان.
وإذا ما كانت التقنية تمر عبر تطبيق فعلي لعلوم الطبيعة وتخضع للمراقبة النظرية، فذلك لم يعد يقبل به اليوم الفيزيائيون والمهندسون على حد سواء. فلقد انتفت واقعية هذه الأطروحة بعد ما كانت فيما مضى لها نصيب من الواقعية عندما كانت الأدوات منظمة بأهداف تجريبية. وفي المقابل أصبحت النظرية الخالصة اليوم معادلة رياضية بامتياز، وبالتالي باتت إجرائية وقابلة للتطبيق.
ولعل أبلغ حالة في هذا المضمار ما نشاهده في الفيزياء النووية:<< حيث الأجهزة التقنية المستعملة من طرف الملاحظين في تجربة ما، تحدد كلما مرة ما يمكن أو لا يمكن ملامسته من التمظهرات النووية>>[5]. وتبعا لذلك إذا أصبحت التقنية عاملا محددا في تحيين الوقائع العلمية، وإذا ما كانت تتوفر في صلب بنيتها على شيىْ ينحدر من المعرفة، فليس من الممكن اعتبارها مجرد تطبيق للعلوم النظرية. لذلك نرى عالما فيزيائيا من طراز هايزنبرغ (Heisenberg) يتكلم عن <<التشابك المزدوج>> بين العلم والتقنية وإن لم يتساءل حول جوهر هذا التزاوج المتبادل.
وبتوضيح أصلهما المشترك يتوجه هيدجر إلى جوهر التقنية، أي أن أسبقية النظرية أصبحت في خبر كان ولم تعد مسلم بها اليوم. فالعلوم الحديثة فرضت نفسها بعد ما أصبحت تجريبية وتقنية ورياضية، ولتحديد مرحلة هذا التطور أطلق عليه المفكرون بما يعرف اليوم ب<< التقانية العلمية>>[6]. أما بخصوص الأطروحة الثانية ينكر هيدجر وبشدة في حوار له مع صحفيين من جريدة Speigel الأيديولوجيا المهيمنة في الديموقراطيات الغربية التي تتغنى بقدرة الإنسان وتحكمه في التقنية، قائلا قولته الشهيرة:<< التقنية في كينونتها شيىْ لا يستطيع الإنسان التحكم فيه>>[7] ونحن بمعرض هذه النقطة، لابد أن نشير إلى أن هذه النقطة تميز رؤية هيدجر للحداثة ككل: فأيديولوجية التقانية العلميةTechno-science تتغذى من عدم قدرة الإنسان الحديث أن يتعرف بواسطة الفكر على<< القوة المتخفية بين ثنايا التقنية المعاصرة التي تحدد علاقة الإنسان مع ما يوجد>>( تساؤلات، الجزء146:III). ومن ثم إن غياب التأمل بالنسبة للإنسان المعاصر يجد سببه في الانبهار أمام التقدم الباهر والفاتن للتكنولوجيات الجديدة.
تشهد الوقائع في خضم التطورات السريعة أن هناك قوة تتجاوز إرادة ومراقبة الإنسان، لأنها لا تصدر عنه، بل تجعل أي مشروع سياسي أو أخلاقي يريد توجيهها أو السيطرة عليها محض تهويم وفرقعة في الهواء. والغريب في الأمر أن إرادة التحكم هاته أصبحت خداع ليس إلا، مثقلة بعمي وتواطىْ الفكر التقني نفسه الذي يحاصر الإنسان من كل جانب والذي يخفي وجها آخر للعبودية التي يوجد عليها. إذ << يبدو صحيحا أن النجاحات المتسارعة للتطور الباهر للتقنية لا تترك أو تعطي انطباعا بأن الإنسان سيصبح سيد التقنية. فالحقيقة، تؤكد أن الإنسان أصبح خادما للقوة التي تسيطر على كل إنتاج تقني من جميع الجوانب >>[8].
ولذلك ما زال النقد الهيدجري يحتفظ براهنيته للتمثل الأنثروبولوجي- الأداتي، فلقد برهن جاك إلول J. ELLUL في كتابه النظام التقني(280:1977) بأن التقنية بعيدة كل البعد أن تتطور عبر مسالك الغايات التي نطمح لتحقيقها، بل تتقدم في الواقع عن طريق تطوير الإمكانيات الموجودة فيها أصلا للنمو والتي أصبحت تقانية كوكبية Technocosme ،أي كأفق أخير وليس كأفق للمعنى. بمعنى أن التقنية لا تخضع إلا إلى حتميات نموها الخاصة والعمياء التي تتجسد في تحقيق جميع التركيبات الممكنة التي تسمح بها جميع حالات التجريب بين عناصرها. يوضح هيدجر هذه الضرورة المتخفاة في قلب جوهر التقنية كنذير مستفزGe-stell يتجاوز الإنسان ومشاريعه ونشاطه، بحيث لم يعد قادرا أن يترجم فعليا مبدأ المعقولية الأخير الذي كان يضعه بين الغايات والوسائل.
وكما لم يسلم من نقده هؤلاء اللذين يعتبرون التقنية مضادة للميتافيزيقا لأنه يعتبرها ميتافيزيقا مكتملة، مكّنت من تحقيق حلم الميتافيزيقا الأزلي لما جعلت المعرفة ملتحمة بأشياء تلمسها وتعيها الذات العارفة. لذا فالرأي الشائع بأن التقنية لا علاقة لها بالميتافيزيقا، لا يجد مكانا للاعتراف به في فلسفة هيدجر. فهي الميتافيزيقا بعينها.
يعود بنا هيدجر محذرا بأن التقنية لا تتمثل في ما تمنحه بصفة ظاهرة: أشياء ووسائل وأدوات ومركبات تقنية وتحديث قوى الإنتاج أو سيرورتها:<< إن جوهر التقنية ليس إنسانيا. فجوهر التقنية لا يمت قبل كل شيىْ بأي صلة للتقنية >>[9].
تبدو هذه الأطروحة جد مفارقة ومختلفة عن جميع التصورات المعروضة حول التقنية، لأن المشروع الذي يوجد في صلب التقنية ليس منجزا إنسانيا ولكنه ميتافيزيقا تلف جميع مجالات الواقع ولا تقتصر فقط على الآلات.
لقد أرست الميتافيزيقا أسس التقنية حينما جعلت معيار الحقيقة ـ منذ الفلسفة الإغريقيةـ مطابقة الفكر للواقع، مما مهد لأن تحتكر العلوم الوضعية الحقيقة لوحدها، وبدأ ذلك يتضح رويدا رويدا منذ الثورة العلمية التي أحدثها العالم الفلكي جاليليو(1642-1564) الذي دمر الرؤية الكنسية للعالم وغير من نظرة الإنسان الميثولوجية والغيبية للكون، لتقوم على الملاحظة الفيزيائية والدقة الموضوعية. وتأكّد ذلك في عصر النهضة الذي حدد فيه ديكارت هدف العقل في << أن نصير سادة الطبيعة>> لا عبيدها، وعلى النحو الذي يسمح بتسخيرها و''استعبادها" كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف دان سكوت. ومن ثم تسنى للعلم أن يلعب دوره الهام بوصفه أداة تساعد في السيطرة عليها كما قال فرنسيس بيكون.
لقد أوقدت هذه الرغبة المستعرة للإنسان سبيلا إلى البحث المستمر على حقائق الكون وفهم ظواهره بشكل علمي، وبمقدار ما تتطور السمتان الأساسيتان للفعل البشري: ''المعرفة و''المصلحة'' (Connaissance et Intérêt)، تتدخل الإرادة الإنسانية لتطويع النظرية العلمية في تعديل الأشياء وتغيير الواقع، بل قل أنها أصبحت اليوم قادرة على تغيير الطبيعة البشرية كالمزج بين الجينات والقدرة على الاستنساخ البيولوجي وتعطيل الشيخوخة أو اختيار طبيعة النسل: ذكرا أو أنثى، إذ بلغت التقنية شأوا غدت بموجبه"إرادة الإرادة".
ولكي نتبين قصد هيدجر من ذلك، يمكن الاستدلال بأن الإرادة الأولى هي التي تحدد الإطار الذي يتم من خلاله توظيف الإرادة الإنسانية، بمعنى أن الجوهر الميتافيزيقي للتقنية يفسره شعور البشر بأن إرادتهم تتجاوزها أشياء من صنع أيديهم حيث أصبح الإنسان مكبَّلا في كل مكان بقيود التقنية.
يتجلى ذلك في نموها البالغ السرعة وبصورة رجائحية ومفاجئة أغلب الأحيان، ولا أبلغ من ذلك، أننا أصبحنا مدينين للكهرباء وآلات الطبخ والغسيل ومكيفات الهواء لا نستطيع منها فكاكا. منه ما يقوله هربرت ماركوزه في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد: إن<< الناس يتعرفون على أنفسهم في سلعتهم، يجدون أرواحهم في سيارتهم، في أجهزة الهاي-فاي العائدة لهم، في بيوتهم المسواة، وفي تجهيزات مطابخهم>>. فقيمهم متسقة مع علاقات التسويق والاستهلاك، لا تستطيع عنها بديلا أو تبديلا.
لقد أدى تقدم تقنياتنا المذهل والطواعية والدقة اللتان توصلت إليهما، بالإضافة إلى العادات والأفكار التي أوجدتها وقوع تغييرات عميقة في حياة الإنسان، إذ يستحيل اليوم أن نرى إلى المادة والمكان والزمان كما كان يحدث في الماضي.
لقد انفلت العالم إلى أشكال ممزقة من المعاني التي تتكلم أصواتا متعددة تتفق مع تبايناتها التي أفقدتها الكثير من تناغمها وعمقها، مما أدى إلى فقدان قابليتها لتنظيم حياة الناس وإعطائها معنى.
ولعل كتاب نيتشه وراء الخير والشر (1882)، يصور بدقة عالما معاصرا يحبل كل شيىْ فيه بنقيضه:<< في لحظات الانعطاف التاريخية هذه تتجلى متجاورة ومتداخلة ببعضها غالبا حركات نمو وصراع رائعة متعددة الوجوه أشبه بالغابة، نوع من الإيقاع الاستوائي في عملية التطور مع حركة هائلة للتدمير والتدمير الذاتي بفضل الأنانيات المتعارضة تعارضا عنيفا والمتفجرة والمتصارعة فيما بينها من أجل الشمس والنور، غير قادرة على الاهتداء إلى أية حدود أو قيود وأي احترام أو اعتبار في إطار الأخلاق الموجودة تحت تصرفها... لاشيىْ غير" الأسئلة" الجديدة والصيغ الجماعية لم تعد موجودة، هناك "لاء" جديدة تستند إلى سوء التفاهم وانعدام الاحترام وثمة انحطاط وشر مستطير مع أسمى الرغبات المجتمعة مع بعضها بشكل مخيف، ثمة عبقرية الجنس تفيض فوق أطر الخير والشر وتزامن مصيري بين الربيع والخريف... مرة أخرى هناك خطر، وهو أم الأخلاق - خطر هائل-. لكنه الآن موضوع خطر على الفرد، على الأقرب والأغر، على الشارع، على الابن بالذات، على القلب بالذات، على أعمق الملاذات السرية للتمني والإرادة>>. وهذا ما يفسر الصرخة المدوية التي أطلقها نيتشه وما زالت تصدح في الآفاق:<< احذروا من التقدم التكنولوجي الذي لا غاية له إلا ذاته، احذروا من حركته الجهنمية التي لا تتوقف عند حد، سوف يولد في المستقبل أفرادا طيعين، خانعين، مستعبدين، يعيشون كالآلات، احذروا من هذه الدورة الطاحنة للمال ورأس المال والانتاج الذي يستهلك نفسه بنفسه، احذروا من عصر العدمية الذي سيجيئ لا محالة. إذ لا يكفي أن تسقطوا الآلهة القديمة لكي تُحِلُّوا محلها أصناما جديدة، لا يكفي أن تنهار الأديان التقليدية لكي تحل محلها الأديان العلمية، فالتقدم ليس غاية بحد ذاته>>.
يتم ذلك وفق ما نعت به عالم الاجتماع الألماني ماكس فـيبر(1920-1864) تقنية هذا العصر في الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية بالـ" قفص الحديدي"، إذ أن نظامها التقني والبيروقراطي:<< يُجدد حياة كل الأفراد الذين ولدوا داخل هذه الآلية بقوة لا تقاوم>> وببأس شديد. فالبنسبة لفيـبر مثلا، ليس معاصروه إلاّ:<< اختصاصيين بلا أرواح، شهوانيين بلا قلوب. وبهذه اللاّشيئية وهذا الانعدام، نجدهم غارقين في الوهم القائم أنهما حققا مستوى من التطور لم يسبق للبشرية أن حققت مثله>>. إن جميع الناس فيه إنما تمت صياغتهم وفقا لشباكه وقضبانه، فنحن كائنات بلا أرواح وبلا قلوب وبلا هويات جنسية أو شخصية.
إن الإنسان الذي تمنى يوما ما أن تجعل منه التقنية سيدا صار به الحال عبدا للأدوات التي أنتجها، مما ساعد في عدم شعوره بالأمان وازدياد مظاهر القلق والاكتئاب إلى حد بلغت فيه روحه كما سمي سارتر روايته الشهيرة: الغثيانnausée'' ''La ، وأصبح في الوقت نفسه أسرى صدمات وتشنجات عنيفة بالمقدار نفسه الذي يحس بأنه مشحون بقوة حيوية تضخم كينونته كلها.
يلغي هذا الفهم عند هيدجر حياد التقنية وهو رأي متداول وشائع بعد أن ساد الاعتقاد بأنها في حد ذاتها ليست خير أو شر كله، بل يتوقف الأمر على كيفية استخدامنا لها، والمثال الذي يجري تقديمه كل مرة و بكل أريحية، هو الطاقة الذرية التي يمكن أن تستخدم لغرض سلمي أو غرض مدمر.
يعارض هيدجر هذا المفهوم الماركسي أشد الاعتراض، ويرى أنه في اللحظة التي تنطلي علينا حيلة أن التقنية محايدة نضل سواء السبيل ونقع في المحظور ونوقع صك نهايتنا وبأسوأ الأشكال. ويفسر ذلك بأن الأزمة لا تنبع من وظائف ما يصدره الإنسان بعد اكتمال المنجز التقني، لكنها تبدأ أصلا من أسسه حتى قبل الشروع في إنجازه. فالتقنية نوع من اللعبة الخبيثة التي تجيد إطباق فخاخها على الإنسان، لأنها تنطوي على مفارقة كامنة في صلبها، فيكون المتحقّق منها دائما عكس المرجو، وبطريقة مفاجئة أغلب الأحيان.
وإذا كانت التقنية واختراعاتها تفتتنا بسحرها ما دام عالمها غرائبيا، فهي أيضا عالم شيطاني مرعب، عالم يخرج من دائرة التحكم، عالم يهدد ويهدم بشكل أعمى وهو يتحرك كاسحا كل ما حوله. ولا أدلّ على ذلك إذا أردنا أن نستخدم مجازا يقارب ما يذهب إليه هيدجر، شخصية فرانكشتينFrankenstein)) لماري شيلي Marry Shelle. فهاته الشخصية الغريبة تمثل في مسعاها البشري سعي الإنسان اللامحدود لتوسيع الطاقة والقدرة الإنسانية عن طريق العلم والتقنية. لكن صنيعهما ينقلب إلى وحش ضاري تنفجر في وجهه بصورة لا عقلانية وغير منتظرة وبنتائج كارثية.
فإذا كانت الميتافيزيقا دشنت مشروع فهم أصل العالم والمجرّدات، فلقد انطلقت التقنية شيئا فشيئا لتصبح ''ميتافيزيقا مكتملة'' في العالم المعاصر، تقارب حلم الفلسفة الأول في فهم العالم، وخير دليل على ذلك مظاهرها التالية: تطور لانهائي، خلق وتجديد أزليين يطبعها في جميع ميادين الحياة، فهي الآن ثورة مستمرة...
فهي مشحونة بأكثر أشكال الفرح غبطة وحبورا كمصل البنسلين وبأحلك ألوان المرارة سوادا كمرض جنون البقر والالتهاب الرئوي اللانمطي، إنها فرانكشتين جديدة، بل أصبحت أيضا قادرة على التدمير و جعل الحروب مربحة. إنها بمثابة دوران حلزوني يدور على نفسه إلى ما لانهاية، يحاول تجريب جميع البناءات والتركيبات الممكنة التي يحبل بها.
أليس الأمر كما رصده أدورنو في كتابه الكبير Dialectique négative:<< ليس هناك من تاريخ كوني يفضي من العبودية إلى نزعة محبة للإنسانية، وإنما هنالك تاريخ يفضي من المقلاع إلى القنبلة التي تعادل قوتها قوة مليون طن من ال ت.ن.ت... فهو التاريخ الواحد الوحيد الذي لا يزال يتكررّ إلى هذا اليوم مع- وقفة بين لحظة وأخرى لالتقاط الأنفاس- وغايته أن يكون ألما مطلقا>>. (320:1937)
يبدو الإنسان في هذا العصر<< بدون سلطة على مصير الوجود وبالتالي لا يجب عليه[حسب هيدجرِ] أن يشرع في أي نشاط أو تمرد، وإلا سقط في فخ الفكرٍِ[ الأداتي] الحاسب والتقانية، فلا يوجد فعل إنساني يمكنه أن يغير جوهر التقنية>>.
يتصور هيدجر الإنسان قذف في الوجود، وهو وصف أكثر وضوحا لانعزالية الفرد، فالإنسان ليس فقط غير قادر على إقامة علاقات مع الأشياء أو الأشخاص خارج ذاته، بل أصبح من المستحيل نظريا إنشاء تحديد نظري لأصل الوجود الإنساني وأهدافه، ومن ثم أصبح الإنسان كائنا غير تاريخي. لكن هابرماس يرفض أن يكون الأفق مسدودا والمستقبل مظلما، ويتهم فكر هيدجر بالاستسلامية والقدرية. ويؤكد بأن لدى أفراد هذا العصر القدرة على فهم هذا العصر من جهة، وعلى تغييره بعد فهمه من جهة ثانية.
فإذا كان هابرماس يدين لهيدجر رائد الفينومينولوجيا التأويلية بالقدرة على استكناه العالم المعاصر واستشراف قضاياه، فإنه يأمل عبر تأسيسه لتأويلية نقدية Herméneutique critique تجاوز هيدجر لفهم العالم ونقد رؤيته للكون بغية تحرير الإنسان. ولا غرابة من أن يعتبر هابرماس مع ذلك)[1971]، 1974) كتاب هيدجر الكينونة والزمان[10] << أهم حدث فلسفي منذ ظاهريات العقل لهيغل>> لاسيما الفصل السادس الذي يتمحور على الخطاب، حيث يحقق هيدجر قفزة نوعية في تجاوز فلسفة الوعي عبر إطار اللغة، وهو بمثابة موت معلن للديكارتية.
يعمد هيدجر على تخليص الفكر من نزعته المتعالية وتقديم مقاربة تاريخانية تتجاوز فلسفة الوعي الذاتي، وإن قامت على تأويلية وجوديةHerméneutique existentiale . فالمهم عند هابرماس يتجلى مقياس القيمة الفلسفية للفكر في بعده البرهاني اللغوي، وهيدجر اقترب من ذلك بكثير. لكن ذلك لم يمر من دون نقد شديد وصارم له، لاسيما نظرته النخبوية للحقيقة، أو ما يسميه صيرورة الحقيقة devenir de la vérité التي يدعي أنه يلامسها وعلى مقربة منها، من دون أن يعرض الحجة على ذلك، بل يرفض ضرورة التحقق من صلاحية قضاياه الفلسفية، لأنهل لا تقوم على'' قوة''عقلانية تمكنه من حمل مخاطبه على الاعتقاد بها بعد البرهنة عليها.
لذلك فإذا تملك الإنسان الرؤية العقلانية النقدية فهو مستعد لأن ينقلب على نفسه ويسائل وينفي أو يحاور كل ما قيل أو سبق أن آمن به، ويحولها إلى سلسلة من الأسئلة الجريئة ومن الأصوات المتناغمة والمتضاربة، تتعايش فيه رؤى الآخرين المنطقية. ولأن يستطيل ويتمدد أفقه إلى أبعد حدود طاقته لتصبح حقائقه مبنية على صحيح البرهان والمحاججة.
إن التواصل العقلاني والاحتكام إلى المحاججة والبرهان من صنائع العقل ومميزاته اللذان يفضحان الأوهام المزيفة وكل أصناف الخداع المستشري في الإشهار السياسي والاقتصادي والتقني، ويستطيعان تعرية الذات من نرجسيتها وأنانيتها وأوهامها: إنهما يكشفان أصول الرغائب والدوافع غير القابلة للإشباع.
إن صوت العقل مؤمن بقدرته على اختراق الأقنعة وتجاوز المطبات، فحتى أعمق الجروح وأقساها لا تستطيع إيقاف تدفق طاقة البرهان الخلاقة وفيضانه الخصب. إن تبادل الحجج واللجاج المصاحب لها منع لكل دوغمائية واتكالية. فالبرهان الخطابي عند هابرماس صوت متعدد الأصوات، حواري وجدلي يدين الحياة الحديثة وتقنياتها لما تجانب الصواب باسم مشروع الحداثة نفسها، آملا أن يعلو شأن العقل في كل ميادين الحياة وأن تشفى الجروح التي تمزق رجال حداثة اليوم ونسائه.
يريد هابرماس البحث عن حل عقلاني للتقنية التي أطبقت على العالم المعيش واستفردت به من جميع الجهات، فهو يقر بأننا نعيش عصر الرأسمالية المتقدمة القائمة على التقنية، بل إن شرعيتها أصبحت مستمدة منها. فلا سبيل إذن للهروب منها إلى جداريات الماضي وأطلاله، ولا مناص أيضا بالاعتراف أن التقنية تعمل بشكل مختلف عن الأيديولوجيات التقليدية لتبرير شرعيتها، وما يميز التقنية عن الأيديولوجيا أنها استطاعت أن تخلق مصالح مرتبطة بوجودها بين جميع الطبقات والشرائح المختلفة، بل اخترقت حدود الجغرافيا والأمم، جميع حدود الطبقات والدول وحدود الأديان والمعتقدات والأيديولوجيات.
نتبين ذلك جيدا عندما يعود هابرماس إلى ماركس الذي كان أول هلل للعلم ورفع شعار التقدم والتمايز الذي ظهر بين المجالات، بحيث صرنا قاب قوسين أو أدنى من تسخير الطبيعة والتحكم بها بفضل العلم. الأمر الذي مهد من انتقال آليات التحكم بالطبيعة إلى مجال الحياة الاجتماعية ذاتها. فصرنا نحاول تنظيم حياتنا بغاية الفعالية والنجاعة والتنظيم الحسن والترشيد المعقلن الذي يذلل تطويعها إلى أبعد حد. ومن أهم مظاهرها في عالمنا المعاصر التكنوقراطية صنوة التقنية إن لم تكن صنيعتها:<< فمن جانب، نلاحظ أن الوعي التكنوقراطي "أقل أيديولوجية" من الأيديولوجيات السابقة (الماورائية والميتافيزيقية منها)، لأنه يستأنس بالخبرة المقدمة وليس له اهتمام بأحاسيس الإنسان والتقاليد الأبوية الرحيمة، بل يجهز عليها إجهازا.
ومن جانب آخر، إن الأيديولوجيات الأكثر شفافية اليوم والتي تسود في خلفياتنا وتجعل من العلم صنما، لا تقاوم وتذهب أبعد من الأيديولوجيات التقليدية، لأنها بحجبها لمشاكل العدالة الاجتماعية والمساواة لا تبرر فقط مصلحة جزئية في السيادة لطبقة محددة، وإنما تقمع في نفس الوقت مصلحة جزئية في التحرر لطبقة أخرى، بل لأنها أيضا تضر بمصلحة الجنس البشري كله في التحرر>>[11]
مرد ذلك أن ماركس يثق في التقنية كوسيلة لتحرير الإنسان من الاستيهام الحالم والأسطورة لأنها محايدة، وهي إيجابية لأنها مرتبطة بتقدم العقل البشري، كما أنه يفترض من خلالها تطورا مطردا لهذه التقدم نتجاوز بموجبه تفسيرات الإلهام السحري للطبيعة التي يسعى العلم أن يكبح جماحها ويشل قدراتها والتي ينتقدها في حينها.
ولا يتميز كل من ماركس وانجلز عن ما سواهم من المؤرخين بتفضيلهم للعلاقة الموجودة بين العلم والتقنية فحسب، ولكن لأنهما غيَّرا معنى طبيعة العلاقة التي جرت العادة إعطاءها لهما. فمن دون شك يشجع تطور العلم تطور التقنية، لكن التأثير العكسي هو ما يبدو في نظريهما جدير بالأهمية في هذه العلاقة الجدلية:<< إذا كانت التقنية كما تقولون، متوقفة بالطبع وإلى حد كبير على حالة العلم، فهو بنفسه متوقف أكثر بكثير على حالة واحتياجات التقنية. ومتى برزت في المجتمع حاجة تقنية كان ذلك محركا للعلم أكثر مما تقدر على فعله عشر جامعات.>>[12]
ويعتمد ماركس تصورا لآلية التغيير التاريخي على المستوى الاجتماعي، لا تلبث أن تتغير من خلاله علاقات الإنتاج القائمة التي توجد في صالح البرجوازية إلى صالح القوى التي تدفع عجلة التاريخ إلى الأمام، فالتراكم الذي حققته الإنسانية في جميع مجالات الحياة لم يكن ممكنا من دون تطور أدوات الإنتاج، والتي كان من المتعذر أو المستحيل حل إشكالاتها من دون التقنية.
وبتركيز شديد، تصبح التقنية عند ماركس ايجابية وبناءة، لأنها مرادفة لتسخير الطبيعة ومفتاح التقدم وتطور قوى الإنتاج، والمطلوب فقط تخليصها من سيطرة فئة معينة وتخليص قوى الإنتاج من قبضة رأس المال والاستغلال وتخليص الإنسان من الاستلاب.
ويعتبر ماركس في نظر هابرماس أكبر داعية للتقنية، ولكن تجدر الإشارة إلى أنه إذا كان ماركس قد ناصر التقنية كوسيلة لتحرير الإنسان من الأمراض الفتاكة والأوبئة وجبروت الطبيعة...الخ، فإنه أشار في مواطن متعددة إلى الأخطار التي تحدق بالطبيعة من جرّاء الاستغلال التقني الأرعن لمواردها، يقول:<< إن كل تقدم في فن الزراعة الرأسمالية ليس فقط تقدم في نهب الأرض، فكل تقدم في زيادة خصوبة الأرض لوقت محدود من الزمن هو تقدم في تخريب الموارد الدائمة لهذه الخصوبة>>[13].
ومع ذلك، فالتقنية أو بالأحرى صنوها في المجال السياسي: التكنوقراطية، أبعد من أن يحتكرا مجمل النشاط الإنساني في المجتمع. ولكي يبين هابرماس حدود مفهوم التقنية من منظور ماركس، فإنه يقسم المنظومة الاجتماعية إلى مقولتين: العمل والتفاعل.
ومن هذا المنطلق يعيب على ماركس اهتمامه فقط بالعمل والإنتاج داخل دائرة النشاط الأداتي، متجاهلا جانبا لا يقل أهمية عنه يقوم على التفاعل الإنساني كالنشاط التواصلي الذي يعتبر ذا دور كبير في لحم النسيج الاجتماعي أو ما يسمى في علم الاجتماع بالجمعنة أو الجتمعة (Sociabilité). فالفكرة الأساسية التي يحول هابرماس عرضها، أن ماركس يهلل تهليلا كبيرا لقيم العمل والإنتاج ودور التقنية في الرفع من ذلك، ويهمل جانبا لا يقل في نظر هابرماس أهمية عن ذلك: أهمية التواصل في العصر الحديث.
يفهم هابرماس العمل كـ''نشاط عقلاني موجـه لهدف وغاية''، وهو ينقسم بدوره إلى نوعين: فعل أداتي agir instrumental يخضع لقواعد تقانيةTechnicité، واختيار عقلاني choix rationnel ينتظم وفقا لاستراتيجيات قائمة على معرفة تحليلية.
أما المقولة الثانية التي يهملها ماركس وهي التفاعل interaction أو النشاط التواصلي كتفاعل اجتماعي، يتم بواسطة مجموعة من الرموز والقواعد الإجبارية التي يحدد ما يتوقعه طرف ما من سلوك الطرف الآخر؛ وتستمد هذه الرموز معانيها من اللغة الجارية، خزان التجارب أو روح الشعب كما يقول هيغل.
ونظرا لاختلال التوازن بين هذين المستويين بعد أن أطبقت التقنية على النشاط الاجتماعي والعالم المعيش، متخطية بذلك مجالها الطبيعي لتغرقهما في وحل آسن من الاغتراب والتشيؤ، الأمر الذي أدى إلى إصابة الوعي الإنساني من جرّاء ذلك بالخواء المعرفي والزيف الفكري... ) سنعود لاحقا لتبيان الأصول الفلسفية لمقولة التفاعل (.
وكخلاصة لذلك، يشخص هابرماس الحداثة الأوروبية على ضوء ماكس فيـبر بأنها عقلانية أداتية، ولقد لخص هذا الأخير المميزات والخصوصية الأوربية تحت مفهوم العقلنة والعقلانية التي تجلت في ازدياد الحسابية والبحث عن الربح والسيطرة المنظمة على كل الجوانب الحياة الإنسانية على أساس قواعد قللت من الاعتماد على القيم التقليدية المتوارثة.
فلقد بين ماكس فيبرWeber بالملموس وجود تفاعل متبادل بين الأخلاق الدينية البروتستانتية ونشأة الرأسمالية، وأرسى بذلك لأول مرة الأسس المادية للنظرية الرمزية التي تتناول روح التدين النسكي كنشاط مادي عند الرهبان وتأثيره في نشأة الرأسمالية والتطور الاقتصادي وظهور العقلنة.
وأضاف فيـبر إلى ماركس بأن الرأسمالية ليست فقط نتيجة لفعل التراكم المادي عن طريق قوى الإنتاج، بل أخذ أيضا محمل الجد دراسة التأثير المتبادل بين السلوك الديني بوصفه سلوكا اجتماعيا بامتياز يتفاعل فيه الرمز وتنشأ عنه قيم للتواصل في المجتمع إذا ما استبطن الإنسان إيمانه الديني بطريقة عقلانية وتمثله عقليا. ثم أخذ من ماركس التفسير المادي للظواهر الدينية كما تمارس في المجتمع وما تحبل به من قيم دنيوية، ولقد وقف ضد من حاولوا النيل من ماركس عندما ربطوا ميكانيكيا بين ولادة الرأسمالية وـ الأخلاق البروتستانتية ـ والدين المسيحي بطريقة ميكانيكية.
يعود هابرماس إلى فيبر ليحاول استنباط عقلانية تواصلية تظبط الممارسة الأداتية التي أضعفت أواصر العلاقات الاجتماعية. وهابرماس محق في محاولة البحث عن ما يظبط العقل الأداتي الوظيفي داخل حقله الطبيعي، و هو يرى أن المعيارية التي تتبلور صيغها في إطار العقلانية التواصلية هي الكفيلة بوأد الهوة السحيقة التي تفصل بين عالمنا والأنساق.
يرجع الاهتمام بالمعيارية في عالمنا المعاصر إلى تضارب المعتقدات، ناهيك عن اختلاف الملل والنحل داخل المجتمع الواحد بشكل يستحيل كما يرى هابرماس، فرض تطبيقات أو تأويلات وحيدة على جميع أفراد المجتمع في مجتمع الحداثة:<< لا تستطيع الحداثة أن تستعير المعايير التي تسترشد بها من عصر غابر، مثلما أنها لا ترغب في ذلك، فهي تكابد ملزمة لتستخرج معياريتها من ذاتها، ولا يمكن لها أن تعتمد إلا على نفسها>>[14].
إن تراجع دور المكونات التقليدية والعادات في شد أواصر المجتمع المعاصر وتماسكه، يخول للمعايير وظيفة الحفاظ على النسيج الاجتماعي متماسكا. فالمعايير بصفة عامة والقوانين بصفة خاصة مرشحة أكثر من غيرها اليوم أن تلعب هذا الدور لكبح جماح الأنساق والمنظومات الشبكية التي انفلتت من عقالها مهددة العالم برمته، ومن هنا الدعوات المتصاعدة في أرجاء العالم لوضع أنظمة معيارية تقنن التجارة العالمية وحماية البيئة والتحكيم بين الفرقاء المتصارعين... على نحو يكفل التوازن والسلم العالمي ويدعم التنمية... الخ.
لقد أصبحت إعادة النظر في المجال الأخلاقي والمجتمعي ضرورة قصوى بالنسبة لهابرماس، بعد أن فقد الدين والتقاليد والميتافيزيقا سلطتهم في توجيه حياة الإنسان كليا، وانحصروا في المجال الخاص بكل فرد، أو أصبحوا عرضة لاستعمالات مختلفة ولم يسلموا بدورهم من اللغط والإقصاء والعنف من طرف من يدعي امتلاك ناصية القول في تأويلهما وحده من دون سائر الآخرين.
فالمعايير صيغة ضرورية للتواصل الاجتماعي، والتواصل الاجتماعي في نظر نيكلاس لوهمان أحد أبرز رائدي المدرسة النسقية الوظيفية في علم الاجتماع الألماني المعاصر، عاملا يتيح حصر التعقيد Complexité)) والانشطار الذي يلف بالحياة الاجتماعية المعاصرة وطابعها العارض والمحتمل.
تنتج تعقيدات الفعل الاجتماعي من واقع أن الفاعلين في مجهوداتهم التنسيقية يجدون أنفسهم أمام ركام من الخيارات أكثر بكثير من تلك التي يمكن تحيينها، ويشير الطابع العارض (Contingent) إلى إمكانية الفعل الاجتماعي في أن يشق طريقا مغايرا عن التخطيط المبرمج له أو المسار الذي حدد له من قبل داخل الحدث الاجتماعي. فالتوازن هنا توازن متحرك وغير قار.
وللرفع من قدر الاحتمالية وعدم اليقين المسلط على الحياة الاجتماعية اليوم، يجب التخلي عن دراسة المجتمع بصفة كلية أو ماكرواجتماعية، والتحول عنها إلى دراسة السلوكات الحية والمتبادلة بين الفاعلين والاقتصار على الحركة الميكرواجتماعية.
يعني ذلك اختيار التركيز على التفاعل التواصلي باعتباره سلوك التبادل الاجتماعي المعاصر بامتياز، فـالتواصل أصبح يلعب دورا كبيرا في حياتنا اليومية، وهو من ناحية وظيفية يقوم على رصد ماهو مستقر وثابت في تطلعات الناس ويمكن رصده من زاويتين:
- فسواء يقوم بتأسيس تطلع ذهني(Attente Cognitive) عقلاني، يقدم جملة مفاهيم ومعرفة تحليلية للواقع تصبح عملية اكتسابها وتلقينها متيسرة بالتعليم والتربية، أو يُجبر الفاعل في حالة فشله في التأقلم مع الوضع الجديد الذي لم يخطر على ذهنه بتركها وعدم تلقينها أو تعلمها.
- أو سواء ينجح في تأسيس تطلع معياري((Attente normative تصبح المعايير آنذاك صيغا لانتقاء السلوكيات وتقنينها وظبطها بغرض الحد من الاحتمالية والتعقيد اللذان يطبعان العالم المعاصر، إلاّّ أن التطلعات المعيارية في مجملها تطلعات عكسواقعية[15] (Contre Factuelles) إجبارية لا تهتم بما هو كائن وإنما بما يجب أن يكون.
لكن ذلك لا يكفي للحد من الاحتمالية والتعقيد الذي يطبع عالم التواصل، ما لم يتم التنسيق بين التطلعات المعيارية والذهنية في مستويات عليا، خشية أن نجد أنفسنا في حالة فوضى عارمة لا يمكن تسييرها. لذا تتشكل الأنساق من طرف مستوى ثان من الانتقاء، فتكرارالعمليات الانتقائية على نفسها وعلى عناصرها يجلب تمايزا في صيغ التواصل، والتمايز هنا صيغ من صيغ التغيير الاجتماعي. ولذلك تظهر أنساق عديدة ( الدولة، النقود، المعايير ومنها القانون)، وهنا نجد مفتاح تمايز المجالات المعيارية التي لم يفهمها علم الاجتماع الكلاسيكي ( دوركهايم، ماركس، جيرفيش…الخ) إلا كمعطيات ثابتة، والتي أصبحت اليوم تعرف عملية دينامكية وغير مستقرة في البناء.
يتكون النسق من التفاعل القائم بين الفاعلين، وإذا ما استقر على إشباع حاجيات الطرفين فسيكون مدعاة لتكراره ورسوخه وينتظر كل منهم استجابة معينة من بعضهم البعض، بحيث أن استمراريته يولد معايير اجتماعية متفق عليها. وكمثال على ذلك علاقة الإنسان بعمله، فما دام يذهب إلى العمل كل صباح سينتظر من رب العمل أجرته في نهاية الشهر. وما دام كلا الطرفين راضيين بذلك سيتكرر الذهاب كل يوم وستتكرر منحة الأجرة كل شهر، وعلى غرار هاته العملية تتطور القواعد والسلوكيات التي تحكم العلاقة بينهما كما أعراف العمل وقوانينه حتى تتبلور في مؤسسات اجتماعية، تحكم كل منها معايير وقيم ثابتة.
وعلى هذا المنوال، تنغلق الأنساق التي تتشكل بهذه الطريقة على نفسها بتمايزها عن محيطها، ومن المؤكد أنها تعرف شيئا ما عنه، لكن فقط بلغتها الخاصة ومصطلحاتها. وهذا ما يجعلها منفتحة، فهي تقوم ببناء قاموسها الخاص بالمحيط عن طريق انتقاء المعطيات المفيدة لحساب إعادة إنتاجها.
وبعد هذا الرصد، يتعين فهم المجتمع المعاصر بحسب هابرماس كتزاوج لصيغتين من الاندماج الاجتماعي: النسق من جهة والعالم المعيشي من جهة أخرى.إذ قامت فكرة "العالم المعيشي" كما حددتها الفلسفة الظاهراتية على مقارنة إدموند هيسرل (Husserl) بين نوعين من الحقائق وبين نوعين من العوالم[16]:
فهناك حقائق العالم المعيش وهناك أيضا حقائق العلوم الموضوعية، فحقائق العالم المعيش حقائق تاريخية وذات علاقة بتجارب وتراكم خبرات مقرونة بسياقات ثقافية معينة، أما حقائق العلوم الموضوعية فهي كونية – غير ثقافية – ولا تتعلق بمحيط ثقافي ما، بل أن مسلماتها قابلة للتطبيق في كل مكان. بمعنى أن فكرة العالم المعيش تعني عالم الوجود مثلما يحياه الإنسان يوميا في محيط اجتماعي مقرون بسياق اقتصادي وثقافي، فهو عالم التجربة الآنية كما يعيشه الإنسان وهو عالم يتعلق بالإنسان وبيئته الثقافية والجمعية.
ويلاحظ هيسرل في كتابه "أزمة الثقافة الأوروبية والفينومينولوجيا المتعالية": إن من بين الأشياء الخاصة بالعالم المعيشي، نجد أيضا المخلوقات البشرية بكل أفعالها الإنسانية واهتماماتها وأعمالها وآلامها، منخرطة في حياة مشتركة من خلال علاقات اجتماعية معينة، ومن خلال معرفة ذواتها بأن تكون كما هي"[17]. إنه عالم سطحي خال من الرؤية النظرية، أما بالنسبة لهابرماس، فالفرق بين النسق والتفاعل ليس تحليليا فقط، ومن ناحية ابستمولوجية يمكن فهم أي فعل اجتماعي من زاويتين: تشير أولاها إلى الفعل كتفاعل أو كعنصر من نسق ما، فالتفاعل يتم من وجهة نظر المتفاعلين إذا ما أثبتت أقوالهم صلاحية يكمن ورائها حدسهم المعياري، أما الثانية تشير إلى وجهة نظر ـ رؤية خارجية ـ الملاحظ المختص الذي يضع الفعل في دائرة الأفعال الاجتماعية ككل، ويرصد الأسباب أو النتائج التي قد تغيب عن الفاعلين أنفسهم.
ويقدم هابرماس رؤية لفهم العالم المعاصر من خلال التعريف الجديد الذي يراه منشطرا إلى عالمين: الأول يخص العالم المعيش الذي تقوم بنياته على اللغة والتواصل والثاني يخص عالم الأنساق الذي يخضع بالأساس للعقلنة الحسابية التي تتميز بالوظيفية والأداتية والفعالية.
وهذه الفجوة تقسمه إلى شطرين: عالم الأنساق والعالم المعيشي. فاللغة تلعب دور التواصل في العالم المعيشي، والنسق مجال العقلنة الحسابية والأداتية المحيطة به. فاللغة كالأرض تشخيص لمأوى الوجود وعلى الرغم من أنها كانت دائما وسيطا رمزيا(Medium)[18] بامتياز، لا يمكنها التنسيق بين جميع الأفعال الإنسانية. لذلك حلت محلها الأنساق في العديد من مناحي الحياة.
وإذا كان التاريخ المعاصر يشهد إعادة انتشار اللغة كتواصل بوصفها خزانة البشرية التي لا تنضب، يمكن القول أن هذه العقلانية الثقافية تعتمد وسيطا ضعيفا. فالفعل التواصلي الذي يقوم اليوم مقام الأدوار التي قامت بها التقاليد البارحة، غير مؤهل بما فيه الكفاية للقيام بالتنسيق بين جل الأفعال في الواقع المادي للمجتمع. لذلك تلجأ المجتمعات إلى وسائط النقود والسلطة التي تمكن الاقتصاد والدولة ـ كأنساق اجتماعية ـ أن تحقق استقلاليتها عن العالم المعيش. وما يعرف اليوم عن هذه الأنساق أنها ذو نزعة توسعية ومهيمنة ترغب في احتلال كل جوانب العالم المعيش والسيطرة عليه، مما يسبب أضرارا نفسية واجتماعية لا يستهان بها ويطرح على المستوى السياسي أزمة الشرعية.
وأول الأنساق التي تلعب دورا هاما في حياتنا المعاصرة السلطة التي تعتبر مؤسسة نظام الدولة، والنقود التي أسست بدورها نظام السوق. يرى هابرماس بأن هذه الأنساق تمتاز بدينامكية انغلاق على نفسها لكل منها عالمها الخاص: فالسلطة تحدد شروط ممارستها، والنقود تحدد قيم العملة (سوق الصرف، نسبة الفائدة) بطريقة محض ذاتية. وأوضح مثل على ذلك ما تلعبه النقود من دور (فهي كأوراق لا قيمة لها، لكنها تكتسب قيمتها بفضل اعتمادها كآلية للشراء والبيع) وكل نسق له رموزه: فالاقتصاد يتعامل بالعملة والنسق السياسي بالقوة …الخ. فالمعنى لا يوجد قبل النسق ولا يسبق مجال الفعل، فهو ينشأ في الواقع عن طريق ما يختاره له النسق من دلالة.
يضيف هابرماس بأن معيارية الأنساق مغلقة وغالبا ما تستعمل رموزا مزدوجة ومصطلحات تُحدِّدُ بها من ينتمي للنسق وَمن لا ينتمي إليه. فنسقية القانون مثلا تمر عبر رمز مزدوج: قانوني/غير قانوني (وماعدا ذلك فهو خارج عن النسق وغير معترفا به).
لذا تعتبر الأنساق قادرة من تلقاء نفسها على ضمان بقاءها الذاتي، ويُجمل تالكوت بارسونز (Parsons) رائد علم الاجتماع الوظيفي أربع شروط لذلك: التكيف مع البيئة، توفير التكامل ما بين عناصرها، المحافظة على المنظومة التي تدور في فلكها، تحقيق الإشباع والأهداف المرسومة.
وما نستخلص من هذه الرؤية الجديدة أن عملية تحليل المجتمع كظواهر كلية ( من ابن خلدون إلى بارسونز) لم تعد لها من قيمة تذكر. فمن الوهم الاعتقاد اليوم بأننا سننفلت من قبضة البناء النسقي أو التكهن بالوصول إلى فهم معاني الواقع بطريقة كاملة ومطلقة، لأن عملية الفهم ذاتها تحتاج إلى خبرة يفتقدها الكثيرون. وهي عملية معقدة بعيدة عن ما يحياه ويعيشه الفاعلون.
ومن ناحية ثانية ليست الكليات Totalités في هذا المجال كائنات عضوية ذات مقومات جوهرية لكنها تأملية ووظيفية، والتأملية هنا مجرد تتميم اختياري للأنساق لضمان بقائها، كما أن المنطق العقلي داخلها أصبح وظيفيا وأداتيا.
فمن وجهة نظر الفاعل تحدد وسائل النسق دائما وأبدا توجهات[19] الفعل وأهدافه، وليس من الغريب أن يؤدي ذلك إلى إفراغ المعاني من محتواها، بعدما سيطر النسق على العالم المعيش واستفرد به كليا، وأصبح التفاعل يرزخ تحت متطلبات السوق والبيروقراطية.
ويؤكد لوهمان رائد المدرسة النسقية في علم الاجتماع أن المعايير اليوم لا تستقر إلاّ إذا كانت لصلاحيتها وظيفة مصاحبة لها، يعني ذلك أن المعايير موضوعة من طرف منظومات حتمية تحدد لها وظيفتها بشكل غائي، سواء صدرت عن المشرع أو المنظومات النسقية. فوجودها رهين بتلك الوظيفة، وإذا لم تستجيب بالقدر الكافي لها تلقى في سلة المهملات كأنها لم تكن يوما.
أخذ هابرماس فكرة النسق من صديقه نيكلاس لوهمان (1999 -1927) الذي ربطهما نقاش وجدل استمر حوالي عشرين سنة. فنظرية الأنساق نظرية اجتماعية تمتح أسسها من أعمال ماكس فيبر الذي حاول استقراء مكامن العقلنة في عالمنا الحديث، ووظيفية تالكوت بارسونز الذي حاول دراسة مجالات الفعل الأنساني مقرونة بما تؤديه من أدوار ووظائف.
تظطلع فكرة النسق الاجتماعي بمجالات الفعل الإنساني وقيمه التي تعقلنت لتصبح بنيات مستقلة بذاتها وعلى درجة من التعقيد، إذ لا تخضع إلا لأوامرها التي تعمل على تكريس ديمومتها. وتتمظهر هذه المجالات النسقية المستقلة ذاتيا في القانون والاقتصاد والسياسة، وإن كان نيكلاس لوهمان رائد علم الاجتماع النسقي الوظيفي يوسع من إمكانيات نظريته لتشمل: الفن والسلوكات والموضة والمعمار.
يلاحظ لوهمان في هذا الصدد فراغ المعايير من أي جوهر، فهي أكثر تقنية وشديدة التعقيد لا يفهم مصطلحاتها وحيلها إلا المختصون، تعتمد مساطير بيروقراطية تبرر صلاحيتها. وهذا ما يعني التشكيك كليا في أي تعريف لمعانيها بصفة عضوية وجوهرية أو بصفة قارة ودائمة، فلا معنى للمعايير خارج مدار الاستعمال الوظيفي والسياق الظرفي، كما هو عليه الآن الأمر في أغلب المجتمعات الحداثية.
يرى يورغن هابرماس أن الحد من ذلك والخروج من الأزمة الراهنة يتطلب تقنين العولمة لضبط انشطار الحياة الاجتماعية والانفصام المتزايد بين عالمنا المعيشي والأنساق، ووحدها المعايير القانونية من باستطاعتها أن تسد الفجوة بينهما ولجم عنان الأنساق( السوق، البيروقراطية، التكنوقراطية،..)، لكونها الوحيدة القادرة على إدراج الأنساق في الحياة المعيشية والحفاظ على لحمة المجتمع وإعادة التوازن بينهما.
فالمؤسسة القانونية جد ملتصقة بالحياة اليومية للمواطنين أكثر من مؤسسة أخرى والمؤهلة لضبط الموازين وللتعويض عن هذا الخلل في عالمنا المعيش. لذلك يجب أن يلتجئ الفاعلون إليها كإجراء يوفر عنهم توافق غير ممكن ويكفيهم شر القتال بينهم. فدور القانون في عالمنا المعاصر يجب أن يكون شبيها بالدور الذي قامت به التقاليد والأديان* في الماضي بعد أن أصبح المعتقد حبيس الشأن الخاص لكل إنسان داخل المجتمع الواحد، ناهيك عن اختلاف الملل والنحل وتضارب أو تنافر القيم الأخلاقية بين الأفراد بشكل يستحيل فرض تأويل وحيد لها على الجميع من دون المساس بحقوق الفرد وحريته.
نفهم بما تقدم أن القانون مدعو إلى أن يلعب في نظرية هابرماس دور "المُحول"، فهو يحول المتطلبات المعيارية للفعل التواصلي إلى سلطة إجبارية لمجموع المجتمع وأنساقه الصناعية والمالية والمصرفية والشبكية، يحتكم إليه الفرد ضد الدولة والدولة ضد الفرد. ووحدها المؤسسة القانونية من يتيح وصلا كافيا بين الأنساق وحياتنا اليومية، لأنها تعبر عن الضرورات التي يصيغها الإنسان في خطابه العادي وتطلعاته اليومية إلى لغة تفهمها الأنساق وتنضبط لها.
وتبعا لذلك يُغير القانون هنا من دلالته المعتادة، فمن مجرد أداة للتقنين وضبط العلاقات بين الأفراد وتنظيم مختلف السلطات كما ساد منذ مدة طويلة. يصبح الوسيلة الجديدة التي يعبر بها المجتمع عن فهمه لنفسه وإرادته المستقلة، وبهذا المعنى يتغير مفهوم المواطن من مجرد كائن يخضع لسلطة وينتفع بحقوق في ظلها بالمعنى الليبرالي للكلمة، ليتعرف على نفسه من الآن فصاعدا كذات واعية تشارك في السيرورة التي يفكر من خلالها المجتمع ويقرر لنفسه.
مرد هذا الاحتفال بالمعيارية وإخضاع العالم المعيش والأنساق لديموقراطية تداولية تُخول للفرد وأعضاء الجماعة من المشاركة مناصفة ومن دون ترك أحد على قارعة الطريق، أن المجتمعات الديموقراطية لم تحقق إلا النزر اليسير وبطريقة ناقصة الإمكانات والطاقات الديموقراطية التي يحبل بها القانون الحديث كما اكتشفه روسو.
فشكل الديموقراطية التمثيلية للسلطة السياسية انقلب إلى ترويض للطاقات الديموقراطية وكبح عموم الشعب لصالح نخبة سياسية أوليغارشية. ولقد تعزز ذلك بمقدم دولة العناية الاجتماعية:"Etat-Providence"، عندما تم وضع إواليات وميكانيزمات الضمان الاجتماعي الذي احتكرت الدولة أبوته، والأحزاب السياسية المجال السياسي، مما شجع على انغماس الأفراد في حياتهم الشخصية وعزوفهم المتزايد عن المجال العام وأمور السياسة.
فلقد رفضت الدولة طويلا أن يمارس المجتمع المدني السياسة، وإذا بدا اليوم أن العديد من المؤشرات تؤكد أن هذه الوضعية في طريقها للزوال، فالعداء المتصاعد لاحتكار النخب التكنوقراطية والمحترفين للسياسة وتوسع الممارسات الديموقراطية في مجالات جديدة، كما الصعوبات التي تعاني منها الديموقراطية والدور المتصاعد لأنوية المجتمع المدني وتصاعد حس المواطنة بفعل الظروف الاجتماعية الحديثة، يشير إلى إرادة المواطنين للانفلات من البديل الخاطىْ الذي يريد حصرهم بين أسوار ديموقراطية "تمثيلية"، كشفت بالملموس عن محدوديتها وديموقراطية "مباشرة" أصبحت مستحيلة التطبيق.
يحاول هابرماس تقديم رؤية موسوعية تركيبية محورها الفلسفة، علم الاجت
يورغن هابرماس في مواجهة كارل ماركس ومارتن هيدغر
حسن مصدق
ساد الاعتقاد لزمن غير يسير بأن التقنية خلاص الإنسانية من جبروت الطبيعة وآفاتها، واستحكمت هذه النظرة عندما استطاع الإنسان أن يخطو درجات لا بأس بها أهَّلّته للسيطرة على كثير من الظواهر الطبيعية. الأمر الذي سمح له بتوسيع حريته وتحسين قدراته، ما كان له بليغ الأثر في تمدن الإنسان، وساهم بقسط كبير في سمو أحاسيسه والانعكاس إيجابيا على الأخلاق الإنسانية.
لكن التقنية ما لبثت أن أصبحت طوفانا يجرف كل ما يلقاه، عندما نزعت من الإنسان آدميته وأغرقته في أوحال الاغتراب وجعلت منه دمية بين أنياب الآلات ومخالبها، ولعل هيدجر أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين الذين تناولوا التقنية بشكل غير مألوف. ولعل الرجوع إلى مقارنة بين أبرز فيلسوف يهاجم التقنية )هيدجر( ومن يدافع عنها)ماركس( سيوضح الأمر كيف يحاول هابرماس رائد مدرسة فرانكفورت الثانية تجاوز مخلفات الإرث الفينومينولوجي الهيرمينوطيقي) التأويلي( والماركسي الكلاسيكي على حد سواء.
انتقد هيدجر(1976-1889) التعريف السائد للتقنية كأداة ووسيلة لتحقيق هدف، كما التعريف الأنثروبولوجي الذي يرى فيها نشاطا واعيا للإنسان على حد سواء. إذ في الغالب ما تدور تعبيرات التقنية الشائعة حول طابع جوهري يميزها بمظهرين متساوقين يطلق عليهما ''المظهر الأنثروبولوجي" و"الأداتي''، وطبقا لهذا التصور تصبح التقنية'' فعلا'' إنسانيا حضاريا و''وسيلة من أجل غاية'' تنتظمان الواحدة والأخرى منها لإشباع ''حاجياته[1]'' . ولدعم الطابع الأنثروبولوجي للتقنية يعمد المفكرون إلى تقديم حجتين: الأولى منها تجزم بأنها مؤسسة على العلوم الطبيعية الحديثة وتعد إحدى تطبيقاتها الملموسة، فلقد أصبحت هذه العلوم بفضل اختراعاتها الخارقة إحدى أبرز الفتوحات الإنسانية التي جعلت التقنية تنتمي للحضارة ومشروع الأنسنة، ولا يمكن تقييمها إلا بربط مساهمتها في تطور الثقافة الإنسانية.
ومن هذا التحديد الأنثروبولوجي للتقنية ينحدر طابعها الأداتي:<< تمر التقنية عبر شيىْ ما يستعمله الإنسان بغاية تحقيق منفعة>>[2]. والهدف من ذلك إعطاء مبدأ موحد لتاريخ التقنية، يشمل كل مراحلها منذ أن صنع الإنسان أول فأس بدائية إلى غاية صناعته لمحطات الرادار والمحطات الفضائية. فحتما هناك بون شاسع في التعقيد التقني، لكنه لا يعد أن يكون في الدرجة وليس في الطبيعة، فكلها أدوات ووسائل تنتج بغاية أهداف محددة.
وبغاية دعم هذا الأفق تعتبر أداتية التقنية حيادية لأنها تميز دور الإنسان الفعلي بوضع شروط عادلة في علاقته بالتقنية إذا ما وجهها إلى غايات روحية، ولقد تزايدت هذه الضرورة بعدما أصبحت التقنية قاب قوسين أو أدنى من الانفلات من قبضة الإنسان ومراقبته[3].
إن تمثل التقنية داخل مدار الأنثروبولوجيا والأداتية يبدو جد متطابقا في أعيننا مع ما يجري، غير أنه مخادع على أكثر من صعيد. ويرجع ذلك بالأساس في محاضرة هيدجر لغة التقاليد ولغة التقنية[4] لى انسجامها مع النموذج التأويلي السائد الذي نفهم من خلاله الأشياء والكون: ذات-موضوع. يبين هيدجر عدم جدية هذا التصور بالرجوع إلى التصور الأنثروبولوجي- الأداتي وامتحان أطروحاته الشائعة والمسلم بها: التقنية كعلم تطبيقي وكأداة خاضعة أو ستخضع لمراقبة الإنسان.
وإذا ما كانت التقنية تمر عبر تطبيق فعلي لعلوم الطبيعة وتخضع للمراقبة النظرية، فذلك لم يعد يقبل به اليوم الفيزيائيون والمهندسون على حد سواء. فلقد انتفت واقعية هذه الأطروحة بعد ما كانت فيما مضى لها نصيب من الواقعية عندما كانت الأدوات منظمة بأهداف تجريبية. وفي المقابل أصبحت النظرية الخالصة اليوم معادلة رياضية بامتياز، وبالتالي باتت إجرائية وقابلة للتطبيق.
ولعل أبلغ حالة في هذا المضمار ما نشاهده في الفيزياء النووية:<< حيث الأجهزة التقنية المستعملة من طرف الملاحظين في تجربة ما، تحدد كلما مرة ما يمكن أو لا يمكن ملامسته من التمظهرات النووية>>[5]. وتبعا لذلك إذا أصبحت التقنية عاملا محددا في تحيين الوقائع العلمية، وإذا ما كانت تتوفر في صلب بنيتها على شيىْ ينحدر من المعرفة، فليس من الممكن اعتبارها مجرد تطبيق للعلوم النظرية. لذلك نرى عالما فيزيائيا من طراز هايزنبرغ (Heisenberg) يتكلم عن <<التشابك المزدوج>> بين العلم والتقنية وإن لم يتساءل حول جوهر هذا التزاوج المتبادل.
وبتوضيح أصلهما المشترك يتوجه هيدجر إلى جوهر التقنية، أي أن أسبقية النظرية أصبحت في خبر كان ولم تعد مسلم بها اليوم. فالعلوم الحديثة فرضت نفسها بعد ما أصبحت تجريبية وتقنية ورياضية، ولتحديد مرحلة هذا التطور أطلق عليه المفكرون بما يعرف اليوم ب<< التقانية العلمية>>[6]. أما بخصوص الأطروحة الثانية ينكر هيدجر وبشدة في حوار له مع صحفيين من جريدة Speigel الأيديولوجيا المهيمنة في الديموقراطيات الغربية التي تتغنى بقدرة الإنسان وتحكمه في التقنية، قائلا قولته الشهيرة:<< التقنية في كينونتها شيىْ لا يستطيع الإنسان التحكم فيه>>[7] ونحن بمعرض هذه النقطة، لابد أن نشير إلى أن هذه النقطة تميز رؤية هيدجر للحداثة ككل: فأيديولوجية التقانية العلميةTechno-science تتغذى من عدم قدرة الإنسان الحديث أن يتعرف بواسطة الفكر على<< القوة المتخفية بين ثنايا التقنية المعاصرة التي تحدد علاقة الإنسان مع ما يوجد>>( تساؤلات، الجزء146:III). ومن ثم إن غياب التأمل بالنسبة للإنسان المعاصر يجد سببه في الانبهار أمام التقدم الباهر والفاتن للتكنولوجيات الجديدة.
تشهد الوقائع في خضم التطورات السريعة أن هناك قوة تتجاوز إرادة ومراقبة الإنسان، لأنها لا تصدر عنه، بل تجعل أي مشروع سياسي أو أخلاقي يريد توجيهها أو السيطرة عليها محض تهويم وفرقعة في الهواء. والغريب في الأمر أن إرادة التحكم هاته أصبحت خداع ليس إلا، مثقلة بعمي وتواطىْ الفكر التقني نفسه الذي يحاصر الإنسان من كل جانب والذي يخفي وجها آخر للعبودية التي يوجد عليها. إذ << يبدو صحيحا أن النجاحات المتسارعة للتطور الباهر للتقنية لا تترك أو تعطي انطباعا بأن الإنسان سيصبح سيد التقنية. فالحقيقة، تؤكد أن الإنسان أصبح خادما للقوة التي تسيطر على كل إنتاج تقني من جميع الجوانب >>[8].
ولذلك ما زال النقد الهيدجري يحتفظ براهنيته للتمثل الأنثروبولوجي- الأداتي، فلقد برهن جاك إلول J. ELLUL في كتابه النظام التقني(280:1977) بأن التقنية بعيدة كل البعد أن تتطور عبر مسالك الغايات التي نطمح لتحقيقها، بل تتقدم في الواقع عن طريق تطوير الإمكانيات الموجودة فيها أصلا للنمو والتي أصبحت تقانية كوكبية Technocosme ،أي كأفق أخير وليس كأفق للمعنى. بمعنى أن التقنية لا تخضع إلا إلى حتميات نموها الخاصة والعمياء التي تتجسد في تحقيق جميع التركيبات الممكنة التي تسمح بها جميع حالات التجريب بين عناصرها. يوضح هيدجر هذه الضرورة المتخفاة في قلب جوهر التقنية كنذير مستفزGe-stell يتجاوز الإنسان ومشاريعه ونشاطه، بحيث لم يعد قادرا أن يترجم فعليا مبدأ المعقولية الأخير الذي كان يضعه بين الغايات والوسائل.
وكما لم يسلم من نقده هؤلاء اللذين يعتبرون التقنية مضادة للميتافيزيقا لأنه يعتبرها ميتافيزيقا مكتملة، مكّنت من تحقيق حلم الميتافيزيقا الأزلي لما جعلت المعرفة ملتحمة بأشياء تلمسها وتعيها الذات العارفة. لذا فالرأي الشائع بأن التقنية لا علاقة لها بالميتافيزيقا، لا يجد مكانا للاعتراف به في فلسفة هيدجر. فهي الميتافيزيقا بعينها.
يعود بنا هيدجر محذرا بأن التقنية لا تتمثل في ما تمنحه بصفة ظاهرة: أشياء ووسائل وأدوات ومركبات تقنية وتحديث قوى الإنتاج أو سيرورتها:<< إن جوهر التقنية ليس إنسانيا. فجوهر التقنية لا يمت قبل كل شيىْ بأي صلة للتقنية >>[9].
تبدو هذه الأطروحة جد مفارقة ومختلفة عن جميع التصورات المعروضة حول التقنية، لأن المشروع الذي يوجد في صلب التقنية ليس منجزا إنسانيا ولكنه ميتافيزيقا تلف جميع مجالات الواقع ولا تقتصر فقط على الآلات.
لقد أرست الميتافيزيقا أسس التقنية حينما جعلت معيار الحقيقة ـ منذ الفلسفة الإغريقيةـ مطابقة الفكر للواقع، مما مهد لأن تحتكر العلوم الوضعية الحقيقة لوحدها، وبدأ ذلك يتضح رويدا رويدا منذ الثورة العلمية التي أحدثها العالم الفلكي جاليليو(1642-1564) الذي دمر الرؤية الكنسية للعالم وغير من نظرة الإنسان الميثولوجية والغيبية للكون، لتقوم على الملاحظة الفيزيائية والدقة الموضوعية. وتأكّد ذلك في عصر النهضة الذي حدد فيه ديكارت هدف العقل في << أن نصير سادة الطبيعة>> لا عبيدها، وعلى النحو الذي يسمح بتسخيرها و''استعبادها" كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف دان سكوت. ومن ثم تسنى للعلم أن يلعب دوره الهام بوصفه أداة تساعد في السيطرة عليها كما قال فرنسيس بيكون.
لقد أوقدت هذه الرغبة المستعرة للإنسان سبيلا إلى البحث المستمر على حقائق الكون وفهم ظواهره بشكل علمي، وبمقدار ما تتطور السمتان الأساسيتان للفعل البشري: ''المعرفة و''المصلحة'' (Connaissance et Intérêt)، تتدخل الإرادة الإنسانية لتطويع النظرية العلمية في تعديل الأشياء وتغيير الواقع، بل قل أنها أصبحت اليوم قادرة على تغيير الطبيعة البشرية كالمزج بين الجينات والقدرة على الاستنساخ البيولوجي وتعطيل الشيخوخة أو اختيار طبيعة النسل: ذكرا أو أنثى، إذ بلغت التقنية شأوا غدت بموجبه"إرادة الإرادة".
ولكي نتبين قصد هيدجر من ذلك، يمكن الاستدلال بأن الإرادة الأولى هي التي تحدد الإطار الذي يتم من خلاله توظيف الإرادة الإنسانية، بمعنى أن الجوهر الميتافيزيقي للتقنية يفسره شعور البشر بأن إرادتهم تتجاوزها أشياء من صنع أيديهم حيث أصبح الإنسان مكبَّلا في كل مكان بقيود التقنية.
يتجلى ذلك في نموها البالغ السرعة وبصورة رجائحية ومفاجئة أغلب الأحيان، ولا أبلغ من ذلك، أننا أصبحنا مدينين للكهرباء وآلات الطبخ والغسيل ومكيفات الهواء لا نستطيع منها فكاكا. منه ما يقوله هربرت ماركوزه في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد: إن<< الناس يتعرفون على أنفسهم في سلعتهم، يجدون أرواحهم في سيارتهم، في أجهزة الهاي-فاي العائدة لهم، في بيوتهم المسواة، وفي تجهيزات مطابخهم>>. فقيمهم متسقة مع علاقات التسويق والاستهلاك، لا تستطيع عنها بديلا أو تبديلا.
لقد أدى تقدم تقنياتنا المذهل والطواعية والدقة اللتان توصلت إليهما، بالإضافة إلى العادات والأفكار التي أوجدتها وقوع تغييرات عميقة في حياة الإنسان، إذ يستحيل اليوم أن نرى إلى المادة والمكان والزمان كما كان يحدث في الماضي.
لقد انفلت العالم إلى أشكال ممزقة من المعاني التي تتكلم أصواتا متعددة تتفق مع تبايناتها التي أفقدتها الكثير من تناغمها وعمقها، مما أدى إلى فقدان قابليتها لتنظيم حياة الناس وإعطائها معنى.
ولعل كتاب نيتشه وراء الخير والشر (1882)، يصور بدقة عالما معاصرا يحبل كل شيىْ فيه بنقيضه:<< في لحظات الانعطاف التاريخية هذه تتجلى متجاورة ومتداخلة ببعضها غالبا حركات نمو وصراع رائعة متعددة الوجوه أشبه بالغابة، نوع من الإيقاع الاستوائي في عملية التطور مع حركة هائلة للتدمير والتدمير الذاتي بفضل الأنانيات المتعارضة تعارضا عنيفا والمتفجرة والمتصارعة فيما بينها من أجل الشمس والنور، غير قادرة على الاهتداء إلى أية حدود أو قيود وأي احترام أو اعتبار في إطار الأخلاق الموجودة تحت تصرفها... لاشيىْ غير" الأسئلة" الجديدة والصيغ الجماعية لم تعد موجودة، هناك "لاء" جديدة تستند إلى سوء التفاهم وانعدام الاحترام وثمة انحطاط وشر مستطير مع أسمى الرغبات المجتمعة مع بعضها بشكل مخيف، ثمة عبقرية الجنس تفيض فوق أطر الخير والشر وتزامن مصيري بين الربيع والخريف... مرة أخرى هناك خطر، وهو أم الأخلاق - خطر هائل-. لكنه الآن موضوع خطر على الفرد، على الأقرب والأغر، على الشارع، على الابن بالذات، على القلب بالذات، على أعمق الملاذات السرية للتمني والإرادة>>. وهذا ما يفسر الصرخة المدوية التي أطلقها نيتشه وما زالت تصدح في الآفاق:<< احذروا من التقدم التكنولوجي الذي لا غاية له إلا ذاته، احذروا من حركته الجهنمية التي لا تتوقف عند حد، سوف يولد في المستقبل أفرادا طيعين، خانعين، مستعبدين، يعيشون كالآلات، احذروا من هذه الدورة الطاحنة للمال ورأس المال والانتاج الذي يستهلك نفسه بنفسه، احذروا من عصر العدمية الذي سيجيئ لا محالة. إذ لا يكفي أن تسقطوا الآلهة القديمة لكي تُحِلُّوا محلها أصناما جديدة، لا يكفي أن تنهار الأديان التقليدية لكي تحل محلها الأديان العلمية، فالتقدم ليس غاية بحد ذاته>>.
يتم ذلك وفق ما نعت به عالم الاجتماع الألماني ماكس فـيبر(1920-1864) تقنية هذا العصر في الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية بالـ" قفص الحديدي"، إذ أن نظامها التقني والبيروقراطي:<< يُجدد حياة كل الأفراد الذين ولدوا داخل هذه الآلية بقوة لا تقاوم>> وببأس شديد. فالبنسبة لفيـبر مثلا، ليس معاصروه إلاّ:<< اختصاصيين بلا أرواح، شهوانيين بلا قلوب. وبهذه اللاّشيئية وهذا الانعدام، نجدهم غارقين في الوهم القائم أنهما حققا مستوى من التطور لم يسبق للبشرية أن حققت مثله>>. إن جميع الناس فيه إنما تمت صياغتهم وفقا لشباكه وقضبانه، فنحن كائنات بلا أرواح وبلا قلوب وبلا هويات جنسية أو شخصية.
إن الإنسان الذي تمنى يوما ما أن تجعل منه التقنية سيدا صار به الحال عبدا للأدوات التي أنتجها، مما ساعد في عدم شعوره بالأمان وازدياد مظاهر القلق والاكتئاب إلى حد بلغت فيه روحه كما سمي سارتر روايته الشهيرة: الغثيانnausée'' ''La ، وأصبح في الوقت نفسه أسرى صدمات وتشنجات عنيفة بالمقدار نفسه الذي يحس بأنه مشحون بقوة حيوية تضخم كينونته كلها.
يلغي هذا الفهم عند هيدجر حياد التقنية وهو رأي متداول وشائع بعد أن ساد الاعتقاد بأنها في حد ذاتها ليست خير أو شر كله، بل يتوقف الأمر على كيفية استخدامنا لها، والمثال الذي يجري تقديمه كل مرة و بكل أريحية، هو الطاقة الذرية التي يمكن أن تستخدم لغرض سلمي أو غرض مدمر.
يعارض هيدجر هذا المفهوم الماركسي أشد الاعتراض، ويرى أنه في اللحظة التي تنطلي علينا حيلة أن التقنية محايدة نضل سواء السبيل ونقع في المحظور ونوقع صك نهايتنا وبأسوأ الأشكال. ويفسر ذلك بأن الأزمة لا تنبع من وظائف ما يصدره الإنسان بعد اكتمال المنجز التقني، لكنها تبدأ أصلا من أسسه حتى قبل الشروع في إنجازه. فالتقنية نوع من اللعبة الخبيثة التي تجيد إطباق فخاخها على الإنسان، لأنها تنطوي على مفارقة كامنة في صلبها، فيكون المتحقّق منها دائما عكس المرجو، وبطريقة مفاجئة أغلب الأحيان.
وإذا كانت التقنية واختراعاتها تفتتنا بسحرها ما دام عالمها غرائبيا، فهي أيضا عالم شيطاني مرعب، عالم يخرج من دائرة التحكم، عالم يهدد ويهدم بشكل أعمى وهو يتحرك كاسحا كل ما حوله. ولا أدلّ على ذلك إذا أردنا أن نستخدم مجازا يقارب ما يذهب إليه هيدجر، شخصية فرانكشتينFrankenstein)) لماري شيلي Marry Shelle. فهاته الشخصية الغريبة تمثل في مسعاها البشري سعي الإنسان اللامحدود لتوسيع الطاقة والقدرة الإنسانية عن طريق العلم والتقنية. لكن صنيعهما ينقلب إلى وحش ضاري تنفجر في وجهه بصورة لا عقلانية وغير منتظرة وبنتائج كارثية.
فإذا كانت الميتافيزيقا دشنت مشروع فهم أصل العالم والمجرّدات، فلقد انطلقت التقنية شيئا فشيئا لتصبح ''ميتافيزيقا مكتملة'' في العالم المعاصر، تقارب حلم الفلسفة الأول في فهم العالم، وخير دليل على ذلك مظاهرها التالية: تطور لانهائي، خلق وتجديد أزليين يطبعها في جميع ميادين الحياة، فهي الآن ثورة مستمرة...
فهي مشحونة بأكثر أشكال الفرح غبطة وحبورا كمصل البنسلين وبأحلك ألوان المرارة سوادا كمرض جنون البقر والالتهاب الرئوي اللانمطي، إنها فرانكشتين جديدة، بل أصبحت أيضا قادرة على التدمير و جعل الحروب مربحة. إنها بمثابة دوران حلزوني يدور على نفسه إلى ما لانهاية، يحاول تجريب جميع البناءات والتركيبات الممكنة التي يحبل بها.
أليس الأمر كما رصده أدورنو في كتابه الكبير Dialectique négative:<< ليس هناك من تاريخ كوني يفضي من العبودية إلى نزعة محبة للإنسانية، وإنما هنالك تاريخ يفضي من المقلاع إلى القنبلة التي تعادل قوتها قوة مليون طن من ال ت.ن.ت... فهو التاريخ الواحد الوحيد الذي لا يزال يتكررّ إلى هذا اليوم مع- وقفة بين لحظة وأخرى لالتقاط الأنفاس- وغايته أن يكون ألما مطلقا>>. (320:1937)
يبدو الإنسان في هذا العصر<< بدون سلطة على مصير الوجود وبالتالي لا يجب عليه[حسب هيدجرِ] أن يشرع في أي نشاط أو تمرد، وإلا سقط في فخ الفكرٍِ[ الأداتي] الحاسب والتقانية، فلا يوجد فعل إنساني يمكنه أن يغير جوهر التقنية>>.
يتصور هيدجر الإنسان قذف في الوجود، وهو وصف أكثر وضوحا لانعزالية الفرد، فالإنسان ليس فقط غير قادر على إقامة علاقات مع الأشياء أو الأشخاص خارج ذاته، بل أصبح من المستحيل نظريا إنشاء تحديد نظري لأصل الوجود الإنساني وأهدافه، ومن ثم أصبح الإنسان كائنا غير تاريخي. لكن هابرماس يرفض أن يكون الأفق مسدودا والمستقبل مظلما، ويتهم فكر هيدجر بالاستسلامية والقدرية. ويؤكد بأن لدى أفراد هذا العصر القدرة على فهم هذا العصر من جهة، وعلى تغييره بعد فهمه من جهة ثانية.
فإذا كان هابرماس يدين لهيدجر رائد الفينومينولوجيا التأويلية بالقدرة على استكناه العالم المعاصر واستشراف قضاياه، فإنه يأمل عبر تأسيسه لتأويلية نقدية Herméneutique critique تجاوز هيدجر لفهم العالم ونقد رؤيته للكون بغية تحرير الإنسان. ولا غرابة من أن يعتبر هابرماس مع ذلك)[1971]، 1974) كتاب هيدجر الكينونة والزمان[10] << أهم حدث فلسفي منذ ظاهريات العقل لهيغل>> لاسيما الفصل السادس الذي يتمحور على الخطاب، حيث يحقق هيدجر قفزة نوعية في تجاوز فلسفة الوعي عبر إطار اللغة، وهو بمثابة موت معلن للديكارتية.
يعمد هيدجر على تخليص الفكر من نزعته المتعالية وتقديم مقاربة تاريخانية تتجاوز فلسفة الوعي الذاتي، وإن قامت على تأويلية وجوديةHerméneutique existentiale . فالمهم عند هابرماس يتجلى مقياس القيمة الفلسفية للفكر في بعده البرهاني اللغوي، وهيدجر اقترب من ذلك بكثير. لكن ذلك لم يمر من دون نقد شديد وصارم له، لاسيما نظرته النخبوية للحقيقة، أو ما يسميه صيرورة الحقيقة devenir de la vérité التي يدعي أنه يلامسها وعلى مقربة منها، من دون أن يعرض الحجة على ذلك، بل يرفض ضرورة التحقق من صلاحية قضاياه الفلسفية، لأنهل لا تقوم على'' قوة''عقلانية تمكنه من حمل مخاطبه على الاعتقاد بها بعد البرهنة عليها.
لذلك فإذا تملك الإنسان الرؤية العقلانية النقدية فهو مستعد لأن ينقلب على نفسه ويسائل وينفي أو يحاور كل ما قيل أو سبق أن آمن به، ويحولها إلى سلسلة من الأسئلة الجريئة ومن الأصوات المتناغمة والمتضاربة، تتعايش فيه رؤى الآخرين المنطقية. ولأن يستطيل ويتمدد أفقه إلى أبعد حدود طاقته لتصبح حقائقه مبنية على صحيح البرهان والمحاججة.
إن التواصل العقلاني والاحتكام إلى المحاججة والبرهان من صنائع العقل ومميزاته اللذان يفضحان الأوهام المزيفة وكل أصناف الخداع المستشري في الإشهار السياسي والاقتصادي والتقني، ويستطيعان تعرية الذات من نرجسيتها وأنانيتها وأوهامها: إنهما يكشفان أصول الرغائب والدوافع غير القابلة للإشباع.
إن صوت العقل مؤمن بقدرته على اختراق الأقنعة وتجاوز المطبات، فحتى أعمق الجروح وأقساها لا تستطيع إيقاف تدفق طاقة البرهان الخلاقة وفيضانه الخصب. إن تبادل الحجج واللجاج المصاحب لها منع لكل دوغمائية واتكالية. فالبرهان الخطابي عند هابرماس صوت متعدد الأصوات، حواري وجدلي يدين الحياة الحديثة وتقنياتها لما تجانب الصواب باسم مشروع الحداثة نفسها، آملا أن يعلو شأن العقل في كل ميادين الحياة وأن تشفى الجروح التي تمزق رجال حداثة اليوم ونسائه.
يريد هابرماس البحث عن حل عقلاني للتقنية التي أطبقت على العالم المعيش واستفردت به من جميع الجهات، فهو يقر بأننا نعيش عصر الرأسمالية المتقدمة القائمة على التقنية، بل إن شرعيتها أصبحت مستمدة منها. فلا سبيل إذن للهروب منها إلى جداريات الماضي وأطلاله، ولا مناص أيضا بالاعتراف أن التقنية تعمل بشكل مختلف عن الأيديولوجيات التقليدية لتبرير شرعيتها، وما يميز التقنية عن الأيديولوجيا أنها استطاعت أن تخلق مصالح مرتبطة بوجودها بين جميع الطبقات والشرائح المختلفة، بل اخترقت حدود الجغرافيا والأمم، جميع حدود الطبقات والدول وحدود الأديان والمعتقدات والأيديولوجيات.
نتبين ذلك جيدا عندما يعود هابرماس إلى ماركس الذي كان أول هلل للعلم ورفع شعار التقدم والتمايز الذي ظهر بين المجالات، بحيث صرنا قاب قوسين أو أدنى من تسخير الطبيعة والتحكم بها بفضل العلم. الأمر الذي مهد من انتقال آليات التحكم بالطبيعة إلى مجال الحياة الاجتماعية ذاتها. فصرنا نحاول تنظيم حياتنا بغاية الفعالية والنجاعة والتنظيم الحسن والترشيد المعقلن الذي يذلل تطويعها إلى أبعد حد. ومن أهم مظاهرها في عالمنا المعاصر التكنوقراطية صنوة التقنية إن لم تكن صنيعتها:<< فمن جانب، نلاحظ أن الوعي التكنوقراطي "أقل أيديولوجية" من الأيديولوجيات السابقة (الماورائية والميتافيزيقية منها)، لأنه يستأنس بالخبرة المقدمة وليس له اهتمام بأحاسيس الإنسان والتقاليد الأبوية الرحيمة، بل يجهز عليها إجهازا.
ومن جانب آخر، إن الأيديولوجيات الأكثر شفافية اليوم والتي تسود في خلفياتنا وتجعل من العلم صنما، لا تقاوم وتذهب أبعد من الأيديولوجيات التقليدية، لأنها بحجبها لمشاكل العدالة الاجتماعية والمساواة لا تبرر فقط مصلحة جزئية في السيادة لطبقة محددة، وإنما تقمع في نفس الوقت مصلحة جزئية في التحرر لطبقة أخرى، بل لأنها أيضا تضر بمصلحة الجنس البشري كله في التحرر>>[11]
مرد ذلك أن ماركس يثق في التقنية كوسيلة لتحرير الإنسان من الاستيهام الحالم والأسطورة لأنها محايدة، وهي إيجابية لأنها مرتبطة بتقدم العقل البشري، كما أنه يفترض من خلالها تطورا مطردا لهذه التقدم نتجاوز بموجبه تفسيرات الإلهام السحري للطبيعة التي يسعى العلم أن يكبح جماحها ويشل قدراتها والتي ينتقدها في حينها.
ولا يتميز كل من ماركس وانجلز عن ما سواهم من المؤرخين بتفضيلهم للعلاقة الموجودة بين العلم والتقنية فحسب، ولكن لأنهما غيَّرا معنى طبيعة العلاقة التي جرت العادة إعطاءها لهما. فمن دون شك يشجع تطور العلم تطور التقنية، لكن التأثير العكسي هو ما يبدو في نظريهما جدير بالأهمية في هذه العلاقة الجدلية:<< إذا كانت التقنية كما تقولون، متوقفة بالطبع وإلى حد كبير على حالة العلم، فهو بنفسه متوقف أكثر بكثير على حالة واحتياجات التقنية. ومتى برزت في المجتمع حاجة تقنية كان ذلك محركا للعلم أكثر مما تقدر على فعله عشر جامعات.>>[12]
ويعتمد ماركس تصورا لآلية التغيير التاريخي على المستوى الاجتماعي، لا تلبث أن تتغير من خلاله علاقات الإنتاج القائمة التي توجد في صالح البرجوازية إلى صالح القوى التي تدفع عجلة التاريخ إلى الأمام، فالتراكم الذي حققته الإنسانية في جميع مجالات الحياة لم يكن ممكنا من دون تطور أدوات الإنتاج، والتي كان من المتعذر أو المستحيل حل إشكالاتها من دون التقنية.
وبتركيز شديد، تصبح التقنية عند ماركس ايجابية وبناءة، لأنها مرادفة لتسخير الطبيعة ومفتاح التقدم وتطور قوى الإنتاج، والمطلوب فقط تخليصها من سيطرة فئة معينة وتخليص قوى الإنتاج من قبضة رأس المال والاستغلال وتخليص الإنسان من الاستلاب.
ويعتبر ماركس في نظر هابرماس أكبر داعية للتقنية، ولكن تجدر الإشارة إلى أنه إذا كان ماركس قد ناصر التقنية كوسيلة لتحرير الإنسان من الأمراض الفتاكة والأوبئة وجبروت الطبيعة...الخ، فإنه أشار في مواطن متعددة إلى الأخطار التي تحدق بالطبيعة من جرّاء الاستغلال التقني الأرعن لمواردها، يقول:<< إن كل تقدم في فن الزراعة الرأسمالية ليس فقط تقدم في نهب الأرض، فكل تقدم في زيادة خصوبة الأرض لوقت محدود من الزمن هو تقدم في تخريب الموارد الدائمة لهذه الخصوبة>>[13].
ومع ذلك، فالتقنية أو بالأحرى صنوها في المجال السياسي: التكنوقراطية، أبعد من أن يحتكرا مجمل النشاط الإنساني في المجتمع. ولكي يبين هابرماس حدود مفهوم التقنية من منظور ماركس، فإنه يقسم المنظومة الاجتماعية إلى مقولتين: العمل والتفاعل.
ومن هذا المنطلق يعيب على ماركس اهتمامه فقط بالعمل والإنتاج داخل دائرة النشاط الأداتي، متجاهلا جانبا لا يقل أهمية عنه يقوم على التفاعل الإنساني كالنشاط التواصلي الذي يعتبر ذا دور كبير في لحم النسيج الاجتماعي أو ما يسمى في علم الاجتماع بالجمعنة أو الجتمعة (Sociabilité). فالفكرة الأساسية التي يحول هابرماس عرضها، أن ماركس يهلل تهليلا كبيرا لقيم العمل والإنتاج ودور التقنية في الرفع من ذلك، ويهمل جانبا لا يقل في نظر هابرماس أهمية عن ذلك: أهمية التواصل في العصر الحديث.
يفهم هابرماس العمل كـ''نشاط عقلاني موجـه لهدف وغاية''، وهو ينقسم بدوره إلى نوعين: فعل أداتي agir instrumental يخضع لقواعد تقانيةTechnicité، واختيار عقلاني choix rationnel ينتظم وفقا لاستراتيجيات قائمة على معرفة تحليلية.
أما المقولة الثانية التي يهملها ماركس وهي التفاعل interaction أو النشاط التواصلي كتفاعل اجتماعي، يتم بواسطة مجموعة من الرموز والقواعد الإجبارية التي يحدد ما يتوقعه طرف ما من سلوك الطرف الآخر؛ وتستمد هذه الرموز معانيها من اللغة الجارية، خزان التجارب أو روح الشعب كما يقول هيغل.
ونظرا لاختلال التوازن بين هذين المستويين بعد أن أطبقت التقنية على النشاط الاجتماعي والعالم المعيش، متخطية بذلك مجالها الطبيعي لتغرقهما في وحل آسن من الاغتراب والتشيؤ، الأمر الذي أدى إلى إصابة الوعي الإنساني من جرّاء ذلك بالخواء المعرفي والزيف الفكري... ) سنعود لاحقا لتبيان الأصول الفلسفية لمقولة التفاعل (.
وكخلاصة لذلك، يشخص هابرماس الحداثة الأوروبية على ضوء ماكس فيـبر بأنها عقلانية أداتية، ولقد لخص هذا الأخير المميزات والخصوصية الأوربية تحت مفهوم العقلنة والعقلانية التي تجلت في ازدياد الحسابية والبحث عن الربح والسيطرة المنظمة على كل الجوانب الحياة الإنسانية على أساس قواعد قللت من الاعتماد على القيم التقليدية المتوارثة.
فلقد بين ماكس فيبرWeber بالملموس وجود تفاعل متبادل بين الأخلاق الدينية البروتستانتية ونشأة الرأسمالية، وأرسى بذلك لأول مرة الأسس المادية للنظرية الرمزية التي تتناول روح التدين النسكي كنشاط مادي عند الرهبان وتأثيره في نشأة الرأسمالية والتطور الاقتصادي وظهور العقلنة.
وأضاف فيـبر إلى ماركس بأن الرأسمالية ليست فقط نتيجة لفعل التراكم المادي عن طريق قوى الإنتاج، بل أخذ أيضا محمل الجد دراسة التأثير المتبادل بين السلوك الديني بوصفه سلوكا اجتماعيا بامتياز يتفاعل فيه الرمز وتنشأ عنه قيم للتواصل في المجتمع إذا ما استبطن الإنسان إيمانه الديني بطريقة عقلانية وتمثله عقليا. ثم أخذ من ماركس التفسير المادي للظواهر الدينية كما تمارس في المجتمع وما تحبل به من قيم دنيوية، ولقد وقف ضد من حاولوا النيل من ماركس عندما ربطوا ميكانيكيا بين ولادة الرأسمالية وـ الأخلاق البروتستانتية ـ والدين المسيحي بطريقة ميكانيكية.
يعود هابرماس إلى فيبر ليحاول استنباط عقلانية تواصلية تظبط الممارسة الأداتية التي أضعفت أواصر العلاقات الاجتماعية. وهابرماس محق في محاولة البحث عن ما يظبط العقل الأداتي الوظيفي داخل حقله الطبيعي، و هو يرى أن المعيارية التي تتبلور صيغها في إطار العقلانية التواصلية هي الكفيلة بوأد الهوة السحيقة التي تفصل بين عالمنا والأنساق.
يرجع الاهتمام بالمعيارية في عالمنا المعاصر إلى تضارب المعتقدات، ناهيك عن اختلاف الملل والنحل داخل المجتمع الواحد بشكل يستحيل كما يرى هابرماس، فرض تطبيقات أو تأويلات وحيدة على جميع أفراد المجتمع في مجتمع الحداثة:<< لا تستطيع الحداثة أن تستعير المعايير التي تسترشد بها من عصر غابر، مثلما أنها لا ترغب في ذلك، فهي تكابد ملزمة لتستخرج معياريتها من ذاتها، ولا يمكن لها أن تعتمد إلا على نفسها>>[14].
إن تراجع دور المكونات التقليدية والعادات في شد أواصر المجتمع المعاصر وتماسكه، يخول للمعايير وظيفة الحفاظ على النسيج الاجتماعي متماسكا. فالمعايير بصفة عامة والقوانين بصفة خاصة مرشحة أكثر من غيرها اليوم أن تلعب هذا الدور لكبح جماح الأنساق والمنظومات الشبكية التي انفلتت من عقالها مهددة العالم برمته، ومن هنا الدعوات المتصاعدة في أرجاء العالم لوضع أنظمة معيارية تقنن التجارة العالمية وحماية البيئة والتحكيم بين الفرقاء المتصارعين... على نحو يكفل التوازن والسلم العالمي ويدعم التنمية... الخ.
لقد أصبحت إعادة النظر في المجال الأخلاقي والمجتمعي ضرورة قصوى بالنسبة لهابرماس، بعد أن فقد الدين والتقاليد والميتافيزيقا سلطتهم في توجيه حياة الإنسان كليا، وانحصروا في المجال الخاص بكل فرد، أو أصبحوا عرضة لاستعمالات مختلفة ولم يسلموا بدورهم من اللغط والإقصاء والعنف من طرف من يدعي امتلاك ناصية القول في تأويلهما وحده من دون سائر الآخرين.
فالمعايير صيغة ضرورية للتواصل الاجتماعي، والتواصل الاجتماعي في نظر نيكلاس لوهمان أحد أبرز رائدي المدرسة النسقية الوظيفية في علم الاجتماع الألماني المعاصر، عاملا يتيح حصر التعقيد Complexité)) والانشطار الذي يلف بالحياة الاجتماعية المعاصرة وطابعها العارض والمحتمل.
تنتج تعقيدات الفعل الاجتماعي من واقع أن الفاعلين في مجهوداتهم التنسيقية يجدون أنفسهم أمام ركام من الخيارات أكثر بكثير من تلك التي يمكن تحيينها، ويشير الطابع العارض (Contingent) إلى إمكانية الفعل الاجتماعي في أن يشق طريقا مغايرا عن التخطيط المبرمج له أو المسار الذي حدد له من قبل داخل الحدث الاجتماعي. فالتوازن هنا توازن متحرك وغير قار.
وللرفع من قدر الاحتمالية وعدم اليقين المسلط على الحياة الاجتماعية اليوم، يجب التخلي عن دراسة المجتمع بصفة كلية أو ماكرواجتماعية، والتحول عنها إلى دراسة السلوكات الحية والمتبادلة بين الفاعلين والاقتصار على الحركة الميكرواجتماعية.
يعني ذلك اختيار التركيز على التفاعل التواصلي باعتباره سلوك التبادل الاجتماعي المعاصر بامتياز، فـالتواصل أصبح يلعب دورا كبيرا في حياتنا اليومية، وهو من ناحية وظيفية يقوم على رصد ماهو مستقر وثابت في تطلعات الناس ويمكن رصده من زاويتين:
- فسواء يقوم بتأسيس تطلع ذهني(Attente Cognitive) عقلاني، يقدم جملة مفاهيم ومعرفة تحليلية للواقع تصبح عملية اكتسابها وتلقينها متيسرة بالتعليم والتربية، أو يُجبر الفاعل في حالة فشله في التأقلم مع الوضع الجديد الذي لم يخطر على ذهنه بتركها وعدم تلقينها أو تعلمها.
- أو سواء ينجح في تأسيس تطلع معياري((Attente normative تصبح المعايير آنذاك صيغا لانتقاء السلوكيات وتقنينها وظبطها بغرض الحد من الاحتمالية والتعقيد اللذان يطبعان العالم المعاصر، إلاّّ أن التطلعات المعيارية في مجملها تطلعات عكسواقعية[15] (Contre Factuelles) إجبارية لا تهتم بما هو كائن وإنما بما يجب أن يكون.
لكن ذلك لا يكفي للحد من الاحتمالية والتعقيد الذي يطبع عالم التواصل، ما لم يتم التنسيق بين التطلعات المعيارية والذهنية في مستويات عليا، خشية أن نجد أنفسنا في حالة فوضى عارمة لا يمكن تسييرها. لذا تتشكل الأنساق من طرف مستوى ثان من الانتقاء، فتكرارالعمليات الانتقائية على نفسها وعلى عناصرها يجلب تمايزا في صيغ التواصل، والتمايز هنا صيغ من صيغ التغيير الاجتماعي. ولذلك تظهر أنساق عديدة ( الدولة، النقود، المعايير ومنها القانون)، وهنا نجد مفتاح تمايز المجالات المعيارية التي لم يفهمها علم الاجتماع الكلاسيكي ( دوركهايم، ماركس، جيرفيش…الخ) إلا كمعطيات ثابتة، والتي أصبحت اليوم تعرف عملية دينامكية وغير مستقرة في البناء.
يتكون النسق من التفاعل القائم بين الفاعلين، وإذا ما استقر على إشباع حاجيات الطرفين فسيكون مدعاة لتكراره ورسوخه وينتظر كل منهم استجابة معينة من بعضهم البعض، بحيث أن استمراريته يولد معايير اجتماعية متفق عليها. وكمثال على ذلك علاقة الإنسان بعمله، فما دام يذهب إلى العمل كل صباح سينتظر من رب العمل أجرته في نهاية الشهر. وما دام كلا الطرفين راضيين بذلك سيتكرر الذهاب كل يوم وستتكرر منحة الأجرة كل شهر، وعلى غرار هاته العملية تتطور القواعد والسلوكيات التي تحكم العلاقة بينهما كما أعراف العمل وقوانينه حتى تتبلور في مؤسسات اجتماعية، تحكم كل منها معايير وقيم ثابتة.
وعلى هذا المنوال، تنغلق الأنساق التي تتشكل بهذه الطريقة على نفسها بتمايزها عن محيطها، ومن المؤكد أنها تعرف شيئا ما عنه، لكن فقط بلغتها الخاصة ومصطلحاتها. وهذا ما يجعلها منفتحة، فهي تقوم ببناء قاموسها الخاص بالمحيط عن طريق انتقاء المعطيات المفيدة لحساب إعادة إنتاجها.
وبعد هذا الرصد، يتعين فهم المجتمع المعاصر بحسب هابرماس كتزاوج لصيغتين من الاندماج الاجتماعي: النسق من جهة والعالم المعيشي من جهة أخرى.إذ قامت فكرة "العالم المعيشي" كما حددتها الفلسفة الظاهراتية على مقارنة إدموند هيسرل (Husserl) بين نوعين من الحقائق وبين نوعين من العوالم[16]:
فهناك حقائق العالم المعيش وهناك أيضا حقائق العلوم الموضوعية، فحقائق العالم المعيش حقائق تاريخية وذات علاقة بتجارب وتراكم خبرات مقرونة بسياقات ثقافية معينة، أما حقائق العلوم الموضوعية فهي كونية – غير ثقافية – ولا تتعلق بمحيط ثقافي ما، بل أن مسلماتها قابلة للتطبيق في كل مكان. بمعنى أن فكرة العالم المعيش تعني عالم الوجود مثلما يحياه الإنسان يوميا في محيط اجتماعي مقرون بسياق اقتصادي وثقافي، فهو عالم التجربة الآنية كما يعيشه الإنسان وهو عالم يتعلق بالإنسان وبيئته الثقافية والجمعية.
ويلاحظ هيسرل في كتابه "أزمة الثقافة الأوروبية والفينومينولوجيا المتعالية": إن من بين الأشياء الخاصة بالعالم المعيشي، نجد أيضا المخلوقات البشرية بكل أفعالها الإنسانية واهتماماتها وأعمالها وآلامها، منخرطة في حياة مشتركة من خلال علاقات اجتماعية معينة، ومن خلال معرفة ذواتها بأن تكون كما هي"[17]. إنه عالم سطحي خال من الرؤية النظرية، أما بالنسبة لهابرماس، فالفرق بين النسق والتفاعل ليس تحليليا فقط، ومن ناحية ابستمولوجية يمكن فهم أي فعل اجتماعي من زاويتين: تشير أولاها إلى الفعل كتفاعل أو كعنصر من نسق ما، فالتفاعل يتم من وجهة نظر المتفاعلين إذا ما أثبتت أقوالهم صلاحية يكمن ورائها حدسهم المعياري، أما الثانية تشير إلى وجهة نظر ـ رؤية خارجية ـ الملاحظ المختص الذي يضع الفعل في دائرة الأفعال الاجتماعية ككل، ويرصد الأسباب أو النتائج التي قد تغيب عن الفاعلين أنفسهم.
ويقدم هابرماس رؤية لفهم العالم المعاصر من خلال التعريف الجديد الذي يراه منشطرا إلى عالمين: الأول يخص العالم المعيش الذي تقوم بنياته على اللغة والتواصل والثاني يخص عالم الأنساق الذي يخضع بالأساس للعقلنة الحسابية التي تتميز بالوظيفية والأداتية والفعالية.
وهذه الفجوة تقسمه إلى شطرين: عالم الأنساق والعالم المعيشي. فاللغة تلعب دور التواصل في العالم المعيشي، والنسق مجال العقلنة الحسابية والأداتية المحيطة به. فاللغة كالأرض تشخيص لمأوى الوجود وعلى الرغم من أنها كانت دائما وسيطا رمزيا(Medium)[18] بامتياز، لا يمكنها التنسيق بين جميع الأفعال الإنسانية. لذلك حلت محلها الأنساق في العديد من مناحي الحياة.
وإذا كان التاريخ المعاصر يشهد إعادة انتشار اللغة كتواصل بوصفها خزانة البشرية التي لا تنضب، يمكن القول أن هذه العقلانية الثقافية تعتمد وسيطا ضعيفا. فالفعل التواصلي الذي يقوم اليوم مقام الأدوار التي قامت بها التقاليد البارحة، غير مؤهل بما فيه الكفاية للقيام بالتنسيق بين جل الأفعال في الواقع المادي للمجتمع. لذلك تلجأ المجتمعات إلى وسائط النقود والسلطة التي تمكن الاقتصاد والدولة ـ كأنساق اجتماعية ـ أن تحقق استقلاليتها عن العالم المعيش. وما يعرف اليوم عن هذه الأنساق أنها ذو نزعة توسعية ومهيمنة ترغب في احتلال كل جوانب العالم المعيش والسيطرة عليه، مما يسبب أضرارا نفسية واجتماعية لا يستهان بها ويطرح على المستوى السياسي أزمة الشرعية.
وأول الأنساق التي تلعب دورا هاما في حياتنا المعاصرة السلطة التي تعتبر مؤسسة نظام الدولة، والنقود التي أسست بدورها نظام السوق. يرى هابرماس بأن هذه الأنساق تمتاز بدينامكية انغلاق على نفسها لكل منها عالمها الخاص: فالسلطة تحدد شروط ممارستها، والنقود تحدد قيم العملة (سوق الصرف، نسبة الفائدة) بطريقة محض ذاتية. وأوضح مثل على ذلك ما تلعبه النقود من دور (فهي كأوراق لا قيمة لها، لكنها تكتسب قيمتها بفضل اعتمادها كآلية للشراء والبيع) وكل نسق له رموزه: فالاقتصاد يتعامل بالعملة والنسق السياسي بالقوة …الخ. فالمعنى لا يوجد قبل النسق ولا يسبق مجال الفعل، فهو ينشأ في الواقع عن طريق ما يختاره له النسق من دلالة.
يضيف هابرماس بأن معيارية الأنساق مغلقة وغالبا ما تستعمل رموزا مزدوجة ومصطلحات تُحدِّدُ بها من ينتمي للنسق وَمن لا ينتمي إليه. فنسقية القانون مثلا تمر عبر رمز مزدوج: قانوني/غير قانوني (وماعدا ذلك فهو خارج عن النسق وغير معترفا به).
لذا تعتبر الأنساق قادرة من تلقاء نفسها على ضمان بقاءها الذاتي، ويُجمل تالكوت بارسونز (Parsons) رائد علم الاجتماع الوظيفي أربع شروط لذلك: التكيف مع البيئة، توفير التكامل ما بين عناصرها، المحافظة على المنظومة التي تدور في فلكها، تحقيق الإشباع والأهداف المرسومة.
وما نستخلص من هذه الرؤية الجديدة أن عملية تحليل المجتمع كظواهر كلية ( من ابن خلدون إلى بارسونز) لم تعد لها من قيمة تذكر. فمن الوهم الاعتقاد اليوم بأننا سننفلت من قبضة البناء النسقي أو التكهن بالوصول إلى فهم معاني الواقع بطريقة كاملة ومطلقة، لأن عملية الفهم ذاتها تحتاج إلى خبرة يفتقدها الكثيرون. وهي عملية معقدة بعيدة عن ما يحياه ويعيشه الفاعلون.
ومن ناحية ثانية ليست الكليات Totalités في هذا المجال كائنات عضوية ذات مقومات جوهرية لكنها تأملية ووظيفية، والتأملية هنا مجرد تتميم اختياري للأنساق لضمان بقائها، كما أن المنطق العقلي داخلها أصبح وظيفيا وأداتيا.
فمن وجهة نظر الفاعل تحدد وسائل النسق دائما وأبدا توجهات[19] الفعل وأهدافه، وليس من الغريب أن يؤدي ذلك إلى إفراغ المعاني من محتواها، بعدما سيطر النسق على العالم المعيش واستفرد به كليا، وأصبح التفاعل يرزخ تحت متطلبات السوق والبيروقراطية.
ويؤكد لوهمان رائد المدرسة النسقية في علم الاجتماع أن المعايير اليوم لا تستقر إلاّ إذا كانت لصلاحيتها وظيفة مصاحبة لها، يعني ذلك أن المعايير موضوعة من طرف منظومات حتمية تحدد لها وظيفتها بشكل غائي، سواء صدرت عن المشرع أو المنظومات النسقية. فوجودها رهين بتلك الوظيفة، وإذا لم تستجيب بالقدر الكافي لها تلقى في سلة المهملات كأنها لم تكن يوما.
أخذ هابرماس فكرة النسق من صديقه نيكلاس لوهمان (1999 -1927) الذي ربطهما نقاش وجدل استمر حوالي عشرين سنة. فنظرية الأنساق نظرية اجتماعية تمتح أسسها من أعمال ماكس فيبر الذي حاول استقراء مكامن العقلنة في عالمنا الحديث، ووظيفية تالكوت بارسونز الذي حاول دراسة مجالات الفعل الأنساني مقرونة بما تؤديه من أدوار ووظائف.
تظطلع فكرة النسق الاجتماعي بمجالات الفعل الإنساني وقيمه التي تعقلنت لتصبح بنيات مستقلة بذاتها وعلى درجة من التعقيد، إذ لا تخضع إلا لأوامرها التي تعمل على تكريس ديمومتها. وتتمظهر هذه المجالات النسقية المستقلة ذاتيا في القانون والاقتصاد والسياسة، وإن كان نيكلاس لوهمان رائد علم الاجتماع النسقي الوظيفي يوسع من إمكانيات نظريته لتشمل: الفن والسلوكات والموضة والمعمار.
يلاحظ لوهمان في هذا الصدد فراغ المعايير من أي جوهر، فهي أكثر تقنية وشديدة التعقيد لا يفهم مصطلحاتها وحيلها إلا المختصون، تعتمد مساطير بيروقراطية تبرر صلاحيتها. وهذا ما يعني التشكيك كليا في أي تعريف لمعانيها بصفة عضوية وجوهرية أو بصفة قارة ودائمة، فلا معنى للمعايير خارج مدار الاستعمال الوظيفي والسياق الظرفي، كما هو عليه الآن الأمر في أغلب المجتمعات الحداثية.
يرى يورغن هابرماس أن الحد من ذلك والخروج من الأزمة الراهنة يتطلب تقنين العولمة لضبط انشطار الحياة الاجتماعية والانفصام المتزايد بين عالمنا المعيشي والأنساق، ووحدها المعايير القانونية من باستطاعتها أن تسد الفجوة بينهما ولجم عنان الأنساق( السوق، البيروقراطية، التكنوقراطية،..)، لكونها الوحيدة القادرة على إدراج الأنساق في الحياة المعيشية والحفاظ على لحمة المجتمع وإعادة التوازن بينهما.
فالمؤسسة القانونية جد ملتصقة بالحياة اليومية للمواطنين أكثر من مؤسسة أخرى والمؤهلة لضبط الموازين وللتعويض عن هذا الخلل في عالمنا المعيش. لذلك يجب أن يلتجئ الفاعلون إليها كإجراء يوفر عنهم توافق غير ممكن ويكفيهم شر القتال بينهم. فدور القانون في عالمنا المعاصر يجب أن يكون شبيها بالدور الذي قامت به التقاليد والأديان* في الماضي بعد أن أصبح المعتقد حبيس الشأن الخاص لكل إنسان داخل المجتمع الواحد، ناهيك عن اختلاف الملل والنحل وتضارب أو تنافر القيم الأخلاقية بين الأفراد بشكل يستحيل فرض تأويل وحيد لها على الجميع من دون المساس بحقوق الفرد وحريته.
نفهم بما تقدم أن القانون مدعو إلى أن يلعب في نظرية هابرماس دور "المُحول"، فهو يحول المتطلبات المعيارية للفعل التواصلي إلى سلطة إجبارية لمجموع المجتمع وأنساقه الصناعية والمالية والمصرفية والشبكية، يحتكم إليه الفرد ضد الدولة والدولة ضد الفرد. ووحدها المؤسسة القانونية من يتيح وصلا كافيا بين الأنساق وحياتنا اليومية، لأنها تعبر عن الضرورات التي يصيغها الإنسان في خطابه العادي وتطلعاته اليومية إلى لغة تفهمها الأنساق وتنضبط لها.
وتبعا لذلك يُغير القانون هنا من دلالته المعتادة، فمن مجرد أداة للتقنين وضبط العلاقات بين الأفراد وتنظيم مختلف السلطات كما ساد منذ مدة طويلة. يصبح الوسيلة الجديدة التي يعبر بها المجتمع عن فهمه لنفسه وإرادته المستقلة، وبهذا المعنى يتغير مفهوم المواطن من مجرد كائن يخضع لسلطة وينتفع بحقوق في ظلها بالمعنى الليبرالي للكلمة، ليتعرف على نفسه من الآن فصاعدا كذات واعية تشارك في السيرورة التي يفكر من خلالها المجتمع ويقرر لنفسه.
مرد هذا الاحتفال بالمعيارية وإخضاع العالم المعيش والأنساق لديموقراطية تداولية تُخول للفرد وأعضاء الجماعة من المشاركة مناصفة ومن دون ترك أحد على قارعة الطريق، أن المجتمعات الديموقراطية لم تحقق إلا النزر اليسير وبطريقة ناقصة الإمكانات والطاقات الديموقراطية التي يحبل بها القانون الحديث كما اكتشفه روسو.
فشكل الديموقراطية التمثيلية للسلطة السياسية انقلب إلى ترويض للطاقات الديموقراطية وكبح عموم الشعب لصالح نخبة سياسية أوليغارشية. ولقد تعزز ذلك بمقدم دولة العناية الاجتماعية:"Etat-Providence"، عندما تم وضع إواليات وميكانيزمات الضمان الاجتماعي الذي احتكرت الدولة أبوته، والأحزاب السياسية المجال السياسي، مما شجع على انغماس الأفراد في حياتهم الشخصية وعزوفهم المتزايد عن المجال العام وأمور السياسة.
فلقد رفضت الدولة طويلا أن يمارس المجتمع المدني السياسة، وإذا بدا اليوم أن العديد من المؤشرات تؤكد أن هذه الوضعية في طريقها للزوال، فالعداء المتصاعد لاحتكار النخب التكنوقراطية والمحترفين للسياسة وتوسع الممارسات الديموقراطية في مجالات جديدة، كما الصعوبات التي تعاني منها الديموقراطية والدور المتصاعد لأنوية المجتمع المدني وتصاعد حس المواطنة بفعل الظروف الاجتماعية الحديثة، يشير إلى إرادة المواطنين للانفلات من البديل الخاطىْ الذي يريد حصرهم بين أسوار ديموقراطية "تمثيلية"، كشفت بالملموس عن محدوديتها وديموقراطية "مباشرة" أصبحت مستحيلة التطبيق.
يحاول هابرماس تقديم رؤية موسوعية تركيبية محورها الفلسفة، علم الاجت
مواضيع مماثلة
» هابرماس ومسالة التقنية سالم يافوت
» التواصل والانظمة الرمزية
» التواصل والأنظمة الرمزية
» الصورة في سيميولوجيا التواصل
» آليات التواصل الإشهاري وبناء الفضاء العمومي
» التواصل والانظمة الرمزية
» التواصل والأنظمة الرمزية
» الصورة في سيميولوجيا التواصل
» آليات التواصل الإشهاري وبناء الفضاء العمومي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem
» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني
» لست أدري! لست أدري!
27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني
» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني
» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني
» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني