بحـث
المواضيع الأخيرة
القدرة على بناء مقدمة لمقال فلسفي
صفحة 1 من اصل 1
القدرة على بناء مقدمة لمقال فلسفي
القدرة على بناء مقدمة لمقال فلسفي.
التعريف:
يتطلب بناء مقدمة لمقال فلسفي وتحريرها تمثلا لوظائفها نذكر منها بالخصوص :
- إبراز دواعي طرح المشكل الفلسفي الذي يتعلق به الموضوع مثل رصد تناقض ، أو رصد مفارقة أو مساءلة رأي شائع ، وهذا ما يمثل على وجه التحديد وظيفة "التمهيد".
- صياغة الإشكالية صياغة تساؤلية متدرجة تتمحور حول نواة الإحراج الأساسية التي يحيل إليها نص الموضوع وتكون هذه الصياغة متدرجة توحي بمسار التفكير في الموضوع المطروح دون أن تكشف مسبقا عن الحل الذي يتجه إليه التفكير والمقدمة برغم كونها تتقدم المقال فإن تحريرها لا يكون إلاّ في نهاية "عمل تحضيري " يمكن من إضاءة الموضوع في مختلف أبعاده .
ونقترح في هذا المقام عرضا موجزا لمهام " العمل التحضيري " الذي يسبق ويشرط منطقيا تحرير المقدمة وذلك اختلافيا حسب نوعية الموضوع المطروح : موضوع في صيغة سؤال ، أو موضوع يتعلق بتحليل نص
1- العمل التحضيري الخاص بالموضوع الإنشائي :
أ ) تحديد دلالة الموضوع من خلال تحديد سياقي للمفاهيم الواردة فيه ( لمزيد من التفاصيل انظر المهمة المتعلقة " بالانتقال من الكلمة إلى المفهوم " ).
ب ) دراسة المجال ( أو المجالات ) التي يتعلق بها الموضوع .
ج ) الكشف عن المسلمات الضمنية لصيغة الموضوع والنظر في تبعاتها.
د ) استحضار المادة المعرفية التي تقتضيها معالجة الموضوع استحضارا وظيفيا.
ه ) صياغة الإشكالية التي يحيل إليها التفكير في نص الموضوع وتعيين رهان التفكير فيها.
و ) استخلاص تصميم عام للمقال يكون متمفصلا حسب تدرج متماسك .
2 - عناصر العمل التحضيري بالنسبة للموضوع المتعلق بتحليل نص فلسفي :
أ ) رصد المفاهيم الفلسفية الواردة في النص و إعادة بناء الشبكة المفهومية مع الالتزام بسياق النص التزاما
صارما.
ب ) دراسة تحليلية مفصلة للوحدات المنطقية لمسار الحجاج في النص .
ج ) استخلاص الأطروحة الأساسية التي يدعمها الكاتب في النص وتعيين مرمى الدحض الذي يقوم به الكاتب ( الأطروحة المقابلة مثلا ) عند الاقتضاء.
د ) استخراج المسلمات الضمنية ( أو الصريحة ) التي يفترضها موقف الكاتب في النص . النظر في تبعات أطروحة الكاتب ( تبعات نظرية - تبعات عملية...)، الأمر الذي يساعد على عملية التفطن إلى رهان التفكير في المسألة التي يتعلق بها النص .
ه ) تقويم النص من خلال :
- الكشف عن مكاسبه الفلّسفية وتثمينها.
- محاورة نقدية للنص ( لمزيد من التفاصيل انظر مهمة " القدرة على التقويم ".
و ) صياغة الإشكالية صياغة مركزة حول نواة الإحراج الأساسية التي يحيل إليها النص . يحرص على أن تكون هذه الصياغة متدرجة ومتضمنة لأسئلة تحيل إلى النص تحليلا وتقويما .
ز ) استخلاص تصميم عام للمقال تكون عناصره متدرجة و متمفصلة منطقيا.
الهدف:
أن يصبح المتعلم قادرا على :
- بناء مقدمة وجيهة فلسفيا.
- تفادي مزالق من قبيل صياغة إشكالية لا تتلائم مع المطلوب في صيغة الموضوع ، أو تقديم مقال مبتور (بدون مقدمة حقيقية) أو السقوط في عرض سلسلة من الأسئلة لا رابط منطقي بينها.
التطبيق:
في ما يلي عينة أولى عن كيفية صياغة مقدمة لموضوع إنشائي استنادا إلى عمل تحضيري سابق لها زمنيا ومنطقيا :
الموضوع المقترح: على أي معنى يجب أن تحمل عبارة " واقع " حتى يصدق القول: " لا ينطلق العلم من
الواقع بل يذهب إليه " ؟
العمل التحضيري:
1 - رصد دلالة الموضوع من خلال الوقوف على دلالة الأطروحة المتضمنة فيه ، ثم تحديد المطلوب في السؤال المرافق لها:
- بخصوص دلالة السؤال الموجه فإن ما يشد الانتباه هو الصيغة : - " على أي معنى... " التي تفيد تعددا فعليا لمعنى عبارة " واقع " مما يستوجب تحديد معنى الواقع الذي يلائم سياق القول الوارد في الموضوع ، كما أن عبارة : " حتى يستقيم القول "... تشد بدورها الانتباه إذ يظهر في هذا ما يفيد أنه بدون معنى محدد لعبارة "واقع " يفقد هذا القول وجاهته أو ينقلب إلى نوع من التناقض .
- أما بخصوص الأطروحة ذاتها فإن أول ما يشدّ الانتباه فيها هو كلمة " العلم " التي وان وردت في صيغة معرّفة بالألف و اللام، فإنها لا تفيد العلم بإطلاق بل العلم الحديث وتحديدا العلوم التي لها صلة " بالواقع " كعلوم الطبيعة أو علوم الإنسان دون العلوم الصورية التي لا ارتباط لها " بالواقع ".
ثم إن كلمة " واقع "، التي يفترض السؤال أن لها عدة دلالات - الأمر الذي يقتضي ضبط الدلالة المفيدة والمناسبة للسياق دون سواها - فإنها تستوجب التمييز بين الواقع المعطى مباشرة في الإدراك الحسي أي الواقع كما تتمثلّه النظرة الواقعية الساذجة أو كما تفترضه بعض المواقف الفلسفية مثل الأمبريقية من جهة و من جهة أخرى الواقع العلمي أو الموضوع العلمي وهو موضوع مبني متولد عن تمشّ علمي قائم على عدّة إجراءات تتمثل في عزل الظاهرة وتنقيتها عن الشوائب غير المفيدة وتكميمها و إعادة بنائها وفق شبكة من المفاهيم العلمية التي تسمح بتحويل الظّاهرة إلى علاقة منتظمة قابلة للتكرار وفق عبارة الابستيمولوجي ج .أولمو و صياغتها صياغة رياضية في قالب قانون علمي .
وتبعا لما ذكرنا ندرك أن القول لا يستقيم معناه إلا باعتبار أن " الواقع " الذي يسعى العلم إلى الكشف عنه ليس منطلقا بل هو مطلب ، إنه اللا مرئي الذي يجعل المرئي مفهوما.
2 - رصد مجالات الموضوع التي تكون فيها لعبارة " الواقع " دلالة مفيدة ووجيهة:
بين أن الأمر يتعلق بعلوم الطبيعة وعلوم الإنسان دون العلوم الصورية بحكم عدم انشغال العقل في العلوم الصورية بالوقائع وحرصه فقط على ضمان الانسجام المنطقي لاستدلالاته داخل منظومة معينة. وتوضيحا لذلك لننظر كيف يبنى الواقع أو الموضوع العلمي في الفيزياء مثلا :
يمكن هنا إستحضار دراسة تورتشلّي و باسكال لظاهرة الضغط الجوي : يتعلق الأمر بالكشف عن علاقة تتمثل في التناسب العكسي بين كثافة السائل ودرجة ارتفاعه في الأنبوب المخبري بعد إحداث الخلاء فيه . وتتمثل عبقرية تورتشلّي في أنه تخيل أنبوبا لا مرئيا يحتوي على الهواء الذي يتوازن مع كميّة الماء أو الزئبق في الأنبوب ( المخبري ). فهذا " الانبرب الهوائي " ليس مرئيا بل هو مفترض و أيّدت التجربة وجوده ، إذ توقف الزئبق في ارتفاع دون ارتفاع الماء بنسبة هي نسبة كثافة الزئبق لكثافة الماء.
إن كمية الماء التي تتوازن مع الهواء ترتفع إلى مستوى 10.33 م في حين أن كمية الزئبق التي تتوازن مع الهواء ترتفع إلى مستوى 76 صم فقط ويرجع الفارق في درجة الارتفاع هذه إلى أن الزئبق أكثر كثافة من الماء بمقدار هو نفس المقدار الموجود في الفارق بنسبة هي نفسها نسبة ارتفاع الماء لارتفاع الزئبق .
وبخصوص علوم الإنسان يمكن استحضار مثال يهم بناء العقل العلمي لموضوعاته : يتجلى ذلك بوضوح مثلا عند فرويد في إنشائه لمفهوم " اللاوعي " في تفسيره للوقائع النفسية أو في دراسة ك .لفي ستراوس لبنية نظام القرابة ضمن مؤلفه : " البنى الأولية للقرابة ".
3- الكشف عن المسلمات الضمنية للقول وبيان تبعاته:
أ- المسلمات الضمنية:
- يفترض القول تعدد دلالات عبارة " واقع "، منبها إلى أن الواقع الذي يعتقد عادة أن العلم ينطلق منه ليس ما يعتبره التصور الامبريقي واقعا، فهذا الواقع الامبريقي ليس سوى وهم وسقوط في المعرفة الظنية. إن الواقع الذي يسعى العلم إلى الكشف عنه ليس واقعا معطى وجاهزا بل يستوجب الكشف عنه جملة إجراءات تتمثل في ما تلمح إليه العبارة المجازية "يذهب إليه ".
- إن التقابل بين " الانطلاق " ... و " الذهاب إلى ..." يفيد ضمنيا تسليما بقطيعة بين معرفتين مختلفتين إحداهما تنطلق مما تتوهم أنه الواقع ، ألا وهو الواقع المدرك حسيا.
- وهذه هي المعرفة الظنية - والأخرى تذهب نحو الواقع فهي تنشئه وتبنيه ، بحيث تكشف عن نظامه المتخفي وهذا شأن المعرفة العلمية.
- كما تفترض صيغة الموضوع أن الواقع معقد لذلك استوجب " الذهاب نحوه " ومعاودة الذهاب ، بحيث لا تكون نظرياتنا إلا مقاربات : فالعلم يذهب إلى الواقع ولا يصل إليه .
ب - التبعات:
يترتب عن الأطروحة الواردة في صيغة الموضوع جملة من التبعات أهمّها:
- أن الواقع العلمي واقع اصطناعي مبني لا واقع خام .
- أن النظريات العلمية نظريات نسبية بحاجة لأن تعدّل وتصحّح باستمرار.
- أن للعلم وظيفة تحريرية تتمثل في تحرير الإنسان من الأوهام وفي جعله يفهم آلية تشكّل الوهم نفسه ( مثلا : وهم مركزية الأرض ، وهم ثبات الأنواع الحية، الوهم الإيديولوجي الخ )
- أن للعلم مزاعم أنطولوجية، مادام يطمح فيما وراء الوهم أو الظن إلى الكشف عن حقيقة الواقع .
- ما يبدو الأكثر بعدا عن الواقع العيني أي النظريّة العلمية المجردة هو الأكثر واقعية وعينية.
4 - استحضار المرجعيات العلمية و الفلسفية التي يمكن توظيفها في مقاربة المشكل الذي يطرحه
الموضوع:
أ- بخصوص تحليل الأطروحة :
عندما يتعلق الأمر بتوضيح معنى القول "بالانطلاق من الواقع " يمكن استحضار أفق المنظور الواقعي الساذج والمنظور الامبريقي الذي يختزل الواقع في وجهه المدرك حسيا، وهذا ما نجد صداه في الفيزياء الأرسطية التي مثّلت تنظيرا يجد سنده في تصور للواقع هو" التصور الذي توحي به التجربة الحسية في بعدها الكيفي و النفعي .
وفي مقابل ذلك يبرز أفق المقاربة الابستمولوجية الباشلارية لتحليل مفهوم " الواقع العلمي " وهو منظور يقوم على تمثل للواقع بما هو منشأ ومبني مفهوميا ورياضيا وتقنيا، وليس بما هو الواقع المدرك حسيا مما يستلزم تحليلا نفسيا للمعرفة العلمية يرصد " العوائق الإبستمولوجية ويقطع معها كشرط ضروري لإنتاج خطاب علمي .
وفي درجة ثانية من الواقعية نجد أنه داخل العلم الكلاسيكي النيوطوني كان العلماء يتصورون أن الكشف عن البنية الواقعية يجبر الواقع على أن يبوح بسره ، في حين وقع العدول عن هذا التصور في الفيزياء الكوانطية حيث ، أصبح مفهوم الواقع غير قابل للفصل عن النموذج التفسيري المعتمد في كشفه .
ب - بخصوص تقويم الأطروحة :
ما يمكن تثمينه في الأطروحة :
- تثمين مفهوم " الواقع العلمي " وما يمثله من تخليص للإنسان من أوهامه وظنونه المتولدة عن اختزاله للواقع العيني في الواقع الحسي ، وما يمثله كل ذلك من مشروع معقولية يراهن فيها العقل ضد كل ظلامية على إمكانية إقحام كل واقع في لعبة الحقيقة والخطأ بغاية الكشف عن المعقولية المتخفية لتلك الظاهرة، واستبعاد اللامعقول .
- يفترض هذا الموقف من الواقع العلمي دورا نشيطا للعقل في بناء موضوعاته من خلال ابتكاره لنماذج تفسيرية، وتصحيحها في ضوء ما يقوم به من تحقيق تجريبي ، مما يستوجب إعتبار مفاهيم العمل و مبادئه منفتحة وقابلة بصورة مستمرة للتعديل وإعادة الصهر.
إذا كان العلم فعالا في استبعاد الأوهام و الظنون فلا ينبغي أن يصبح هو بدوره مصدر أوهام كأن يزعم أنه يستوفي لوحده كل جوانب العقل البشري ، فالمعقولية لا يمكن أن تختزل في المعقولية العلمية بل كل الأنشطة البشرية على اختلافها لها معقوليتها الخاصة، لذلك أمكن الحديث اليوم عن معقولية تقنية ومعقولية أخلاقية، الخ.
المحاورة النقديّّة للأطروحة :
وذلك عبر مراجعة المزاعم الانطولوجية للقول العلمي : يمكن في هذا الصدد الاستفادة من مقال لبول ريكور وارد في الموسوعة العالمية Encyclopedia Universalis تحت عنوان " الأنطولوجيا " خاصة في ما يتصل بتمييزه بين مستويات من " الواقع " كما يمكن الرجوع إلى كتاب " المصادفة و الضرورة " لجاك مونو وذلك خاصة لإبراز تبعات " مبدأ الموضوعية " في العلم على علاقة الإنسان المعيشة بالعالم والمتمثلة في انهيار " الحلف الإحيائي " القديم مع الطبيعة وما خلّفه ذلك من " انتهاء افتتان الإنسان بالعالم " وشعور الإنسان بالقلق و الضياع . يمكن التعمق نقديا كذلك في هذه التبعات بالرجوع إلى كتاب :" التحالف الجديد " لإليا بريغوجين و إيزبال ستانغارس .
صياغة الإشكاليّة وإبراز رهان ا لتفكير فيها :
الإشكالية: ما هو مرجع الخطاب العلمي ؟ هل هو الواقع المعطى في الإدراك الحسي المباشر أم هو واقع مبني
من صنع العقل العلمي وإجراءاته النظريّة والتقنيّة ؟ وأية قيمة ابستمولوجية و انطولوجية يكتسيها
تثوير العلم الحديث لنظرتنا للواقع ؟
الرّهان: إن ما هو في ميزان التفكير هنا إنما هو طبيعة مرجع الخطاب العلمي ومدى قيمة المزاعم الأنطولوجية
لهذا الخطاب ، ومدى أحقيته تبعا لذلك باحتكار مطلب الحقيقة وانعكاس ذلك آخر المطاف على علاقة
الإنسان بالعالم .
في ضوء هذه العناصر التي يكشف عنها " العمل التحضيري " يمكن التقدّم بهذا المقترح حول كيفية بناء مقدمة للمقال المتعلّق بالموضوع المذكور.
المقترح الأول :
تكفي معاينة بعض الأشرطة الوثائقيّة التلفزية المتعلقة بتبسيط بعض النظريات العلمية، مثل تلك المتعلقة بالبنية الميكروفيزيائية للذرة، أو بتركيبة الخلية الحية أو بكيفية اشتغال النظام الغددي أو البرنامج الوراثي الخ ... ليكتشف الإنسان العامي عالما غريبا عن عالم ادراكاته الحسية المعهودة، وتزيد اللّغة المفهوميّة والرمزية للعلم في تعقيد الأمور عليه إلى حد يجعله يشعر بالهوة السحيقة الّتي أصبحت تفصل " المدينة العلمية " عن " المدينة الاجتماعية ".
ويعبر أحد الابستمولوجيين عن هذا الشعور المفارقي بقوله : " لا ينطلق العلم من الواقع بل يذهب إليه ." فما هو مرجع الخطاب العلمي ؟ هل هو الواقع المعطى في الإدراك الحسي المباشر أم هو واقع مبني من صنع العقل العلمي وإجراءاته النظريّة والتقنية ؟
وأية قيمة ابستمولوجية و انطولوجية يكتسبها تثوير العلم الحديث لنظرتنا للواقع ؟
إن ما هو في ميزان التفكير هنا إنما هو طبيعة مرجع الخطاب العلمي ومدى قيمه المزاعم الانطولوجية لهذا الخطاب ، ومدى أحقيته تبعا لذلك باحتكار مطلب الحقيقة وانعكاسات ذلك آخر المطاف على علاقة الإنسان بالعالم .
المقترح الثاني :
ساد الاعتقاد لدى علماء الفيزياء الكلاسيكية أن العقل قادر على السيطرة على الواقع الأمر الّذي يكشف عن تطابق تام بين العقل والواقع . إلاّ أن الأزمة الّتي شهدها النموذج الفيزيائي الكلاسيكي في نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن جعلت مراجعة هذا التصور أمرا ضروريا.
فالواقع الذي يحيل إليه الخطاب العلمي لم يعد ذلك الواقع الموضوعي الذي له كيان مستقل عن الذات كما اعتقد العلماء الكلاسيكيون بل هو واقع يفترض نموذجا تفسيريا في بناء العقل العلمي وإنشائه . عن هذا التحول يعبّر بعضهم قائلا : " لا ينطلق العلم من الواقع بل يذهب ، إليه
هذه الوضعية الجديدة تفرض إشكالا يمكن صياغته على النحو التالي:
إذا كان من البديهي أن العلم يعتبر الواقع الحسّي عائقا ابستيمولوجيا وأن " الأبعد عن الواقع " في الظاهر هو الأكثر واقعية، و إذا كان هناك اتفاق بخصوص الطابع المبني للواقع العلمي فان هذا الاتفاق يصبح إشكاليا عندما نسعى إلى تحديد طبيعة مرجع الخطاب العلمي :
فهل أن إحداث قطيعة ابستمولوجية مع الواقع المعطى في ، الإدراك الحسي يسمح بأن نمسك بالواقع ذاته كواقع أنطولوجي أم أن هذه القطيعة لا تضعنا إلا بإزاء واقع مبني وفق نموذج تفسيري عقلي ؟ أو ليس الواقع الذي يسعى العلم إلى تفسيره هو مجرّد أفق يفترض مسار موضعة متجدد ومفتوح ؟
واضح أن رهان هذا الإشكال هو رهان ابستمولوجي يتعلّق بمرجع الخطاب العلمي ومعرفة ما إذا كان هذا الأخير يستنفذ حقيقة الواقع أم أنّه لا يكشف إلا عن مستوى معين منه .
كما يمكن هنا التقدم بصيغتين مختلفتين عن المقدمة التي يمكن بناؤها لمقال يتعلّق بالموضوع التالي :
الموضوع : " الحق لا يتأسس على القوة ومع ذلك يبقى في حاجة إليها "- ما رأيك ؟
q مقترح أول :
يعتبر السفسطائي كاليكلاس في محاورة الغورجياس أن القوة هي قيمة إنسانية - مقياس .
وأن القانون الّذي تعتمده المجتمعات البشريُة هو من سن الضعفاء، وان الحق ليس هو ذاك الّذي تسنه القوانين بل ذاك الّذي يتأسس على القوة.
على نقيض هذا الموقف يؤكد أفلاطون على أن تحقيق الفضيلة داخل المدينة يمرّ عبر التمييز بين الحق والقوة، و يتأسس الحق على مبدأ مخالف للقوة وهو فكرة الخير وهو ما يكشف عن إشكال في العلاقة بين الحق والقوة :
فهل تمثّل القوّة أساس الحق أم أنها مجرّد سند له ؟ وإذا كان الحق لا يردّ إلى القوة لأنه يقوم على نظام ثابت ويتصف بالإطلاقية والكلية في حين أن القوة تقوم على علاقات متغيرة وظرفيّة فهل يعني ذلك أن القوّة لا تجمعها بالحق أيّة صلة ؟ أم أن الحق يبقى مجرّد مطلب خيالي ، ألا يكون استعمال القوة في هذه الحالة محفوفا بإمكانية الانزلاق في العنف ؟
إن ما هو محلّ نظر في هذا الموضوع إنّما هو التأمل في ما إذا كان قدر العلاقات البشريّة أن تظلّ قائمة على صراع القوى حيث تكون الغلبة للأقوى أم أن هناك حظوظا لانتصار الحق في دلالته الأصليّة و الكونيّة ؟
q مقترح ثان :
يكشف النظر في العلاقات بين الذوات وبين الجنسين و بين الطبقات الاجتماعيّة وبين العروق وبين الأمم ... عن مشهد الحضور المكثّف للقوّة وعن تأرجح وتقلب مستمر لموازين القوى أثناء الصّراع وكلّما كانت الغلبة لطرف الاّ ولاحظنا لجوءه الآلي إلى تقنين غلبته والتشريع لها وتبريرها على أنها حق حتى أنه ندر أن تجد القوي يجاهر باستناده إلى القوة المحض و كأنه بذلك يكشف بنوع من المفارقة عن الضعف التكويني الملازم للقوّة و الذي يجعلها باستمرار تبحث لنفسها عن سند وتبرير تتلحّف به ويكشف هذا عن قدر من الغموض والتوتر يبعث على التساؤل عن طبيعة العلاقة بين الحق والقوة :
فهل يتأسس الحق علّى القوة وهل من المشروع أن نتكلم عن حق الأقوى ؟ أم أن القوة لا تمثل إلا وسيلة تضمن بقاء الحق ساري المفعول ؟
وهل أن الحق يلجأ ضرورة إلى القوة للحفاظ على بقائه وضمان عدم انتهاكه أم يبقى اللجوء إلى القوة مزلقا ممكنا لاستعمالها بصفة غير شرعية ؟
إن ما هو في ميزان التفكير انّما هو النظر في الحظوظ القائمة أمام تحقق مجتمع إنساني لا تكون العلاقات فيه قائمة على منطق القوة بل قائمة على تواصل حقيقي يُصان فيه الحق وينتصر فيه على المصالح .
ملاحظة:
يمكن الرجوع إلى عينات أخرى عن كيفية بناء مقدمة لمقال فلسفي ضمن المقالين الكاملين الواردين في نهاية هذه الوثيقة.
التعريف:
يتطلب بناء مقدمة لمقال فلسفي وتحريرها تمثلا لوظائفها نذكر منها بالخصوص :
- إبراز دواعي طرح المشكل الفلسفي الذي يتعلق به الموضوع مثل رصد تناقض ، أو رصد مفارقة أو مساءلة رأي شائع ، وهذا ما يمثل على وجه التحديد وظيفة "التمهيد".
- صياغة الإشكالية صياغة تساؤلية متدرجة تتمحور حول نواة الإحراج الأساسية التي يحيل إليها نص الموضوع وتكون هذه الصياغة متدرجة توحي بمسار التفكير في الموضوع المطروح دون أن تكشف مسبقا عن الحل الذي يتجه إليه التفكير والمقدمة برغم كونها تتقدم المقال فإن تحريرها لا يكون إلاّ في نهاية "عمل تحضيري " يمكن من إضاءة الموضوع في مختلف أبعاده .
ونقترح في هذا المقام عرضا موجزا لمهام " العمل التحضيري " الذي يسبق ويشرط منطقيا تحرير المقدمة وذلك اختلافيا حسب نوعية الموضوع المطروح : موضوع في صيغة سؤال ، أو موضوع يتعلق بتحليل نص
1- العمل التحضيري الخاص بالموضوع الإنشائي :
أ ) تحديد دلالة الموضوع من خلال تحديد سياقي للمفاهيم الواردة فيه ( لمزيد من التفاصيل انظر المهمة المتعلقة " بالانتقال من الكلمة إلى المفهوم " ).
ب ) دراسة المجال ( أو المجالات ) التي يتعلق بها الموضوع .
ج ) الكشف عن المسلمات الضمنية لصيغة الموضوع والنظر في تبعاتها.
د ) استحضار المادة المعرفية التي تقتضيها معالجة الموضوع استحضارا وظيفيا.
ه ) صياغة الإشكالية التي يحيل إليها التفكير في نص الموضوع وتعيين رهان التفكير فيها.
و ) استخلاص تصميم عام للمقال يكون متمفصلا حسب تدرج متماسك .
2 - عناصر العمل التحضيري بالنسبة للموضوع المتعلق بتحليل نص فلسفي :
أ ) رصد المفاهيم الفلسفية الواردة في النص و إعادة بناء الشبكة المفهومية مع الالتزام بسياق النص التزاما
صارما.
ب ) دراسة تحليلية مفصلة للوحدات المنطقية لمسار الحجاج في النص .
ج ) استخلاص الأطروحة الأساسية التي يدعمها الكاتب في النص وتعيين مرمى الدحض الذي يقوم به الكاتب ( الأطروحة المقابلة مثلا ) عند الاقتضاء.
د ) استخراج المسلمات الضمنية ( أو الصريحة ) التي يفترضها موقف الكاتب في النص . النظر في تبعات أطروحة الكاتب ( تبعات نظرية - تبعات عملية...)، الأمر الذي يساعد على عملية التفطن إلى رهان التفكير في المسألة التي يتعلق بها النص .
ه ) تقويم النص من خلال :
- الكشف عن مكاسبه الفلّسفية وتثمينها.
- محاورة نقدية للنص ( لمزيد من التفاصيل انظر مهمة " القدرة على التقويم ".
و ) صياغة الإشكالية صياغة مركزة حول نواة الإحراج الأساسية التي يحيل إليها النص . يحرص على أن تكون هذه الصياغة متدرجة ومتضمنة لأسئلة تحيل إلى النص تحليلا وتقويما .
ز ) استخلاص تصميم عام للمقال تكون عناصره متدرجة و متمفصلة منطقيا.
الهدف:
أن يصبح المتعلم قادرا على :
- بناء مقدمة وجيهة فلسفيا.
- تفادي مزالق من قبيل صياغة إشكالية لا تتلائم مع المطلوب في صيغة الموضوع ، أو تقديم مقال مبتور (بدون مقدمة حقيقية) أو السقوط في عرض سلسلة من الأسئلة لا رابط منطقي بينها.
التطبيق:
في ما يلي عينة أولى عن كيفية صياغة مقدمة لموضوع إنشائي استنادا إلى عمل تحضيري سابق لها زمنيا ومنطقيا :
الموضوع المقترح: على أي معنى يجب أن تحمل عبارة " واقع " حتى يصدق القول: " لا ينطلق العلم من
الواقع بل يذهب إليه " ؟
العمل التحضيري:
1 - رصد دلالة الموضوع من خلال الوقوف على دلالة الأطروحة المتضمنة فيه ، ثم تحديد المطلوب في السؤال المرافق لها:
- بخصوص دلالة السؤال الموجه فإن ما يشد الانتباه هو الصيغة : - " على أي معنى... " التي تفيد تعددا فعليا لمعنى عبارة " واقع " مما يستوجب تحديد معنى الواقع الذي يلائم سياق القول الوارد في الموضوع ، كما أن عبارة : " حتى يستقيم القول "... تشد بدورها الانتباه إذ يظهر في هذا ما يفيد أنه بدون معنى محدد لعبارة "واقع " يفقد هذا القول وجاهته أو ينقلب إلى نوع من التناقض .
- أما بخصوص الأطروحة ذاتها فإن أول ما يشدّ الانتباه فيها هو كلمة " العلم " التي وان وردت في صيغة معرّفة بالألف و اللام، فإنها لا تفيد العلم بإطلاق بل العلم الحديث وتحديدا العلوم التي لها صلة " بالواقع " كعلوم الطبيعة أو علوم الإنسان دون العلوم الصورية التي لا ارتباط لها " بالواقع ".
ثم إن كلمة " واقع "، التي يفترض السؤال أن لها عدة دلالات - الأمر الذي يقتضي ضبط الدلالة المفيدة والمناسبة للسياق دون سواها - فإنها تستوجب التمييز بين الواقع المعطى مباشرة في الإدراك الحسي أي الواقع كما تتمثلّه النظرة الواقعية الساذجة أو كما تفترضه بعض المواقف الفلسفية مثل الأمبريقية من جهة و من جهة أخرى الواقع العلمي أو الموضوع العلمي وهو موضوع مبني متولد عن تمشّ علمي قائم على عدّة إجراءات تتمثل في عزل الظاهرة وتنقيتها عن الشوائب غير المفيدة وتكميمها و إعادة بنائها وفق شبكة من المفاهيم العلمية التي تسمح بتحويل الظّاهرة إلى علاقة منتظمة قابلة للتكرار وفق عبارة الابستيمولوجي ج .أولمو و صياغتها صياغة رياضية في قالب قانون علمي .
وتبعا لما ذكرنا ندرك أن القول لا يستقيم معناه إلا باعتبار أن " الواقع " الذي يسعى العلم إلى الكشف عنه ليس منطلقا بل هو مطلب ، إنه اللا مرئي الذي يجعل المرئي مفهوما.
2 - رصد مجالات الموضوع التي تكون فيها لعبارة " الواقع " دلالة مفيدة ووجيهة:
بين أن الأمر يتعلق بعلوم الطبيعة وعلوم الإنسان دون العلوم الصورية بحكم عدم انشغال العقل في العلوم الصورية بالوقائع وحرصه فقط على ضمان الانسجام المنطقي لاستدلالاته داخل منظومة معينة. وتوضيحا لذلك لننظر كيف يبنى الواقع أو الموضوع العلمي في الفيزياء مثلا :
يمكن هنا إستحضار دراسة تورتشلّي و باسكال لظاهرة الضغط الجوي : يتعلق الأمر بالكشف عن علاقة تتمثل في التناسب العكسي بين كثافة السائل ودرجة ارتفاعه في الأنبوب المخبري بعد إحداث الخلاء فيه . وتتمثل عبقرية تورتشلّي في أنه تخيل أنبوبا لا مرئيا يحتوي على الهواء الذي يتوازن مع كميّة الماء أو الزئبق في الأنبوب ( المخبري ). فهذا " الانبرب الهوائي " ليس مرئيا بل هو مفترض و أيّدت التجربة وجوده ، إذ توقف الزئبق في ارتفاع دون ارتفاع الماء بنسبة هي نسبة كثافة الزئبق لكثافة الماء.
إن كمية الماء التي تتوازن مع الهواء ترتفع إلى مستوى 10.33 م في حين أن كمية الزئبق التي تتوازن مع الهواء ترتفع إلى مستوى 76 صم فقط ويرجع الفارق في درجة الارتفاع هذه إلى أن الزئبق أكثر كثافة من الماء بمقدار هو نفس المقدار الموجود في الفارق بنسبة هي نفسها نسبة ارتفاع الماء لارتفاع الزئبق .
وبخصوص علوم الإنسان يمكن استحضار مثال يهم بناء العقل العلمي لموضوعاته : يتجلى ذلك بوضوح مثلا عند فرويد في إنشائه لمفهوم " اللاوعي " في تفسيره للوقائع النفسية أو في دراسة ك .لفي ستراوس لبنية نظام القرابة ضمن مؤلفه : " البنى الأولية للقرابة ".
3- الكشف عن المسلمات الضمنية للقول وبيان تبعاته:
أ- المسلمات الضمنية:
- يفترض القول تعدد دلالات عبارة " واقع "، منبها إلى أن الواقع الذي يعتقد عادة أن العلم ينطلق منه ليس ما يعتبره التصور الامبريقي واقعا، فهذا الواقع الامبريقي ليس سوى وهم وسقوط في المعرفة الظنية. إن الواقع الذي يسعى العلم إلى الكشف عنه ليس واقعا معطى وجاهزا بل يستوجب الكشف عنه جملة إجراءات تتمثل في ما تلمح إليه العبارة المجازية "يذهب إليه ".
- إن التقابل بين " الانطلاق " ... و " الذهاب إلى ..." يفيد ضمنيا تسليما بقطيعة بين معرفتين مختلفتين إحداهما تنطلق مما تتوهم أنه الواقع ، ألا وهو الواقع المدرك حسيا.
- وهذه هي المعرفة الظنية - والأخرى تذهب نحو الواقع فهي تنشئه وتبنيه ، بحيث تكشف عن نظامه المتخفي وهذا شأن المعرفة العلمية.
- كما تفترض صيغة الموضوع أن الواقع معقد لذلك استوجب " الذهاب نحوه " ومعاودة الذهاب ، بحيث لا تكون نظرياتنا إلا مقاربات : فالعلم يذهب إلى الواقع ولا يصل إليه .
ب - التبعات:
يترتب عن الأطروحة الواردة في صيغة الموضوع جملة من التبعات أهمّها:
- أن الواقع العلمي واقع اصطناعي مبني لا واقع خام .
- أن النظريات العلمية نظريات نسبية بحاجة لأن تعدّل وتصحّح باستمرار.
- أن للعلم وظيفة تحريرية تتمثل في تحرير الإنسان من الأوهام وفي جعله يفهم آلية تشكّل الوهم نفسه ( مثلا : وهم مركزية الأرض ، وهم ثبات الأنواع الحية، الوهم الإيديولوجي الخ )
- أن للعلم مزاعم أنطولوجية، مادام يطمح فيما وراء الوهم أو الظن إلى الكشف عن حقيقة الواقع .
- ما يبدو الأكثر بعدا عن الواقع العيني أي النظريّة العلمية المجردة هو الأكثر واقعية وعينية.
4 - استحضار المرجعيات العلمية و الفلسفية التي يمكن توظيفها في مقاربة المشكل الذي يطرحه
الموضوع:
أ- بخصوص تحليل الأطروحة :
عندما يتعلق الأمر بتوضيح معنى القول "بالانطلاق من الواقع " يمكن استحضار أفق المنظور الواقعي الساذج والمنظور الامبريقي الذي يختزل الواقع في وجهه المدرك حسيا، وهذا ما نجد صداه في الفيزياء الأرسطية التي مثّلت تنظيرا يجد سنده في تصور للواقع هو" التصور الذي توحي به التجربة الحسية في بعدها الكيفي و النفعي .
وفي مقابل ذلك يبرز أفق المقاربة الابستمولوجية الباشلارية لتحليل مفهوم " الواقع العلمي " وهو منظور يقوم على تمثل للواقع بما هو منشأ ومبني مفهوميا ورياضيا وتقنيا، وليس بما هو الواقع المدرك حسيا مما يستلزم تحليلا نفسيا للمعرفة العلمية يرصد " العوائق الإبستمولوجية ويقطع معها كشرط ضروري لإنتاج خطاب علمي .
وفي درجة ثانية من الواقعية نجد أنه داخل العلم الكلاسيكي النيوطوني كان العلماء يتصورون أن الكشف عن البنية الواقعية يجبر الواقع على أن يبوح بسره ، في حين وقع العدول عن هذا التصور في الفيزياء الكوانطية حيث ، أصبح مفهوم الواقع غير قابل للفصل عن النموذج التفسيري المعتمد في كشفه .
ب - بخصوص تقويم الأطروحة :
ما يمكن تثمينه في الأطروحة :
- تثمين مفهوم " الواقع العلمي " وما يمثله من تخليص للإنسان من أوهامه وظنونه المتولدة عن اختزاله للواقع العيني في الواقع الحسي ، وما يمثله كل ذلك من مشروع معقولية يراهن فيها العقل ضد كل ظلامية على إمكانية إقحام كل واقع في لعبة الحقيقة والخطأ بغاية الكشف عن المعقولية المتخفية لتلك الظاهرة، واستبعاد اللامعقول .
- يفترض هذا الموقف من الواقع العلمي دورا نشيطا للعقل في بناء موضوعاته من خلال ابتكاره لنماذج تفسيرية، وتصحيحها في ضوء ما يقوم به من تحقيق تجريبي ، مما يستوجب إعتبار مفاهيم العمل و مبادئه منفتحة وقابلة بصورة مستمرة للتعديل وإعادة الصهر.
إذا كان العلم فعالا في استبعاد الأوهام و الظنون فلا ينبغي أن يصبح هو بدوره مصدر أوهام كأن يزعم أنه يستوفي لوحده كل جوانب العقل البشري ، فالمعقولية لا يمكن أن تختزل في المعقولية العلمية بل كل الأنشطة البشرية على اختلافها لها معقوليتها الخاصة، لذلك أمكن الحديث اليوم عن معقولية تقنية ومعقولية أخلاقية، الخ.
المحاورة النقديّّة للأطروحة :
وذلك عبر مراجعة المزاعم الانطولوجية للقول العلمي : يمكن في هذا الصدد الاستفادة من مقال لبول ريكور وارد في الموسوعة العالمية Encyclopedia Universalis تحت عنوان " الأنطولوجيا " خاصة في ما يتصل بتمييزه بين مستويات من " الواقع " كما يمكن الرجوع إلى كتاب " المصادفة و الضرورة " لجاك مونو وذلك خاصة لإبراز تبعات " مبدأ الموضوعية " في العلم على علاقة الإنسان المعيشة بالعالم والمتمثلة في انهيار " الحلف الإحيائي " القديم مع الطبيعة وما خلّفه ذلك من " انتهاء افتتان الإنسان بالعالم " وشعور الإنسان بالقلق و الضياع . يمكن التعمق نقديا كذلك في هذه التبعات بالرجوع إلى كتاب :" التحالف الجديد " لإليا بريغوجين و إيزبال ستانغارس .
صياغة الإشكاليّة وإبراز رهان ا لتفكير فيها :
الإشكالية: ما هو مرجع الخطاب العلمي ؟ هل هو الواقع المعطى في الإدراك الحسي المباشر أم هو واقع مبني
من صنع العقل العلمي وإجراءاته النظريّة والتقنيّة ؟ وأية قيمة ابستمولوجية و انطولوجية يكتسيها
تثوير العلم الحديث لنظرتنا للواقع ؟
الرّهان: إن ما هو في ميزان التفكير هنا إنما هو طبيعة مرجع الخطاب العلمي ومدى قيمة المزاعم الأنطولوجية
لهذا الخطاب ، ومدى أحقيته تبعا لذلك باحتكار مطلب الحقيقة وانعكاس ذلك آخر المطاف على علاقة
الإنسان بالعالم .
في ضوء هذه العناصر التي يكشف عنها " العمل التحضيري " يمكن التقدّم بهذا المقترح حول كيفية بناء مقدمة للمقال المتعلّق بالموضوع المذكور.
المقترح الأول :
تكفي معاينة بعض الأشرطة الوثائقيّة التلفزية المتعلقة بتبسيط بعض النظريات العلمية، مثل تلك المتعلقة بالبنية الميكروفيزيائية للذرة، أو بتركيبة الخلية الحية أو بكيفية اشتغال النظام الغددي أو البرنامج الوراثي الخ ... ليكتشف الإنسان العامي عالما غريبا عن عالم ادراكاته الحسية المعهودة، وتزيد اللّغة المفهوميّة والرمزية للعلم في تعقيد الأمور عليه إلى حد يجعله يشعر بالهوة السحيقة الّتي أصبحت تفصل " المدينة العلمية " عن " المدينة الاجتماعية ".
ويعبر أحد الابستمولوجيين عن هذا الشعور المفارقي بقوله : " لا ينطلق العلم من الواقع بل يذهب إليه ." فما هو مرجع الخطاب العلمي ؟ هل هو الواقع المعطى في الإدراك الحسي المباشر أم هو واقع مبني من صنع العقل العلمي وإجراءاته النظريّة والتقنية ؟
وأية قيمة ابستمولوجية و انطولوجية يكتسبها تثوير العلم الحديث لنظرتنا للواقع ؟
إن ما هو في ميزان التفكير هنا إنما هو طبيعة مرجع الخطاب العلمي ومدى قيمه المزاعم الانطولوجية لهذا الخطاب ، ومدى أحقيته تبعا لذلك باحتكار مطلب الحقيقة وانعكاسات ذلك آخر المطاف على علاقة الإنسان بالعالم .
المقترح الثاني :
ساد الاعتقاد لدى علماء الفيزياء الكلاسيكية أن العقل قادر على السيطرة على الواقع الأمر الّذي يكشف عن تطابق تام بين العقل والواقع . إلاّ أن الأزمة الّتي شهدها النموذج الفيزيائي الكلاسيكي في نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن جعلت مراجعة هذا التصور أمرا ضروريا.
فالواقع الذي يحيل إليه الخطاب العلمي لم يعد ذلك الواقع الموضوعي الذي له كيان مستقل عن الذات كما اعتقد العلماء الكلاسيكيون بل هو واقع يفترض نموذجا تفسيريا في بناء العقل العلمي وإنشائه . عن هذا التحول يعبّر بعضهم قائلا : " لا ينطلق العلم من الواقع بل يذهب ، إليه
هذه الوضعية الجديدة تفرض إشكالا يمكن صياغته على النحو التالي:
إذا كان من البديهي أن العلم يعتبر الواقع الحسّي عائقا ابستيمولوجيا وأن " الأبعد عن الواقع " في الظاهر هو الأكثر واقعية، و إذا كان هناك اتفاق بخصوص الطابع المبني للواقع العلمي فان هذا الاتفاق يصبح إشكاليا عندما نسعى إلى تحديد طبيعة مرجع الخطاب العلمي :
فهل أن إحداث قطيعة ابستمولوجية مع الواقع المعطى في ، الإدراك الحسي يسمح بأن نمسك بالواقع ذاته كواقع أنطولوجي أم أن هذه القطيعة لا تضعنا إلا بإزاء واقع مبني وفق نموذج تفسيري عقلي ؟ أو ليس الواقع الذي يسعى العلم إلى تفسيره هو مجرّد أفق يفترض مسار موضعة متجدد ومفتوح ؟
واضح أن رهان هذا الإشكال هو رهان ابستمولوجي يتعلّق بمرجع الخطاب العلمي ومعرفة ما إذا كان هذا الأخير يستنفذ حقيقة الواقع أم أنّه لا يكشف إلا عن مستوى معين منه .
كما يمكن هنا التقدم بصيغتين مختلفتين عن المقدمة التي يمكن بناؤها لمقال يتعلّق بالموضوع التالي :
الموضوع : " الحق لا يتأسس على القوة ومع ذلك يبقى في حاجة إليها "- ما رأيك ؟
q مقترح أول :
يعتبر السفسطائي كاليكلاس في محاورة الغورجياس أن القوة هي قيمة إنسانية - مقياس .
وأن القانون الّذي تعتمده المجتمعات البشريُة هو من سن الضعفاء، وان الحق ليس هو ذاك الّذي تسنه القوانين بل ذاك الّذي يتأسس على القوة.
على نقيض هذا الموقف يؤكد أفلاطون على أن تحقيق الفضيلة داخل المدينة يمرّ عبر التمييز بين الحق والقوة، و يتأسس الحق على مبدأ مخالف للقوة وهو فكرة الخير وهو ما يكشف عن إشكال في العلاقة بين الحق والقوة :
فهل تمثّل القوّة أساس الحق أم أنها مجرّد سند له ؟ وإذا كان الحق لا يردّ إلى القوة لأنه يقوم على نظام ثابت ويتصف بالإطلاقية والكلية في حين أن القوة تقوم على علاقات متغيرة وظرفيّة فهل يعني ذلك أن القوّة لا تجمعها بالحق أيّة صلة ؟ أم أن الحق يبقى مجرّد مطلب خيالي ، ألا يكون استعمال القوة في هذه الحالة محفوفا بإمكانية الانزلاق في العنف ؟
إن ما هو محلّ نظر في هذا الموضوع إنّما هو التأمل في ما إذا كان قدر العلاقات البشريّة أن تظلّ قائمة على صراع القوى حيث تكون الغلبة للأقوى أم أن هناك حظوظا لانتصار الحق في دلالته الأصليّة و الكونيّة ؟
q مقترح ثان :
يكشف النظر في العلاقات بين الذوات وبين الجنسين و بين الطبقات الاجتماعيّة وبين العروق وبين الأمم ... عن مشهد الحضور المكثّف للقوّة وعن تأرجح وتقلب مستمر لموازين القوى أثناء الصّراع وكلّما كانت الغلبة لطرف الاّ ولاحظنا لجوءه الآلي إلى تقنين غلبته والتشريع لها وتبريرها على أنها حق حتى أنه ندر أن تجد القوي يجاهر باستناده إلى القوة المحض و كأنه بذلك يكشف بنوع من المفارقة عن الضعف التكويني الملازم للقوّة و الذي يجعلها باستمرار تبحث لنفسها عن سند وتبرير تتلحّف به ويكشف هذا عن قدر من الغموض والتوتر يبعث على التساؤل عن طبيعة العلاقة بين الحق والقوة :
فهل يتأسس الحق علّى القوة وهل من المشروع أن نتكلم عن حق الأقوى ؟ أم أن القوة لا تمثل إلا وسيلة تضمن بقاء الحق ساري المفعول ؟
وهل أن الحق يلجأ ضرورة إلى القوة للحفاظ على بقائه وضمان عدم انتهاكه أم يبقى اللجوء إلى القوة مزلقا ممكنا لاستعمالها بصفة غير شرعية ؟
إن ما هو في ميزان التفكير انّما هو النظر في الحظوظ القائمة أمام تحقق مجتمع إنساني لا تكون العلاقات فيه قائمة على منطق القوة بل قائمة على تواصل حقيقي يُصان فيه الحق وينتصر فيه على المصالح .
ملاحظة:
يمكن الرجوع إلى عينات أخرى عن كيفية بناء مقدمة لمقال فلسفي ضمن المقالين الكاملين الواردين في نهاية هذه الوثيقة.
مواضيع مماثلة
» القدرة على بناء خاتمة لمقال فلسفي وتحريرها
» القدرة على بناء حكم
» مقدمة ابن خلدون
» مقدمة الى العقائد الكونية الإسلامية
» تدريب على تحليل موضوع فلسفي
» القدرة على بناء حكم
» مقدمة ابن خلدون
» مقدمة الى العقائد الكونية الإسلامية
» تدريب على تحليل موضوع فلسفي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
2nd يونيو 2013, 05:24 من طرف nadhem
» إلى أين تسعى ياجلجامش؟
27th سبتمبر 2012, 01:21 من طرف احمد حرشاني
» لست أدري! لست أدري!
27th سبتمبر 2012, 01:14 من طرف احمد حرشاني
» تلخيص مسالة الخصوصية والكونية
5th ديسمبر 2011, 01:04 من طرف احمد حرشاني
» شواهد فلسفية: الانية والغيرية
5th ديسمبر 2011, 01:03 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية اللغة
5th ديسمبر 2011, 01:02 من طرف احمد حرشاني
» شواهد :الانظمة الرمزية المقدس /الأسطورة
5th ديسمبر 2011, 00:57 من طرف احمد حرشاني
» شواهد من اقوال الفلاسفة عن الصورة
5th ديسمبر 2011, 00:53 من طرف احمد حرشاني